في فقه المصالحة: العسكر والإخوان واليسار


محمد دوير
الحوار المتمدن - العدد: 6246 - 2019 / 5 / 31 - 16:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في حوار مع الصديق عادل الرفاعي عن علاقة الرأسمالية المصرية الحالية والإسلام السياسي، أشار إليّ بأنهما وجهان لعملة واحدة ، لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر.. والحقيقة أن العلاقة التاريخية الوطيدة بين الرأسمالية السياسية ( أعني بها الرأسماليون المشتغلون بالعمل السياسي دون وكلاء ) والإسلام السياسي هي علاقة تفرضها شروط موضوعية تأسست علي الإيمان بمبدأ الفيزوقراط القديم " دعه يعمل .. دعه يمر" .. وبالتالي فلا يمكنني النظر لتلك العلاقة تاريخيا أو آنيا دون الوضع في الاعتبار هذا الشرط الموضوعي، الذي يجعل من كل خلاف بينهما مجرد لحظات تحول في مستويات التعامل أكثر من كونه عملية تحول جذري في منطق العلاقة ذاتها. بمعني أن كل طرف منهما حريص علي أن يوضح للطرف الأخر حدوده، وكلاهما يستغل التطورات السياسية لكي يثبت للأخر أن لديه من الشروط ما يجب الانتباه لها .ففي لحظة ما شدد حازم صلاح أبو إسماعيل علي أن القوات المسلحة جهة حماية وليست جهة حكم، وفي لحظة أخري أصر المجلس العسكري علي وضع القوات المسلحة في مكانة فوق دستورية في الدستور المصري. ثم في لحظة تاريخية أخري اهتم الإسلام السياسي جدا بضم أجنحة وعناصر من التيار المدني تحت عباءته، خاصة بعد تنحي مبارك، وفي المقابل انشغل المجلس العسكري بجذب قوي مدنية كثيرة تحت لواءه إبان مظاهرات 30 يونيو الحاشدة.
إن التجاذب بين الرأسمالية السياسية عموما والإسلام السياسي بصفة خاصة لم يكن صراع وجود بل معركة حدود، حدود يحاولون رسمها بدماء الشهداء وتضحيات المعتقلين بل وبأزمات الاقتصاد المصري وكذلك باستدعاء رصيد كل طرف من التحالفات الدولية والإقليمية، وبالتالي اتخذت تلك المعركة في لحظات كثيرة سمات العنف والعنف المضاد، الإقصاء المتبادل، النفي ونفي النفي، ولكنهما في النهاية يشكلان " سويا " علاقة جدلية تعمل علي سلب الفعل الثوري، يشكلان سويا عنصري الثورة المضادة التي استنزفت كل الرصيد الوطني والديني في أتون هذه المعركة التي تدور حول حدود ملكية صكوك الغفران الوطني والديني.
وأكاد أتصور أنهما فشلا فشلا ذريعا في مساعي السيطرة الدائمة، فالإسلام السياسي فشل في تطوير نفسه أثناء معركة الحدود مع المجلس العسكري والرأسمالية السياسية وانتهي به الأمر إلي المعتقلات بأمر من الشعب المصري، والرأسمالية السياسية التي تعمل الآن تحت لواء المجلس العسكري فشلت في إدارة شئون الحكم وأغرقت البلاد في الديون التي تتراكم بشكل مخيف. والمؤكد أنهما لا يملكان الآن ظهيرا شعبيا مناسبا، ولا يملكان تصورا عن مستقبل البلاد، ولا حلولا لإخراج الوطن من أزماته سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في الداخل أو في الخارج، ويبدو أن تطورات الأحداث في الإقليم الذي نحيا فيه يزيد من أزمة التبعية التاريخية التي دخلنا فيها منذ كامب ديفيد.
