زيارةٌ واحدة … كل شهر!


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7863 - 2024 / 1 / 21 - 10:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لم ينتبه لموت أمّه في الغرفة المجاورة. استيقظ مبكرًا كعادته وغسل أسنانَه وأخذ دوش الصباح. اندهش قليلا لأنه لم يسمع صوتَ أمّه آتيًا من بعيد بمجرد أن تشعرَ باستيقاظه فتُغنّي له: "يا صباح الخير ياللي معانا، الكروان غنّا وصحّانا، والشمس أهي طالعة في سماها، ياللا معاها يا عموري!" ومع الكلمة الأخيرة تحتضنه وتدغدغه فيضحك ويكركع وهو يغني معها. لم تأتِ له بكوب حليب اللوز، ثم كأس الأدوية مثلما تنصُّ طقوسُ الصباح! الطقوسُ الثابتة في هذا البيت الصغير خطٌّ أحمر، كسرُها جريمةٌ لا تحدث! فكيف كسرت أمّي طقوسَ الصباح؟! فكّر قليلا لكنه لم يعبأ، ولا ذهب إلى غرفة أمّه يتفقّدها. دخل غرفة المكتبة وبدأ تمارين الصباح. ولم تظهر أمُّه لتشجعه كالمعتاد وتهتف: "عاش يا عمر يا بطل!" جلس إلى البيانو وراح يعزف مقطوعة "أنشودة الفرح" لـ بيتهوفن، تلك التي يبدأ بها يومَه فيما تعدُّ أمُّه إفطاره: [مــي مي فا صول | صول فا مي ري | دو دو ري مي | مــي ري ري | مـــي | مي فا صول | صول فا مي ري| دو دو ري مي |رـــي دو دو]. إن كسرت أمُّه طقوسَ اليوم وأطالت النومَ هكذا، فلن يكسرها هو. الروتين مقدسٌ! راح يفكر هذه الأفكار وهو يتعمد أن يخبط النغمات الأخيرة من كل نوتة على نحو صاخب حتى تصحوَ أمُّه من النوم وتأتي إليه!!! منذ متى ونومُ أمه ثقيلٌ هكذا؟! حتى لو غفلت مع الفجر فإنها تصحو مبكرًا جدًّا! سوف يعيد عزف الأنشودة بصوت أعلى [ مــي مي فااا صول صووول فا مي ريييييي]! ولم تأتِ أمُّه على عزفه كالمعتاد لتغمرَه من ظهره وتقول: (الله يا عموري! أحلى موسيقى في الدنيا! أنشودة الفرح يا فرحة عمري كله!) لا بأس! لا شيءَ يجبره على تغيير الطقوس المقدسة، وإن نامت أمُّه هكذا طويلا. شغّل التليفزيونَ على الصوت الصامت وجلس على مقعده في غرفة المعيشة ينتظر. وحين مرت الساعاتُ وتوهّجت شمسُ الظهيرة، ثم مالتْ، دون أن تنادي عليه أمُّه لطعام الإفطار أو الغداء، الذي تعدُّه بنفسها، اندهش أكثر! قرر الذهاب إلى غرفتها، فوجدها راقدةً على سريرها مفتوحة العينين، ولم تلتفت نحوه تتهلَّل وتُغنّي له وتناديه بكل أسماء التدليل المشتقة من اسمه، كما تفعل دائمًا، إن مرّ بغرفتها، التي لا تغلقُ بابَها أبدًا! ظنَّ أنها نائمة. وقف أمام سريرها برهةً، وراح ينظر في عينيها وهو يبتسم، لعلّها تنظر نحوه. امتدت البُرهةُ دقائقَ طوالا، اقتربت من كسور الساعة، وهو واقفٌ أمام سريرها صامتًا يتأملُ عينيها الشاخصتين نحو سقف الغرفة! ولمّا لم تتحرك أمّه، ضحك ضحكته الطفولية، وخرج من غرفتها إلى الشرفة وجلس على الأرجوحة يُغنّي. بعد نصف ساعة دخل غرفته ليجلب الألوان ودفتر الرسم، وفي طريقة إلى غرفة المعيشة، مرّ بغرفة أمّه، واختلس نظرةً إلى جسدها المُسجّى على سريرها دون حراك. أكمل طريقَه إلى لوحة الرسم، وراح يرسم. ولم تأت أمُّه لتتأمل اللوحة، وتهتف: “الله يا عمر.. تُحفة.” ترك اللوحة، وفكّر: "كده فيه حاجة غلط!” ذهب إلى غرفتها وهمس بصوت خفيض: “يا ماما... قوم إعملْ فطار... عمر جعان!” وانتظر برهة، وحين لم ترد أمُّه، ضحك، وذهب ليكملَ الرسم.
