-العالِم- … العالِمُ


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7877 - 2024 / 2 / 4 - 11:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"العالِم" … العالِمُ

في يناير من كل عام، وحينما يوشكُ على لملمة حقائبه ليمضي نحو فجوة الزمان مُفسحًا الطريقَ لـ فبراير، أنظرُ إلى يديّ، في واحدة شمعةُ عيد ميلاد، وفي الأخرى زهرةٌ لضريح. أتركُ الزهرةَ على الضريح الذي سكنه الفيلسوفُ المصريُّ العظيم يوم 10 يناير 2009، ثم أسيرُ نحو يوم 18 فبراير لأغرسَ الشمعةَ في تورتة عيد ميلاده، وأوقدها.
هذه ذكراه الخامسة عشر. وحين ألتقيه في خيالي؛ كعادتي كلما ضربتني الحَيرةُ في أمر ما، سوف أسألُه السؤالَ ذاتَه: (كيف تتلقّى سياطَ السجّان على ظهرك في النهار، ثم تجالسُه في المساء، لكي تُعلّمه الأبجديةَ، وتمحو أميته؟! كيف تكظمُ غيظَ الألم، وتعفو عن جلادك، ثم تُحسن إليه؟!!) وسوف يبتسمُ كعادته ويجيبُ الإجابةَ المدهشة ذاتَها: (الأمرُ بسيط! كلٌّ منّا كان يؤدي عمَله. وظيفةُ السجّان تعذيبي؛ لأن الظلاميين أفهموه أنني عدوُّ الله! ووظيفتي تعليمُه لكي أُقشِّرَ عنه حُجُبَ التجهيل، فيدخله النورُ، ويدرك الحقيقة.) وصدق الأستاذُ العظيم الذي طبّقَ قولَه تعالى: "والكاظمين الغيظَ، والعافين عن الناس، والُله يُحبُّ المحسنين". تجّارُ الدين يُضللون البسطاءَ ليصنعوا منهم جلادين يضربون بهم رؤوسَ التنويريين. فالرأسُ المستنير، هو العدوُّ الأول لأدعياء الدين. والتنويريُّ يحملُ مِشعلَ التنوير لينيرَ الدربَ لشعوب، يُراد لها أن ترعى في الظلام حتى تنهارَ الأوطانُ وتتقوّضَ الحضارات.
يوم 18 فبراير، نحتفل بعيد ميلاد المفكر المصريّ الكبير "محمود أمين العالم" الثاني بعد المائة، ويطفئ شمعته في السماء. كلُّ عام وابتسامتُه الشهيرة مشرقةٌ كما عوّدنا، وكما خلدتها الصورُ، لكي نتعلمَ من تلك الابتسامة معنى التفاؤلَ وقيمة الثقة في غدٍ أجمل يستحقه هذا الوطن. هو أحدُ النبلاء الكبار الذين أحبَّوا مصرَ، وآمنوا بقوتها وقدرتها على عبور المحن. لو كان بيننا اليومَ لـ سمعتُه يقولُ لي كعادته: (لابد أن تنهضَ مصرُ وتنتصرَ للفقراء، ويتحقق الأملُ الذي كافحنا من أجله عقودًا طوالا. فالسياطُ التي مزقتْ ظهري وظهورَ شرفاء مصر لن تذهب سُدًى، بل سوف تتشابكُ وتتجادلُ وتصنعُ نسيجًا قويًا يرسم لوحة مجتمع "الكفاية والعدل"، الذي أفنينا أعمارنا قربانًا له؟ ألا تعلمين أن القصائدَ التي حفرتُها بأظافري على جدران "سجن القلعة" لا تزال شاخصةً لم تُغمض عيونَها خمسةً وستين عامًا، ولن تغمضَها لكي تظلَّ شاهدةً على مصر من نوافذ الظلام، حتى يشرقَ التنوير الكامل في دروب الوطن.)
(يا مسجون كَسَّرِ الصخرة! للصخرةِ سبعةُ أبواب، شوف فين الباب واضربْ!)، هكذا كان يزعقُ السَّجّانُ الخشنُ في وجه المفكر المصريّ الكبير "محمود أمين العالم"، في معتقلات 1959، وهو يلوّحُ بالسَّوط في يده، والشررُ يتطايرُ من عينيه المتقدتين بالغضب والوعيد. هو السَّوطُ الذي نالَ من ظهر السجين "العالِم" العالِم. هذا أثناء النهار، أما في المساء، فكان السجيُن الكريم يدعو إلى زنزانته السجّانَ الخشِنَ لكي يعلّمَه القراءةَ والكتابة! تصوّروا! أندهشُ وأهتفُ في عجبٍ: (يا أستاذ محمود، يجلدُك السجانُ بالنهار، وتمحو أميّتَه بالليل! هل هذه قدرات بشر؟!) فيقول الأستاذُ، وابتسامته الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ وجهَه: (طبعًا يا فاطمة، كلٌّ يؤدي واجبَه بإخلاص. هو يؤمن أن جلْدَه لي واجبٌ ديني ووطني، فيؤديه بإتقان. وأنا أؤمنُ أن واجبي الديني والأخلاقي والوطني، تعليمُه وتثقيفه هو وغيره ممَن جعلهم الظلاميون أُميّين غلاظًا لكي يبطشوا بهم أعداءهم من مثقفين يكافحون من أجل تحقيق الخير والعدالة لمثله من الأميين والفقراء. هذا حقُّه عليّ) أسألُه: (ألم تكره سجّانَك أبدًا يا أستاذ محمود؟!) فيجيبُ الأستاذُ ضاحكًا: (مطلقًا! كيف أكرهه وهو ضحيةٌ؟ بالعكس كنتُ أحبّه وأشفقُ عليه. وأصغي إليه في النهار إصغاءَ التلميذِ لأستاذه وهو ينظرُ إلى الصخرة، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها لكي أهبطَ بمِعولي عليها فتتحطم. ذاك كان عملي في عقوبة الأشغال الشاقّة. السجانُ يعلمني بالنهار كيف أفتتُ الصخور. وأنا أعلمه بالليل كيف يفتتُ أسوارَ العتمة من حوله.) ثم يقضي الأستاذُ الجميل بقية ليله الطويل بالزنزانة في كتابة القصائدِ على الحائط. ولم تزل تلك القصائدُ موجودةً في "سجن القلعة"، ترفضُ الحيطانُ أن تمحوها!
يا أستاذي الجميل في عيد ميلادك الثاني بعد المئة، نعتذرُ لك عن تلك السياط التي تحملّتها بصبر العارفين والقديسين من أجل وطنك وأبناء وطنك حتى يستنيروا. وتعتذرُ لك مصرُ عن سياطٍ قاسياتٍ عبرت معك السنين والعقودَ ورافقت آثارُها ظهرَك حتى القبر. سلامُ الله عليك، وقبلةٌ على يدك! وأناشدُ الرئيسَ "عبد الفتاح السيسي" أن يتمَّ تكريم هذا الراحل النبيل، وأن يُمنح اسمُه الخالدُ "قلادة النيل"، لقاء ما قدّم لوطنه من فكر وتنوير وشقاء. شمعةً لعيد ميلادك، وزهرةً على ضريحك. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يضيءُ الوطن.”
***