درس شريف منير ... لكريماته


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6601 - 2020 / 6 / 24 - 09:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


في سبتمبر 2010، أرسل لي مواطن اسمُه "سامي يونان" سؤالا سأله أطفاُله الثلاثة: (بابا ليه الحرامي متحبسش؟!) وعجز الأبُ عن الإجابة فطلبها مني ليجيبَ أطفالَه. وعجزتُ بدوري عن الإجابة فرفعتُ السؤالَ في مقال وبلاغ إلى السيد "حبيب العادلي" وزير الداخلية آنذاك، وتمت الإجابة عمليًّا. علّ أولئك الأطفالَ اليومَ في سنّ الشباب يقرأون مقالي هذا؛ وقد تعلّموا الدرس.
الحكايةُ كما رواها الأبُ: (اتصل به الجيرانُ في التاسعة صباحًا، وهو في عمله، ليخبروه بأنهم أمسكوا لصًّا يحاول سرقة منزله. أسرع الرجلُ إلى بيته ليجد الجيرانَ محتشدين. أخبروه أنهم سمعوا صراخَ زوجته واطفاله فأسرعوا، وطاردوا اللص فحاول الهروب وقفز من شباك الصالة إلى منور العمارة. وصل أمين شرطة وقبض على اللصّ الذي أصابته خدوشٌ جرّاء السقوط في المنور. فى قسم الشرطة، سأل المأمورُ المجنيَّ عليه: (أنت ضربته؟! تاخد حقك بالقانون مش بالضرب!) فأقسم الرجلُ أنه لم يفعل، وشهد الجيرانُ بسقوط اللصّ في المنور قبل وصول الرجل من عمله. وهنا، قال المأمور إنه مضطر إلى تحويل السارق والمسروق إلى نيابة أمن الدولة! لييييه؟ لأن الأول مسلمٌ والثاني مسيحيٌّ! ثم أردف المأمورُ، بإيماءة العالم بطبائع الأمور: (ودي طبعًا، فيها سين وجيم!) قال المجنيُّ عليه: (والعمل يا فندم؟) قال المأمور: (نعمل محضر صُلح، وعدم تعرُّض منك ولا منه، ويا دار ما دخلك شر، وتروحوا لحال سبيلكم. وبعدين لازم تاخد الحرامي وتعالجه، لأنه ممكن يعمل لك محضر تعدي، وتقرير طبي، وشغلااااانة. ) وبالفعل أخذ "المسروقُ" السارقَ" إلى صيدلية قريبة وعالج خدوشَه، ودفع الرجل مصاريفَ علاج اللصّ، واسترضاه لكي يضمن عدم رفعه قضية "تحرّش" طائفي عليه! وأُقفِلَ المحضر في ساعته وتاريخه، برقم 18ح، بتاريخ 2010/8/23. الطريفُ أن المحضر خرج بصياغة: "عدم تعرّض"، وليس: "محاولة سرقة"، بعد اعتذار اللصّ، وتعهده بعدم إدراج "هذا المسكن" في خُططه اللصوصية القادمة! انتهت الحكاية في قسم البوليس؛ لكنها لم تنته في بيت الرجل. في المساء سأل الأطفالُ أباهم: (هو ليه الحرامى متحبسش يا بابا ؟) وعجز الأبُ عن الإجابة. فأرسل يسألني في إيميل: (هو صحيح ليه الحرامي متحبسش يا أستاذة فاطمة؟ هل أختارُ دين الحرامي حتى أضمن حقوقي في وطني، ولا أبدو ضعيفًا أمام أطفالي، ويسألونني سؤالا أعجز عن إجابته؟ من فضلك جاوبيني يا أستاذة؟! ) وعجزتُ عن الإجابة، فحوّلتُ السؤالَ إلى وزير الداخلية آنذاك: “السيد حبيب العادلي" في مقال عنوانه: (بلاغ إلى السيد حبيب العادلي:سأختار دين الحرامي! ) نُشر في جريدة "اليوم السابع" بتاريخ 21 سبتمبر 2010. وللأمانة؛ اتصل بي يومها العميد "هاني عبد اللطيف"، مدير المكتب الإعلامي بوزارة الداخلية، وسألني عن رقم هاتف الأستاذ "سامي يونان" ووعد بأنه سيأخذ حقَّه بالقانون. وبالفعل نال المواطن حقَّه، فكتبتُ بعدئذ مقالا في "اليوم السابع" بتاريخ: 5 أكتوبر 2010، أشكرُ فيه وزارة الداخلية.
كان همّي في كل هذا هو ألا يفقدَ أولئك الأطفالُ، الذين صاروا شبابًا اليوم، بوصلةَ الحقِّ في وطنهم، وألا تتعثّرَ خطواتُهم وهم يرون المجرمَ مستقويًّا حرًّا طليقًا، والمجنيَّ عليه خائفًا مهزوزًا مغلوبًا على أمره.
وهذا هو الدرسُ عينُه الذي أراد الفنانُ "شريف منير" أن يعطيه لبناته الجميلات، ولنا. نشر "شريف منير" على منصّة "انستجرام" صورة جميلة بريئة لكريماته: "فريدة وكاميليا"، فكتب بعضُ الرعاع تعليقاتٍ قذرةً لا تليقُ إلا بهم وبسفالتهم. انزعجت أسرةُ "شريف منير" فقام بحذف الصورة خوفًا على عيون زوجته وبناته من قراءة البذاءات في حقّهن. ثم تدارك خطأه (حذف الصورة)، وأعاد نشرَها متوعدًا أيَّ سافل بالملاحقة القانونية والحبس. ذاك هو الدرس: “عدم التفريط في الحق، وعدم الرضوخ لموجة الاستقواء والظلم مهما كانت عالية عاتية"، في مجتمع مازال يخطو خطواته الأولى نحو التنوير والمدنية والتحضر. أقول هذا بكامل الدهشة والحَزَن عن بلدي الذي صنع الحضارة والتنوير والمدنية قبل آلاف السنين، وعلّم العالمَ بأسره في فجر التاريخ أُسسَ التحضُّر. لكن سمومَ الظلامية والنفاق الديني والتديّن الشكلي اكتسحت بلادنا منذ السبعينيات على يد ظلاميين قتلوا المدنية والتنوير وجعلوا من البذاءة والتطاول والتكفير قانونًا عُرفيًّا يتحكم فينا، ويظلم. ومازلنا حتى اليوم نحاول "تنظيف" المجتمع من دنسهم الذي سمّموا به كل شيء جميل وشوّهوا الدينَ ذاته، فألصقوا به زورًا لسانَ عنف وبذاءة ونفاق. تحية احترام للفنان الجسور "شريف منير"، وكلنا معك. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***