وربما من هنا.. تصبح المصالحة ضرورة موضوعية، لكي يستطيع كل طرف أن يخرج من كبوته علي حساب الآخر، وأن يتقي شر الآخر، وأن يحاول كل طرف إعادة ترتيب مواقفه وأولوياته من جديد بعدما تعثر مشروع كل منهما، فلا مصر صارت عاصمة الخلافة، ولا مصر أصبحت " قد الدنيا " ، فالإسلام السياسي فقد رأس الحربة بخسارته للرأسمالية السياسية، والمجلس العسكري لم يستطع أن يحافظ علي الظهير الشعبي بسبب ضعف كوادره في الشارع.. و بالنسبة للطرفين فهما في حاجة إلي أن يكمل كل منهما مشروعه ويثبت وجوده،ولن يتم ذلك بدون مصالحة بينهما .. ولكنها مصالحة تشبه معاهدات الاستسلام، المنتصر فيها يفرض شروطه علي المهزوم، وهنا أتصور أن الإسلام السياسي ذاق من المرار ما لم يحدث له من قبل، وليس أمامه من مخرج سوي القبول بأي صيغة توافقية بشرط ضمانة قوي إقليمية لهذا الاتفاق.. وما يحدث منذ سنوات بينهما هو أن كل طرف يحاول أن يدخل لطاولة التوافق والمصالحة بأكبر قدر من المكاسب حتي يغنم أكبر قدر من النتائج.
يبقي السؤال .. وماذا بعد المصالحة ؟
أنا شخصيا مجبر علي قبولها وتفهم دوافعها واستيعاب شرطها الموضوعي، ولكن هنا لابد من طرح سؤال: ما هو موقف القوي المدنية والعلمانية ؟ وما هو موقف اليسار المصري ؟ دعني أتحدث فقط عن موقف اليسار لأن القوي المدنية والعلمانية لها رؤية ضبابية من الصعب تناولها بوضوح هنا..أما عن اليسار فيؤسفني القول بأنه أضاع فرصة تاريخية في السنوات العشر الأخيرة، وأنه اختار الطريق السهل حينما قرر فريق منه الانحياز للرأسمالية السياسية والمجلس العسكري ، فيما اختار فريق أخر الانحياز لقوي الإسلام السياسي، وكلا الفريقين اليساريين لديه من التبريرات التي تستخدم المنطق الجدلي أحيانا في موقفهما السياسي هذا أو ذاك. وفي تقديري أن ذلك الموقف اليساري الاتباعي أو التبعي هو أحد أزمات الحداثة العربية بشكل عام، فهي حداثة لم تستقل يوما ما عن جهة إسناد تمتلك قوة ما.. ولذلك فإن المصالحة القادمة لن تفعل سوي شيء واحد فقط أن يتحول جزء من اليسار المصري مرة أخري لموقع المعارضة الشكلية الضعيفة التي لا تملك رصيدا شعبيا معقولا. فالكارثة لا تكمن في المصالحة ، فهي كما أسلفنا قضية مفروغ منها، ولكن الكارثة تكمن عدم قدرة اليسار المصري علي تفهم طبيعة اللحظة التاريخية التي مرت بها مصر منذ 25 يناير،مما دفع البعض إلي وضع تفسيرات مدنية في قضايا طبقية، وتحليلات سياسية لموضوعات اجتماعية، وتبريرات وطنية لطبقة رأسمالية تكالبت علي نهب الاقتصاد المصري.. خطيئة اليسار أنه انغمس في اللحظة وانتشي بنصر مزيف وغير مبني علي أسس علمية في نقد الإسلام السياسي، واعتقد بعض اليساريين أن العسكر يمكنهم أن يقدموا نموذجا علمانيا في الحكم، ووطنيا في الاقتصاد، وشعبيا في السياسية، والحقيقة أنهم فشلوا تماما في ذلك، وليس أمامهم سوي أمرين 1- تقديم تنازلات في التسويات الإقليمية، 2- الإقدام علي مصالحة لتخفيف الضغط الشعبي عليهم. ويعود اليسار مرة أخري مادة تهكمية من قبل الجميع فوق منابر مساجد السلطان ومساجد الإخوان والسلفيين ومنصات إعلام السلطة..
.. أخيرا .. ما العمل ؟
لا يجب أن ينتظر اليسار لحظة المصالحة بل عليه أن يبادر هو الآخر بمصالحة بين عناصره وكوادره وتنظيماته حتي يمكنه بناء جبهة تدعو وتدافع عن دولة ديمقراطية مدنية، دولة جديدة بسمات تقدمية واشتراكية. هذا هو الرد الوحيد علي دعاوي المصالحة بين طرفي الثورة المضادة