العولمة والهوية الثقافية.. قراءة في كتاب صلاح السروي


محمد دوير
الحوار المتمدن - العدد: 7854 - 2024 / 1 / 12 - 22:12
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

عن منشورات الربيع للنشر والتوزيع بالقاهرة صدر عام 2023 كتاب الأكاديمي والمفكر المصري الدكتور صلاح السروي " مدارات عاصفة: العولمة والهوية الثقافية" في محاولة للكشف عن تشريح الشخصية المصرية في عمليات التوالد التاريخي لها ابتداء من قاعدة هرم التاريخ في مصر القديمة وحتى ما بعد الثورة المصرية في 2011. وعلى مدار تلك الرحلة الفكرية والدراسة التحليلية والبحث التاريخي يطوف بنا المؤلف فوق موانئ التاريخ المصري الذي يبدو أنه لم يزل ينبض في وجدان كل مصري معاصر، حاملا في ثنايا عقله الجمعي ذلك التراكم الحضاري شديد الصلة بطبيعة المكان وشروط الجغرافيا وتسلسل رقائقها الحضارية وتحولات التشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية التي جعل منها عنوانا معرفيا لفهم واستيعاب تلك الشخصية المصرية التي كانت وستظل إحدى علامات التاريخ الإنساني عبر كل العصور.

في البداية نود أن نتوقف قليلا أمام الكاتب وعنوانه، فالكاتب أكاديمي مصري، متخصص في الدرس النقدي، وهي علامة تصبغ صاحبها بجلبة الفحص والتدقيق والمقارنة، مما يساعد القارئ على الاقتراب من الإمساك بلحظات التضاد والتناقض بين أبواب التاريخ وصفحاته، وتصريحات المعني وتلميحاته، وألغاز الحوادث وتأثيراتها. بيد أن الأثر الفكري والأدبي للكاتب يزداد حضورا إذا كان من أصحاب الرؤية والموقف، رؤية للحياة وموقف من الواقع. وهذا هو أهم ما يتسم به الدكتور صلاح السروي بلا شك. حيث يحمل قلمه سمتين هامتين، هما تخصصية المنهج، وعلمية التحليل. وهذا ما سنكشف عنه في سياق تناولنا لموضوعات كتابه.
أما عن عنوان الكتاب، فإنه يحمل مستويين، الأول: مدارات عاصفة، والمدار كما أفهمه من سياق متن الكتاب، يعني ذلك المسار القادر على الدوران حول الظاهرة دورة كاملة مرة أو عدة مرات، بحيث تصبح العلاقة بينه وبين الظاهرة ذات طبيعة جبرية، كما تدور الأرض حول الشمس بشكل منتظم وضروري. وأن كانت الأرض هي المدار فالشمس هي المركز، وفي العنوان الفرعي" العولمة والهوية الثقافية" يتكشف عنصري المدار، فربما قصد المؤلف أن العولمة هي المدار الذي يدور حول الهوية الثقافية أو العكس. ما يهمنا هنا هو أن الدكتور صلاح وضع العولمة بما تمثله في تيارات فكرية وثقافية وسياسية عاصفة تقتلع كل ما حولها لتفتح لنفسها مدارات أحيانا قسرية وأحيانا طواعية، وضعها في سياق مداري حول الهوية الثقافية- المصرية على وجه التحديد – من أجل دراسة طبيعة تلك الحركة وسرعتها واتجاهاتها، في محاولة تحليلية أشبه بما يقوم به علماء فيزياء الفلك في دراستهم للظواهر. هذا الأمر يعني الكثير من التفسيرات، تلك التي سنحاول تناولها في السطور التالية.

الكتاب ينقسم الي مقدمة ضافية وثلاثة فصول. جاء الفصل الأول نقاش بين العالمية والعولمة والعولمة الثقافية، في انتقال من العام إلى الخاص، ليهيئ القارئ بعد ذلك للانتقال للفصل الثاني لبحث عمليات التفاعل الثقافي في ضوء تحديات العولمة، وفيه يتناول مفهومي الثقافة والمثاقفة، وصور الهويات التي قسمها بين هويات صغري وهويات كبري. واستمرارا على ذات النهج والمنهج المتحول من الماكرو إلى الميكرو يتناول في الفصل الثالث والأخير الهوية المصرية بين الثبات والتغير.
وقد عرض في المقدمة إشكالية الكتاب ومحاور القضية التي يتناولها، فينبه القارئ بداية بأهمية التمييز بين عدة مصطلحات من أهمها العالمية والعولمة، وما الفرق بينهما، وكيفية تناولهما؟، ثم يعقد صلة أيضا بين ثقافة الصناعة وصناعة الثقافة، في صيغة ارتباط عضوي بينهما. ويبدو أنه هنا قصد أن يؤطر للمفاهيم الاساسية التي سينطلق منها في هذا الكتاب. يبقي لنا في المقدمة الجانب المنهجي، فنجده يتمسك بروح المنهج الجدلي حينما يؤكد أو يواصل الكشف عن عمليات التوالد المعرفي والأثر الفكري والثقافي العالمي في رسم ملامح الهوية والشخصية الوطنية، باعتباره نوعا من الجدل الهابط من أعلي إلى أسفل، فيما ينسج في نفس اللحظة جدلا آخرا صاعدا من الأسفل إلى الأعلى، أي من التكوينات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتشكيل بنية معرفية تحمل خصوصية هوياتية. وربما من هذا المنطلق نجده قد اشتبك، وانتقد بعض أهم النظريات العلمية التي قدمت تفسيرات متباينة لموضوعات الكتاب، كالعولمة الثقافية والمثاقفة والهوية والخصوصية.. الخ.
ويبقي السؤال.. كيف طرح الدكتور صلاح السروي رؤيته، وكيف قدم تصوراته؟ وعلى أي أسس صاغ نظريته؟ إن سؤال الأنا " الشخصية المصرية " هو جوهر هذا الكتاب الذي ألفه أحد العقول المصرية المنشغلة بالقضية الوطنية في تجلياتها المختلفة.

