-المتوحّدون”.. النسخة -الأنقَى- من البشر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7880 - 2024 / 2 / 7 - 11:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“نديم" الشابُّ "المتوحّد"، الذي خطف قلوبَ المشاهدين، وقلوبَ أمهاتِ أبناء "طيف التوحّد" خاصةً، برع النجمُ الواعد "طه دسوقي" في أداء شخصيته على نحو فائق في مسلسل "حالة خاصة" تأليف "مهاب طارق" وإخراج "عبد العزيز النجار"، الذي عرضته Watch it على منصّتها. مع الحلقة الأولى كتبتُ له: (كأنني أشاهدُ ابني المتوحّد "عُمَر" بكل ما يحملُ من نقاء وذكاء وانطوائية، ونفور من الصخب و"الدوشة" والنفاق والوصولية). "المتوحدون"، العازفون عن المغانم والأضواء، الحالمون بعالم هادئ خالٍ من الأحقاد والجرائم والظلم، هم النسخة "الأنقى" من البشر. يوصمون بأنهم "مرضى"، بينما لو قرأنا "الكاتالوج" الذي بُنيت عليه شخصياتُهم، لصار حُلمُنا محاولةَ تقليدهم، لكي نتحرّرَ من أدران المداهنة والطمع والحسد والوصولية والكذب وغيرها من الرَّداءات التي يمارسُها بعضُ الناس حتى يحصدوا مغانمَ دون تعب أو استحقاق.
لم أشاهد المسلسل كـ "متفرّجة" عادية، بل كـ "أمٍّ" أكرمها الله بمنحي طفلاً متوحّدًا، صار اليومَ شابًّا جميلا يقاربُ “نديم” في العمر. ولأن معي "كتالوج" نجلي المتوحّد "عمر" من أبناء Asperger الواقعين في ASD أو Autism Spectrum Disorder، كنتُ أتوقّعُ أفعالَ "نديم" في كل مشهد، قبل فعلها: ضبطَ الأشياء المنحرفة على المكتب، فهمَ المجازات بالمعنى "الحَرفيّ" للكلمات، تعفّفَه عن الكذب والنفاق تحت أي شرط، نفورَه من "دوشة" العالم والأضواء، استغناءَه عن المغانم التي يتقاتلُ الناسُ من أجلها….
برع "طه دسوقي" في تلبّس شخصية "المتوحّد" بكل سلوكها الرفيع المترفّع، وكامل أدائها الجسدي في نفوره من التلامس والتواصل البصري مع الآخرين، والرغبة في العزلة والهروب من العالم بـ"التوحّد" مع النفس والغرق في الكتب والرسم والموسيقى لبناء عالم طوباوي هادئ بسيط؛ لا ضوضاءَ فيه ولا مشاحنات. وبالرغم من امتلاك "المتوحّد" عقلا مركّبًا شديد التعقيد، يستطيع من خلاله حلّ أصعب المسائل الرياضية كما حال "آينشتين- نيوتن- إديسون" وغيرهم من عباقرة الرياضيات المتوحدين، وتركيب أعقد الجمل الموسيقية مثل "موزارت أماديوس"، ورسم أعقد اللوحات مثل "فان جوخ" و"ستيفن ويلتشر" وابني "عمر"، وحلّ أعقد القضايا الجنائية كما شاهدنا المحامي المتوحد "نديم" في المسلسل، إلا أنهم يمليون إلى خلق عالم بسيط لا بهرجة فيه ولا أضواء ولا صخب.
يُحسب للمسلسل إشارته إلى فلسطين عبر اسم الحبيبة السورية: "رام الله" التي تحملُ حقيبة جلدية على شكل خريطة "فلسطين"، ودخلت المكتبة لتسأل عن رواية "أعراس آمنة" للروائي الفلسطيني "إبراهيم نصر الله". وجاءت تلك الإشاراتُ الرهيفةُ الثلاثُ: الاسم- الحقيبة- عنوان الكتاب، أقوى كثيرًا من التصريحات الحنجورية التي تُفرّغ القضايا الكبرى من جوهرها. ورغم الأداء الجيد للفنانة "هاجر السراج" ووجهها الذي يشعُّ براءة ورقّة، إلا أنني جزعتُ (كأمٍّ لشاب متوحد) من ارتباطها بـ"نديم" في نهاية المسلسل. فالشخصية كما جسدتها الدراما: وصوليةٌ تخطّط لزواج بمصري فقط للحصول على الإقامة، وسمحت لنفسها باللعب بأحلام ثلاثة رجال أحبوها، من بينهم رجلٌ متزوج! فكيف أطمئنُ لارتباط شخصية مثل تلك، بشخص متوحد طوباوي نقيٍّ، لا يعتمدُ من الحياة إلا شقَّها الطيب الحَسن؟! يعيبُ المسلسلَ كذلك إثقالُه ببعض الخيوط الدرامية المبتورة، التي أثقلت المسلسل دون اكتمال أو تشبّع، ولم تخدم خيطَه الدرامي الأساس، وهو: "تسليط الضوء على تلك الكائنات النورانية التي تحيا بيننا من أبناء طيف التوحد”. الفنانة الجميلة "غادة عادل"، المحامية اللامعة التي برعت في أداء دورها، وتشخيص القلق على مستقبل طفلها المتوحد "عليّ"، وبالرغم من جمالها وتفوقها المهني واهتمامها بأسرتها، إلا أن زوجها يخونها! ومن بين من خانها معهن "رام الله" حبيبة "نديم"! هذا الخيطُ كان إثقالا للدراما وتشويهًا للشخصية التي سوف تُكمل الطريق مع "المتوحد" النقيّ! وغير ذلك من الخطوط الدرامية المتشعبة، والزائدة عن حاجة مسلسل قصير من حلقات عشر، يروم التكثيف ولا يحتملُ كلَّ تلك التشعبات غير المشبّعة دراميًّا.
“جميل" صاحب المكتبة "النقي": الصديقُ الأوحد والأبُ الروحي ومدرّسُ الظلّ للشاب المتوحد، أدّى دورَه ببراعه الفنان "نبيل علي ماهر". وبرحيله صار العالمُ خاويًّا ليبدأ "نديم" مرحلة جديدة من الاعتماد على النفس، بل يصير هو "مدرس الظل" Shadow Teacher للمتوحد الطفل "علي"؛ لكي تستمرَ دائرةُ التواصل الإنساني بين "الأنقياء”. ونجح الطفل الموهوب "آدم النحاس" في أداء دور "نديم" طفلا متوحدًا يتلمّسُ خُطاه الأولى في الحياة، بكامل عبقريته الفطرية التي لم تعفِه من تنمّر الرفاق الصغار الذين لم يعرفوا "كتالوج" التعامل مع هذه الشخصية الاستثنائية "غير العادية".
من أهم مقومات نجاح المسلسل كانت الموسيقى التصويرية الساحرة التي تفيضُ طفولةً وبهجة وحياةً للموسيقار العبقري "هاني شنودة"، وأغنيات فريق "المصريين" التي كان "نديم" يهربُ إليها من صخب العالم. شكرًا للدراما المصرية التي بدأت في تسليط الضوء على المتوحدين؛ لكي يُدرك الناسُ طبيعة تلك الكائنات النورانية التي تحيا بيننا، دون إعلان عن نفسها.



***