انتصف النهارُ وقرصَه الجوعُ فذهب إلى غرفتها من جديد، وراح يلمس كتفها برفق بطرف إصبعه، ويهمسُ بصوتٍ خفيض: “عمر جعان أوي جدًّا.... قوم يا ماما اعمل أكل!” ذهب إلى المطبخ وفتح الثلاجة فوجد تورتة عيد الميلاد. اليوم عيد ميلاده الثلاثين... ولكنه حين يُسأل عن عمره يقول: “١٢ سنة.” ودائمًا تُصلّحُ له أمُّه: “٢٦ ٢٧ ٢٨ ٢٩” فيكرّرُ وراءها الإجابة الصحيحة. قطع شريحةً من التورتة، وراح يأكل سعيدًا لعدم وجود أمّه تمنعه برفق وتهمسُ مبتسمةً: “السكر مُضِرّ، الدقيق مُضِرّ، اللبن مُضر!” ثم تميل على مَن حولنا من الغرباء، وتهمسُ بصوت خفيض، وهي تظن أنني لا أسمعُها: "معلش عمر مينفعش ياخد جلوتين ولا كازيين ولا سكر، عشان هو على "طيف التوحد". "عمر" لا يعرفُ السكر، لكنه لا يعرفُ مَن هما الجلوتين والكازيين اللذين تبغضهما أمي وتمنعهما من دخول البيت. ولا يعرفُ ما "طيف التوحد" الذي يقترن اسمُه باسمِه منذ طفولته، ولكنه يعرف أنهم أعداء يكرهون "عمر" ويريدون قتله.
كانت الأمُّ في تلك الأثناء تراقبُ "عمر" يدورُ بين الغرف، ويذهب إلى جثمانها بين الحين والحين صارخًا: "عمر جعان بقا!!! قوم يا ماما!" كانت تبكي وتركضُ كالمجنونة بين الأبواب البيضاء، تطرقُ هذا البابَ، ويُصكُّ في وجهها هذا البابُ. وحين أخفقت جميعُ محاولاتها، تجاسرت وطرقت البابَ العلويَّ الذي لا يطرقُه إلا العارفون. ولدهشتها فُتح البابُ ولم تنتظر أن يُسمح لها بالدخول، بل ركضت نحو العرش العظيم وسجدت تحت قدمي الجليل، ونظرت إلى بركة الماء التي صنعتها دموعُها، فخجلت وراحت تجفِّفُها بطرف ثوبها، حتى أتاها صوتُ الرحمن يحثُّها على الكلام. همست: “أيها الجليلُ اسمح لي بزيارة واحدة لابني كل شهر، دون أن يراني ولا ألمسه، أخبزُ خبزَه وأعدُّ طعامه وأضيء شموعه؛ حتى يعتادَ غيابي، وتقضي فيه أمرًا!
عند المساء، كان "عمر" يجلس في غرفة المعيشة وحيدًا، وفجأةً، ابتسم حين أحسّ بطيف أمّه في البيت، ثم بدأ يسمع أصواتًا آتية من المطبخ، فعرف أنها تعدُّ له العشاء.
***