1- العولمة والهوية: الكل والجزء

في مقدمة الفصل الأول يطرح فكرة مهمة وهي كيف تشكلت صورة الأنا والآخر في العقل الإنساني إبان الحضارات القديمة التي كانت إلى حد ما مغلقة على نفسها؟ إن الآخر كان دائما هو الأدنى، فاليونان نظروا للأغيار بوصفهم برابرة، وبالتالي أقل منهم تحضرا، وكذلك اليهود، والعرب. الخ جاءت أيضا نظرتهم متحلقة حول أنفسهم باعتبارهم الأكثر سموا وعلوا.. وفي تقديري أن تلك النظرة الاستعلائية ظلت ماثلة حتى عصرنا الراهن، بل وسنجدها قد لعبت دورا كبيرا في تشكيل العقل الحديث.
ثم يتناول المؤلف مجموعة احداثيات معرفية، منها نشأة مفهوم العالم- أسباب ظهور العولمة- مفهوم العولمة وواقعها، ثم العولمة الثقافية والعولمة البديلة، حيث يبدأ بتقرير مفاده أن عصر الكشوف الجغرافية وتزايد حجم التجارة وبروز ظاهرة الاستعمار أسهموا في بناء مفهوم كلي عن العالم، والخروج من التصورات الضيقة التي كانت سائدة في العالم القديم، حتى تبلور مفهوم العالم بشكل ناضج في القرن التاسع عشر حينما ظهرت فكرة مركزية الغرب الرأسمالي سياسيا واقتصاديا، وحينما صار العالم كله سوقا لمنتجات الغرب. وبالتالي نشأت فكرة العالم في ظل نمط انتاج رأسمالي استعماري، ومن ثم بدأت العلاقات الدولية تنتظم منذ البداية وفق هذا البناء الجديد للعالم. وقد تعمقت تلك الروح العالمية للرأسمالية بعد الحربين العالميتين في القرن العشرين، ثم مع ظهور وزيادة نفوذ الشركات متعددة الجنسيات ليتم احكام السيطرة على المجتمعات الإنسانية داخل إطار قانوني وسياسي وثقافي واحد تقريبا.
ولعل مصطلح العولمة كان قريب الصلة تماما بمفهوم العالمية بالصورة التي عرض لها المؤلف، فيعرض للآراء التي أرخت لفكرة العولمة، فهناك من يري أنها كانت قرينة بظهور العالمية، ومن يذهب إلي أن ظهورها كان في سبعينيات القرن العشرين، ثم تأكيد البعض أن العولمة إنما تبلورت في التسعينيات من القرن المنصرم مع بدايات ظهور الثورة العلمية التكنولوجية وسيادتها وانتشارها، وخاصة حينما تزامن ظهور تلك الثورة مع انهيار الكتلة الاشتراكية، ومن ثم صرنا أمام عالم جديد تنطبق عليه مقولة العولمة أكثر من أي وقت آخر مضي.
لقد أدت تلك العولمة كما يقول المؤلف إلي انقلاب غير مسبوق في كل أركان العالم، وكل مجالات الحياة تغيرت بناء عليه أنماط التعليم والعمل والتجارة والإدارة والصناعة والسياسة والاقتصاد ...الخ وصار من المستحيل النظر إلى العالم في صيغته القديمة التي اتسمت بالعزلة الحضارية والثقافية بين الشعوب، وصدقت مقولة أن العالم أصبح قرية واحدة صغيرة.

وكان من الطبيعي أن تتأثر الثقافات الوطنية بهذه السيادة وهذا النمط الجديد، وقد أوجز المؤلف هذا التمييز بوصف مرحلة العالمية بالحداثة ومرحلة العولمة بما بعد الحداثة، وبذلك يحاول المؤلف تعريف مصطلح العولمة رغم غموضه في كثير من الأحيان وصعوبة تعريفه من خلال محاولات رصد المصطلح وتتبع مساراته المعرفية، ليصل في النهاية إلي أن ارتباك التعريفات إنما ناتج عن اختلاف زوايا الرؤية لها، ورغم ذلك يقر بأنها ظاهرة تسعي إلي التأكيد علي فكرة الهيمنة الامبريالية وتهميش الثقافات المحلية والوطنية، وهذا ما جعله ينتقل مباشرة لدراسة العولمة الثقافية التي نظر إليها بوصفها نتاج طبيعي للعولمة الاقتصادية، وفقا لثنائية العلاقة بين البنية التحية والفوقية، وإن كان التمييز بينهما ضروريا في اطار خصوصية كل منهما" الاقتصادية والثقافية"، فإذا كان الاقتصاد متجدد بحسب نمط الإنتاج فإن الثقافة في جزء مهم منها تكون متجذرة في طبيعة الشعوب، وهو ما يجعل من أمر تحولاتها الجذرية ليس مطلقا، إذ تظل الثقافة مرتبطة بالشعوب وجزءا من تشكيلها أكثر من الاقتصاد. ومن هنا تصبح العولمة الثقافية مفهوما أكثر صعوبة على صعيد التحليل من أية خاصية متعولمة أخري، وهذا هو السبب في تقديري الذي أعطي للكتاب قيمته المعرفية والفكرية الكبرى، ذلك أن المؤلف أراد أن يتشبك مع ما هو متشابك أصلا، أي مع ذلك التصور للعولمة الثقافية التي ستأتي بالضرورة مرتبطة مباشرة بتصورات أيديولوجية كل بحسب منظوره ورؤيته.

استدعي الأمر مناقشة فكرة الهوية، التي يؤكد دورها في شعور بالانتماء بالنسبة للفرد، وشعور بالاكتمال بالنسبة للجماعة، وبما تمثله مقولة أرسطو من أن الانسان حيوان اجتماعي من جسر واصل بينهما. أو من حيث مقولة لوكاتش بأن الهوية هي مرحلة الوحدة البدائية بين الفرد والجماعة. ومع التطور والحداثة ظهرت الدولة القومية كوعاء هوياتي بالأساس، وبالتالي دخلت الثقافة في صلب بناء الهوية ونسج ملامح المشروع الوطني تزامنا مع صعود البرجوازية سدة السلطة السياسية في كثير من البلدان وخاصة في فرنسا. إلا أن التطور المعاصر وضع مسألة الهوية في مرحلة خطرة، وباتت مهددة بفعل تأثيرات العولمة وما أطلق عليه "الإغراق الثقافي"، وهذا ما جعل الدكتور صلاح يعرج على منظور مضاد وهو العولمة البديلة، التي تنطلق من مقولات نظرية تؤمن بفكرة الإنسانية التعددية، أو التنوع الثقافي والاقرار بالخصوصيات الثقافية كما يري محمود أمين العالم. الأمر الذي يدعو إلى تبني مقولة حوار الحضارات بديلا عن فكرة الصدام أو استحواذ نظرية ثقافية على أخري، أو سيادة المركز على حساب الأطراف.

2- سطوة الآخر ومرآة الأنا

في الفصل الثاني" عمليات التفاعل الثقافي وتحديات العولمة" يكثف الدكتور صلاح السروي الحديث عن نشأة مقولة الشرق وتبلورها بحيث أضحت تعني معني سلبيا وتحوله إلي " الآخر" الذي ظلت الثقافة الاوربية القديمة ترسخ لدونيته، ولذلك يستعرض المؤلف عددا من النماذج التي أسهمت في بناء السياق المعرفي لمفهوم الشرق الظلامي غير المتحضر والذي يحتاج إلي استنارة العقل الأوربي، فعلي صعيد الإنتاج الادبي يرصد عددا من الأعمال الأدبية التي تناولت مفهوم الشرق وحددت سياقه الحضاري المتدني مثل روايات دانييل ديفو وجوناثان سويفت وجوزيف كونراد والشاعر الفرنسي بورنييه في ملحمته عن حفر قناة السويس والتي يرسخ فيها للروح الاستعمارية، وكذلك فيكتور هوجو الذي جسد خطابا متعاليا حينما امتدح الدور التنويري لنابليون المحتل تجاه الشرق ومصر. أما على الجانب السياسي فيعرض لموقف اللورد كرومر في تمجيده للعقل الغربي وحاجة الشرق إليه.

إن الفخر بالأنا الغربي استتبع فيما يري المؤلف درجة كبيرة من احتقار الشرق والنيل منه، بحيث أدي ذلك إلي نوع من راحة الضمير تجاه ما فعله المستعمر الأوربي بشعوب الشرق وحضارته، هذا بالإضافة إلي تعميم مقولة الشرق، فهو كتلة واحدة صماء، ولم يدرك العقل الأوربي أو هو لا يريد أن يدرك التمايز والتنوع داخل الشرق نفسه الذي يمتد من شرق البحر المتوسط وحتي شواطئ بحر الصين، وهو ما يراه المؤلف نوعا من التنميط الذي يخالف كل مبادئ المنهج العلمي التي دشنتها الثقافة الغربية نفسها عبر كثير من الفلاسفة وعلماء الميثودلوجيا.

وهنا كان من الضروري أي يستدعي المؤلف رؤية ادوارد سعيد ليحلل بها ومن خلالها ذلك الموقف الاستعلائي والاستشراقي الأوربي، فالاستشراق وفقا لسعيد يهدف بالأساس إلى الانتقاص من الشرق من خلال حصره في تصورات معينة جعلته شرقا متخيلا أكثر ما هو شرق حقيقي، بل وحصر كلمة الشرقي في العربي أو المسلم ذلك الشخص الذي يعيش في بيئة صحراوية بكل ما تحمل تلك الصفة من معان، وهذا التصور إذا كان يرسخ لفكرة دونية الشرق فإنه أيضا يسهم في إعلاء من قيمة الغربي أمام نفسه، باعتباره الأكثر تحضرا وتقدما وفكرا وعلما.

وفقا لهذا المعني بدت الصورة أكثر بؤسا، الأمر الذي دفع المؤلف لأن يعيد قراءة المشهد مرة أخري أو يعيد انتاج المقولة الفلسفية المضادة لذلك التصور السلبي عن الغرب، من خلال مناقشة فكرة العولمة وتحديات الهوية، وتأثير عالم السماوات المفتوحة على الثقافة العالمية، حيث تضاعفت قوة وتأثير المركزية الاوربية عبر ما تبثه قنواته ومؤسساته من أفكار وانماط معيشية وثقافية في العالم أجمع، بما أفضي إلى مزيد من الهيمنة الناعمة كبديل للهيمنة القديمة التي اعتمدت على قوة السلاح والسيطرة على منابع الثروات المعدنية. وكان هذا المسار الجديد الذي انطلق في التسعينيات مع فكرة صدام الحضارات ومع فكرة أخري لا تقل خطورة وهي أوهام الهويات القومية الجامعة بل ودعم الهويات الصغرى كالأثنية والعرقية والمذهبية داخل المجتمعات المتماسكة تاريخيا، هذا التناقض الرهيب الذي يهدد العالم جعل المؤلف يتوقف عنده كثيرا وربما كان هو محور الفصل الثاني، حيث يناقش بقدر من التأصيل فكرة الهوية الوطنية في علاقتها بالثقافة الوطنية، وهل بمقدورها أن تكون هي الطريق لحل أزمة هذا الصراع الحضاري وفهمه علي الطريقة الصحيحة بحيث لا تذوب الذات في الآخر بدوافع التحضر، ولا تذوب الأنا في التاريخ والتراث بحجة الهروب من سطوة المركزية الاوربية؟ تلك هي الإشكالية التي شغلت كثير من المثقفين العرب المهتمين بالقيمة الإنسانية للذات العربية والشرقية بصفة عامة.

يتناول الدكتور صلاح فكرته أيضا انطلاقا من نقد التصور الذي ملأ العالم في حينها والذي قال به فوكوياما حول نهاية التاريخ، بالحضارة الاوربية، مشيرا إلى أنها رؤية تمارس نفس مسار التنميط الذي قال به مفكرون غربيون، وبالتالي لم تأت بجديد في حقل المعرفة الإنسانية، بل سارت على نفس الدرب الاستعلائي. وفي تعقيبه علي ما ورد في نظرية فوكو ياما القديمة/ الجديدة أننا لا ندعو إلي خصومة مع العقل الغربي بل إلي الاستفادة من منجزاته العلمية والتكنولوجية، دون التفريط في هويتنا وثقافتنا القومية، ولذلك يميز هنا بين العلم بصفته حالة إنسانية واجبة علي كل الشعوب، وبين الثقافة بوصفها منتج تتلاقح فيه الخبرات والتاريخ والتجربة والخصوصية والرؤية المنبثقة عن الوعي بظروف الواقع المباشر، فلا يقع ضحية لواقع آخر نشأ في بيئة مختلفة ، وهذا التمييز هو أهم ما يقلق المؤلف في كتابه هذا، مؤكدا علي أن الثقافة هي ميدان المعركة وليس التقدم التكنولوجي أو العلمي، فالصراع وفقا للمؤلف هو صراع ثقافات لا حضارات ولا صراع حول نظريات العلم، ومن هنا تأتي أهمية مناقشة الثقافة الوطنية.

وانطلاقا من هذا التصور يتناول أولا مفهوم الثقافة بوصفها كل مركب يشتمل على عدد من الخصائص والسمات والعناصر بما يؤدي إلى بروز خاصية الوجود الإنساني لجماعة بشرية ما في موطن معين، وبما يعني ارتباط ثقافة مجتمع ما بنمط حياته اجتماعيا وثقافيا ودينيا وقيميا.. الخ، فهي إذن كما يذهب تيري ايجلتون مرتبطة الواقع المادي للمجتمع، أو هي الصورة العقلية لصور مادية وتفاعلات اجتماعية وعلاقات انتاج تحكم هذا المجتمع أو ذاك، ومن ثم فهي لصيقة التواصل بالمجتمع ولا يمكن استيراد ثقافة من خارج ذلك الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أي ترتبط بالعمل والطبيعة على حد سواء، وبالتالي فالثقافة مفهوم متحرك ولكن تحركه هذا تحكمه ضرورات وشروط، ولا يمكن اقتباسه بالكلية من خارج الذات المنتجة للوعي والفكر واللغة والدين.. الخ.

وإذا كانت الثقافة ذات علاقة مباشرة بمكونات المجتمع، فهل معني ذلك أنها تدفع للأصولية، طالما أنها ستدفع بتجاهل المحافظة على الذات من تأثيرات الأخر؟ هنا يطرح المؤلف فكرته الخصبة والمهمة التي تعتبر عنوانا مهما في ثقافتنا المعاصرة، حينما طغي موضوع الأصولية علي العقل العربي في النصف قرن الأخير، ويقصد بالأصولية هنا كل تصور معرفي ينتج عن معطي مقدس ومطلق وثابت متخطيا شرطي الزمان والمكان، مهما جاءت صورتها دينية أو عرقية أو جغرافية. وبذلك تصبح الثقافة الأصولية هنا مصدرا من مصادر الصدام مع الآخر، ومصدرا أيضا لخلق حالة شعور كاذب بالتميز عن الآخرين، عبر ممارسة غير عقلانية مفادها كما يقول المؤلف "اقتطاع مشهد من الماضي وتعتقد أنه معبر عن حقيقة الوجود". وتلك النزعة الأصولية موجودة وفاعلة في الغرب والشرق على حد سواء، بل وتمارس قدرا من الهيمنة على العقلين هنا وهناك ربما بنفس درجة السوء والسلبية. ولذلك فتأثيرها السلبي على هيئة وصورة الثقافة الوطنية والهوية الوطنية، يجعل منها ثقافة مغلقة على نفسها، وهوية مصمتة غير قابلة للتفاعل بإيجابية مع الهويات الأخرى.

ويري المؤلف علي خلاف ذلك أن كل من الثقافة والهوية الوطنيتين يشكلان كيانا كليا مركبا ومتحركا ومتعددا، بما يسمح بأن تصبح الثقافة عنصرا مضافا للفعل الحضاري التراكمي لأمة من الأمم، وبما يجعل من مقولة الهوية بيان كاشف باستمرار لكل تراكم معرفي وثقافي وتقني وعلمي لتلك الأمة. بمعني أنها معطي تاريخي اجتماعي يتشكل وفقا لمعايير ثلاثة كما يشير المؤلف، وهي قدرة المجتمع على احداث قدر من الانصهار الاجتماعي- الخبرة المتولدة عن التجارب التاريخية للجماعة البشرية- الوعي الثقافي الحاكم للجماعة أي مدي قدرتها علي تمثل منجزات العصر. وكلما كانت الهوية لديها قابلية للنقد والاستجابة لمتغيرات الواقع والمرونة كلما صارت أكثر قبولا للتجديد والتوائم مع الواقع وعدم الانزواء في مخابئ التاريخ، وهذا ما أكد عليه " علي حرب" في حديثه عن أهمية امتلاك الهويات المختلفة لكل ما يحفز على الابداع والتفكير الناقد.

ويؤكد صلاح السروي على أهمية أن ننظر في هويتنا المصرية وفقا لهذا المنظور المتحرك، الجدلي، الديناميكي. بل ويضيف أيضا فكرة تقاطعات الهوية، ويقصد منها عملية الفهم وفقا لمستويات التداخل والتحاور والتجاور بين هويات مختلفة تتواجد داخل الأمة الواحدة، فالولاء للهوية المصرية الجامعة لا يمنع وجود ولاءات أخري مثل أقلية دينية أو جماعة سياسية أو ناد رياضي..الخ، ومن ثم لا يجب أن يتقاطع العام مع الخاص ، الكلي مع الجزئي، فعملية تعايشهم معا يعني أن الشخصية القومية هنا قوية بما يسمح بأن يسير المجتمع بقدر من التوازن.

أن هذا التمييز هو ما جعل المؤلف يعيد صياغة تصوره لمفهومي الهوية الثقافية " الكبرى والصغرى"، إذ يعني بالهويات الثقافية الكبرى تلك التي تنتج عن اتحاد مجموعة التنوعات التي تفرضها الظروف الإقليمية والتاريخية على أمة من الأمم، بما يسمح لها بأن تضم تحت أجنحتها أخلاطا من الديانات والمذاهب والأعراق والطوائف، ويكون من أهم سماتها أنها قادرة على احتواء كل هذا التنوع في وحدة هوياتية كبري واحدة. أما الهويات الثقافية الصغرى فهي التي تتحلق حول عنصر واحد من تلك العناصر السالفة، كالانتماء المذهبي أو العرقي أو الإقليمي" المناطقي". وكلما كانت الهوية الكبرى متماسكة ومرنة في الآن نفسه، كلما أمكن إدارة تلك الهويات الصغرى بقدر من الضبط والانضباط المفيد للمجتمع والعكس صحيح.

وفي هذا الصدد يشير إلى أن العولمة في صورتها السلبية إنما تحاول محاربة الهويات الكبرى ودعم الهويات الصغرى، أو أن الاختناق السياسي أو الثقافي داخل مجتمع يدفع الناس لأن يهربوا داخل هوياتهم الصغرى. ولأن تلك العلاقة بين الهويات الكبرى والصغرى تعتبر مسألة جدلية ومركبة إلي حد كبير فإن المؤلف توقف قليلا ليناقش العوامل المؤثرة فيها وكيف يمكن النظر لها، فيشير إلي وجود عاملين رئيسيين هما المثاقفة والقسر الثقافي، فالمثاقفة تعني المساواة في الفاعلية والتفاعل بين جميع الثقافات والآداب المتفاعلة، فيما يعني بالقسر الثقافي تلك الحالة التي تفرض نوع من الإملاء من طرف علي طرف آخر، وفرض تصوراته العامة للقضايا والموضوعات المختلفة، وبالتالي فالمثاقفة هي ما نحتاجه لا القسر الثقافي، وما تقوم به العولمة هو ترسيخ أو فرض القسر الثقافي، وكلما كانت الأمة ضعيفة كانت أقرب إلي قبول القسر الثقافي، والعكس صحيح، كلما كانت قوية ومرنة ومتماسكة ومنفتحة علي الآخر بوعي كلما قبلت أمر التحاور مع الآخر من منظور المثاقفة أو الاستفادة من تجارب الآخرين دون الوقوع في شرك الاستنساخ الثقافي.

وكان من الضروري في ذلك أن يفصل القول في مستويات المثاقفة، فيري أنها تتضمن عدة مستويات هي 1- مستوي التمثيل، ويقصد منه القدرة علي استيعاب المنتج الثقافي الأجنبي في نسيج الثقافة الوطنية، كما حدث في الرواية والمسرح ودمجهما في ثقافتنا العربية الحديثة.2- مستوي التكيف، أي القدرة علي التعايش والتجاور، كما حدث مع الموسيقي والفنون الاوربية،3- مستوي التحصن والرفض، أي قدرة المجتمع علي رفض ومخاصمة بعض الأفكار التي لا تتفق مع ثوابته الهوياتية كالأدب الاباحي مثلا أو التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني.

أما القسر الثقافي، فإنه يؤدي إلي نتائج سلبية، من أهمها 1- تفتيت الهويات القومية، عبر تصعيد الهويات الصغرى وتشكيل وعي زائف متعارض مع حقائق التاريخ.2- الاحلال والازاحة، من خلال أدوات تعمل علي تغيير في اهتمامات الأمة، ومن خلال التكثيف الإعلامي والتربوي الذي يرسخ لقيم تجافي منطلقات الأمة الأساسية.3- خلق الحاجات الثقافية التي تعمل وفق برنامج المركز الأوربي وتوجهاته واهتماماته وكأنها اهتمامات عالمية.

ويختتم المؤلف هذا الفصل بالتأكيد على تلك العلاقة المباشرة والمؤكدة بين الهوية الوطنية والثقافة الوطنية، وإن وضع لتلك الثقافة محددات تمنعها من الاستغراق في التراث والماضي وغرف التاريخ المغلقة، وفي الوقت نفسه تمنعها من التأثر السلبي بالآخر، والاستغراق
في مقولاته ونقلها دون حاجة ماسة أو ضرورة.

3- دروس " الذات" التاريخية

ومن المفهوم النظري للهوية الثقافية إلى التطبيق العملي، يأتي الفصل الثالث الذي يناقش " الهوية المصرية بين الثبات والتغير". وكان من الضروري أن ينطلق من بحث الدراسات التي اهتمت بالبحث في جذور الهوية الوطنية المصرية، من حيث امتلاك تلك الأمة لعدد من العناصر التي جعلتها قادرة على بلورة اطارها القومي والهوياتي بحكم الكثير من العوامل المكانية والتاريخية والجغرافية، فالنيل والسهل الفيضي اللذان يحيطهما موانع جغرافية وتضاريسية طبيعية جعلت من تشكل الأمة يضرب بجذوره عبر التاريخ القديم.

وإن كانت فكرة الهوية واضحة منذ القدم فإن القومية لم تظهر إلا مؤخرا وتحديدا منذ حملة نابليون على مصر، ففي تلك اللحظة تفجر مفهوم القومية المصرية وبات واضحا، فكانت بمثابة لحظة الانطلاق لسؤال القومية المصرية، وفي هذا الصدد نجد المؤلف يستند إلى أهم المؤرخين المصريين الذين انشغلوا بتلك الظاهرة، أمثال الرافعي وجمال حمدان وصبحي وحيدة وطاهر عبد الحكيم وميلاد حنا وفوزي جرجس وأنور عبد الملك وآخرين. محاولا فهم درس الذات التاريخية من خلال الاتفاق والاختلاف معهم وطرح رؤاهم موضع البحث والقراءة والتحليل في سعيه لإنتاج تصوره عن الهوية المصرية في اتصالها بالثقافة والقومية. ومن هذا المثلث" الهوية – القومية – الثقافة" يحاول صلاح السروي الإجابة على سؤال " الأنا" في ظل أمواج الثقافة العالمية وبوابات العولمة المفتوحة على مصراعيها. فكيف عالج الأمر وكيف أجاب عن السؤال؟

انطلق السروي من دراسة اتجاهات البحث في قضية الهوية المصرية، حيث يري أن الباحثين قد انقسموا بين مُعظِم للعامل البيئي كجمال حمدان وآخرين، ومن يري التراكم الحضاري هو المفسر لدراسة الهوية المصرية، كما ذهب ميلاد حنا، أو من يذهب إلى فهم هذا الدرس التاريخي من خلال الرؤية الاجتماعية – التاريخية ومفادها أن تلك الهوية تكونت عبر مرحلتين: الأولي، مرحلة ملكية الدولة، والثانية، مرحلة ظهور الملكية الخاصة.

في البعد المكاني لدراسة الهوية يعرض لآراء العديد من المفكرين علي رأسهم رفاعه الطهطاوي الذي ربط بين اعمار مصر وحسن التصرف في مياه النيل، وإبراهيم عامر الذي وضع تصوره عن مركزية النهر ومركزية الدولة، إلا أن هذا الاتجاه وجد ضالته الكبرى في ابداع جمال حمدان في كتابه الأشهر "شخصية مصر"، فعبقرية المكان هي المفسر الأول للشخصية المصرية وكل ما لحق بها عبر التاريخ، وأن النهر هو مخطط شخصية المصري القديم والحديث، وهو المسئول عن تقارب المواطنين المصريين من حيث القيم والعادات والسلوكيات، وبالتالي خلق سبيكة حضارية تتسم بقدر كبير من التجانس، وذلك بفعل الدور الذي قام به النهر والمناخ أيضا من تأثير واضح في طبيعة السكان ومزاجهم العام، وبالتالي فالتفسير الأول والأهم عند حمدان للشخصية المصرية يرجع إلي عوامل بيئية وجغرافية.

بيد أن المؤلف يتوقف هنا معلقا على تلك النظرية حيث يري أنها تنزع إلى حد كبير إلى التفسير الآلي الميكانيكي، فيما يعتقد أن الأمر أكثر تعقيدا من هذا، فهناك التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية التي تلعب دورا مؤثرا في بناء الشخصية ورسم سماتها وخصائصها، بل ويذهب في تحليله إلي ما هو أبعد من ذلك حيث اعتبرها امتدادا للنظرية الوضعية في التاريخ المتمثلة عند كارل أوجست فدفوجل صاحب نظرية الاستبداد، وهي علي أية حال نتاج الفلسفة الوضعية التي وضعها من قبل اوجست كونت، وتقول بالدور المركزي للظروف الطبيعية في بناء الهويات. إن التصور المتعلق بالبلدان ذات النهر الواحد خلق تصورا نظريا لدي الباحثين بالمضي قدما في اعتبار مركزية النهر تلك مسئولة عن المركزية السياسية أي عن الطغيان، وهي على أية حال نظرية كان لها جمهورها الكبير على صعيد عالمي وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وينهي المؤلف حديثه هنا بأن الجغرافيا لا تحكم التاريخ، وإنما قد يتأثر التاريخ بها بدرجات ومستويات مختلفة، ولكنها تظل ليست عنصرا حاسما ووحيدا في دراسة الشخصية التاريخية ولا الهوية الثقافية في تحولاتها المختلفة.

ينتقل صلاح السروي إلى دراسة التصور الثاني، ذلك الذي يتناول موضوع الهوية من منظور التراكم الحضاري أو الرقائق الحضارية التي تميزت بها الشخصية المصرية.، كما جاءت عند ميلاد حنا في كتابه " الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" وفيها يرصد تلك الرقائق المتعاقبة منذ الدولة القديمة وحتى المرحلة العربية الإسلامية بالإضافة إلى البعد الأفريقي واتصال مصر بدول حوض النيل. ويذهب المؤلف تأكيدا لما قاله ميلاد حنا أن هذا التعاقب الحضاري أكسب الشخصية المصرية ابعادا ثقافية ساهمت في تشكيل سبيكة حضارية مميزة. وقد اتسمت تلك الرقائق بالتواصل الحضاري والتكامل التاريخي، وسمح لمصرين بالقدرة على قبول الآخر. وان كان المؤلف – وهو علي حق - يعقب في النهاية على أن تجربة ميلاد حنا تلك رغم أهميتها إلا أنها اتسمت بالطابع الصحفي في الكتابة، والرد على مشكلات معاصرة متعلقة بالعلاقة بين عنصري الأمة، بمعني أن قيمة هذا الكتاب إنما برز فيها عامل التسامح أكثر من أي قيمة أخري، وهي على أية حالة توجه محمود من قبل ميلاد حنا.

وإن كان المؤلف يخرج بنتيجة على قدر من الأهمية وهي أن تتبع الرقائق الحضارية بشكل تاريخي وتعاقبي ليس عملا كافيا في دراسة الشخصية المصرية بل ينبغي أيضا أن نعرج على التحولات الاجتماعية وتأثيرها وتأثرها بالواقع السياسي والثقافي والاقتصادي، وذلك على اعتبار أن الوجود الاجتماعي التاريخي هو المسئول بدرجة كبيرة عن تشكيل الوعي المصري. وهذا ما وجده المؤلف ماثلا لدي المفكر المصري طاهر عبد الحكيم، الذي استبق ميلاد حنا بطرح فكرة الرقائق الحضارية عندما تناولها في كتابه الهام " الشخصية المصرية الوطنية: قراءة جديدة لتاريخ مصر" وربما أيضا نجده قد تناول فكرة المكان كعنصر من عناصر دراسة الشخصية المصرية، وبذلك تجتمع في نظرية عبد الحكيم أهم الرؤي التي تناولت المسألة المصرية.

إن أهم ما تناوله طاهر عبد الحكيم هو ترجيحه لنمط الإنتاج السائد كعنصر حاسم في فهم وتفسير وتحليل التاريخ المصري. إن طبيعة الملكية وخريطة المستفيدين وصور الاستفادة وطبيعة العلاقة بين الملاك والمستأجرين هي التي تحدد مسارات التاريخ المصري وما يترتب على تلك الطبيعة من تشكيل الوعي المصري. ومن هنا يقسم عبد الحكيم التاريخ المصري إلي مرحلتين: الأولي، تلك التي يمكن وصفها بمرحلة نمط الإنتاج الأسيوي، التي تمتد منذ العصر الكيميتي وحتى مشارف العصر الحديث، حيث الأرض والمياه والشعب ملكا للحاكم، في ظل غياب كل صور الملكية لأفراد الشعب. وقد شهدت تلك المرحلة الطويلة جدا حالات تعبر عن وجود نمط اقطاعي في بعض مراحل التاريخ المصري وخاصة الحقبة الإسلامية، حيث استحدث النظام الاقطاعي في عصر الدولة الأيوبية، ولكنه سرعان ما اختفي، لتعود الفكرة الأساسية إلي سابق عهدها من جديد، وهي علي وجه التحديد ظهور ما يسمي بالمشترك القرو، أي اشترك كل القرية في دفع الضرائب والخراج وصيانة المرافق، فيما سمي بالعبودية المعممة. ويشير المؤلف إلي أن تلك السمات كانت هي الغالبة على حضارة المصريين القدماء، حتى عندما دخلتها المسيحية والإسلام لم يتغير من الوضع كثيرا، بل سنجد أن تلك الحضارة الطاغية والمتجذرة استطاعت أن تترك أثارها الحضارية على هاتين الديانتين عندما دخلا مصر. وهو ما يضحد القول بأن مصر إنما انسلخت عن حضارتها بعد دخولها مرحلة الأديان السماوية. فالفلاح المصري القديم ظل على حاله يمارس نفس الطقوس وطرق الحياة على مدار تاريخه.

وفي تلك المرحلة الطويلة إذن كان حضور الدولة قويا وحاسما ومؤثرا، في ظل غياب للمكية الخاصة. ومن هذا المنطلق يمكننا فهم نظرية أو مقولة الاستبداد الشرقي باعتباره نمطا سياسيا واقتصاديا خضع لشروط موضوعية وليس حالة ميتافيزيقية ابدية. وقد تركت هذا المرحلة أثرا بالغا على سمات المصريين الشخصية مثل التواكل والخضوع والصبر والجدعنة، بل والتوجس والحذر، وكل هذا السمات يعزوها المؤلف إلي حالة العبودية المعممة التي كانت نتيجة للنظام السلطوي ولتجريد الناس من حرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية أحيانا.

أما المرحلة الثانية وهي التي شهدتها مصر وهي على مشارف العصر الحديث؛ فتلك التي ظهرت فيها الملكية الخاصة للأراضي الزراعية في عصر إسماعيل. وهنا يدفع المؤلف بتصور علي درجة من الأهمية، وهو أن عصر إسماعيل هو بداية عصر الحداثة المصرية وليس مرحلة نابليون أو عصر محمد علي كما يذهب معظم المؤرخين للحداثة المصرية، فالحملة لم تعمر طويلا لكي تترك أثرا واضحا في شخصية عمرها سبعة آلاف عام، فيما قام محمد علي نفسه بالإلغاء الملكيات الخاصة البسيطة التي كانت موجودة قبله، بل سنجده امتدادا واضحا لنمط الإنتاج الأسيوي من حيث ملكيته المطلقة للأرض.
إن بداية المرحلة الثانية أو عصر الحداثة - كما يشير المؤلف متمشيا مع رأي طاهر عبد الحكيم- جاء في 30 أغسطس 1871 مع صدور قانون المقابلة، ويتم بمقتضاه منح حق ملكية غير كاملة لمن يدفع بما يعادل 6 سنوات ضرائب للأرض التي يعمل بها دفعة واحدة، الأمر الذي مهد الطريق أمام ظهور الطبقة الوسطي في البلاد التي استطاعت أن تمارس بعض من مهامها التاريخية والوطنية وهو ما تبدي في شعار مصر للمصريين في الثورة العربية، حيث كانت بداية وعي تلك الطبقة بدروها الوطني والسياسي والثقافي أيضا، وبما مهد الطريق بعد ذلك بمساعدة التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية لحدوث تحولات مهمة في الشخصية المصرية وبداية ظهور الأفكار العلمانية والليبرالية والإصلاح الديني، وكذلك الدور الذي لعبته ثورة 1919، وتأثير الجامعة المصرية في اتساع مساحة الوعي الوطني والسياسي والثقافي وقيادة حزب الوفد للحركة الوطنية المصرية.

وبقدر من الحساسية يدرك المؤلف هنا ضرورة التمييز بين البرجوازية المصرية الصاعدة والبرجوازية الاوربية ، فكما شاهدنا اختلافات في طبيعة الاقطاع المصري عن الاقطاع الأوربي، سنجد أيضا ثمة اختلافات بين البرجوازية هنا وهناك، فالطبقة الوسطي المصرية حققت فائضها بالأساس من ريع الأراضي الزراعية وقامت باستثمارها في مجالات تجارية وصناعية، وبالتالي لم تكن طبقة وسطي صناعية صرفة بل تداخل معها الطابع الزراعي، وهو ما جعلها طبقة غير نقية الجذور أو التكوين، الأمر الذي انعكس علي مواقفها السياسية والاجتماعية فظلت طبقة محافظة إلي أبعد الحدود، بل ولم تستطع أن تبلور بصورة جادة مفهوم الوطنية المصرية أو الأمة المصرية، ذلك أن قيودا كثيرة ظلت عالقة في عقول المستنيرين والتقدميين في ذلك الوقت.

يعرج المؤلف لقراءة تحليلية بين ثلاثية " العروبة والإسلام والفرعونية" باعتبارها ثلاث إشكاليات ظلت ماثلة في العقل الثقافي المصري علي مدار العقود الماضية. فقد وجدت الشخصية المصرية الوطنية، التي مرت بتجارب ثرية منذ ثورة عرابي وحتى نكسة 1967؛ ضالتها وخاصة في المرحلة الناصرية في الامتداد العروبي، فمن خلال شخصية عبد الناصر حدث تماس أو اتصال بين الشخصية المصرية والقومية العربية، وربما أيضا نتيجة أن مصر والمنطقة في ذلك الوقت كانت جزءا من حركة التحرر الوطني. ما يود أن يشير إليه المؤلف هنا أن القومية العربية والشخصية المصرية كلاهما استفاد من الآخر. ولكن بعد انتهاء تلك المرحلة التحررية الوطنية، أعقبتها مرحلة أخري ظهر فيها توجيهن متناقضين تماما وهما الدعوة إلى الفرعونية وتلك كانت دعوة مفكرين مهمين أمثال الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض، والإسلامية التي ظهرت بقوة مع عودة الإسلام السياسي للحياة العامة في سبعينيات القرن الماضي. والدولة المصرية الساداتية في تلك الفترة لم يكن لديها أي مانع من ظهور أية رؤية أو دعوة طالما تعارض وتضرب فكرة العروبة، وبالتالي افسحت المجال لكثير من الرؤي لكي تتواجد في ساحة الفكر، وبدا أن الشخصية المصرية تسير في اتجاهات متضاربة ومتعارضة.
يختتم المؤلف كتابه الهام بالعودة مرة أخري إلي جوهر موضوعه وهو الهوية المصرية وتحديات العولمة، فيطرح سؤاله بشكل مباشر، كيف تؤثر العولمة على الهوية الوطنية المصرية؟ لا يخشى المؤلف علي الهوية المصرية من عالم السماوات المفتوحة، فالشخصية المصرية مؤهلة لذلك وقد مرت بظروف كثيرة مشابهة ولم تتغير شخصيتها بدرجة كبيرة، هذا بالإضافة الي ضرورة الوعي أو القدرة على استثمار هذا الوافد إلينا وعدم التعامل معه بعقل خامل وسلبي.

ويستخلص المؤلف في نهاية الكتاب مجموعة من المحددات الهامة، من بينها أن مصر أمة زراعية قديمة وموحدة. وأن المكان والطبيعة الزراعية ونمط الإنتاج جميعها عوامل مهمة في دراسة الشخصية المصرية، وإن كانت العوامل الاجتماعية والاقتصادية هي الأكبر نفوذا من حيث التأثير. ثم يتوقف في أخر سطور الكتاب عند فكرة مهمة وهي أن التغيرات التي حدثت في العقود الأخيرة إنما تستوجب وقفة من المثقفين والمفكرين ورجال السياسة لبحث حدود تأثيراتها على المجتمع وكيف نستطيع إعادة توجيه المسار لما يخدم الشخصية المصرية والانسان المصري.
إن كتاب" مدارات عاصفة: العولمة والهويات الثقافية" محاولة فكرية عاصفة حاول فيه الدكتور صلاح السروي أن يستجمع صورا مختلفة ومتنوعة من نماذج فكرية وأدبية وفنية وسياسية تكشف عن أثر المركزية الأوربية في صياغة العالم الحديث، ويرصد بقدر من التكثيف والدقة والتتبع الدور الذي لعبه المثقفون والسياسيون والرجال الاقتصاد والتعليم والفن والأدب في الكشف عن قوانين تشكل الشخصية المصرية.