نذكرُ العظماءَ …. وننسى قاتليهم


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 7726 - 2023 / 9 / 6 - 10:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

للتاريخ مصفاةٌ قاسيةٌ حاسمةٌ عمياءُ لا تعرفُ المجاملة. تُسقط الحَصى الرخيص، وتُبقي الدرَّ الثمين. يذكرُ التاريخُ فرائدَ العظماء، ويمحو من مدونته النكراتِ الذين قتلوهم أو كفّروهم. لهذا نبتسمُ في إشفاق حين يلاحقُ البلداءُ العظماءَ، ويقضون أعمارَهم في محاولات دؤوب لجرّهم إلى السجون واغتيالهم معنويًّا. لأننا نعرف أن العظماءَ باقون، وإن قضوا نحبَهم في عتمات السجون، والبلداءَ منسيون، وإن عاشوا ألف عام.
هل تعرفون اسمَ قاتل شاعر العرب "أبي الطيب المتنبي؟" كلا،  إنما نعرفُ "المتنبي"، لأن قصائده تملأ الدنيا ولا يخبو جمالُها مع الزمن بل تزداد بريقًا. هل تذكرون اسمَ الأميِّ الذي اغتال المفكر "فرج فودة"، والذي آثمًا قلبُه أفتى بقتله؟ كلا، بل نعرفُ "فرج فودة"، لأن مشعله ما يزال وهاجًا يضوي، رغم العقود. هل تعرفون شيئًا عن قاتل عالمة الذرة النابغة "سميرة موسى" في أحد وديان أمريكا الموحشة؟ لا، لكننا نعرفُها ونشعرُ بخسارتنا الفادحة بفقدها، ونعلم حجم ما كانت ستؤديه لمصر لو لم تغتلها يدٌ آثمةٌ وهي في عمر الزهر المشرق. هل تعرفون اسم الذي كفّر “سقراط” و"جالي ليو" وحكم عليهما بالموت؟ كلا، نعرف الفيلسوفَ “سقراط”، والعالِمَ "جالي ليو" ونحفظ أعمالهما. هل يعرفُ أحدُكم اسمَ شانق "عمر المختار"؟ أبدًا، نعرفُ "المختار" ونذكر مقولتَه العميقة أمام أنشوطة المشنقة: “سيكون عمري أطولَ من عُمْرِ شانقي"، وقد صدق. هل يعرف أحدٌ منكم اسمَ صالب "الحلاج" أو قاتل "السهروردي" أو الذين سحلوا "هيباثيا" من جدائلها حتى تمزّق لحمُها؟ هل تعرفون أسماء الذين كفّروا "ابن عربي" و"ابن الفارض" و"ابن رشد" و"ابن المقفع" و"لسان الدين الخطيب" و"نصر حامد أبو زيد" و"طه حسين" وغيرهم؟ كلا كلا، بل نعرف جيدًا جميع مَن ذُكرت أسماؤهم من رموز مضيئة في مدونة التاريخ، ولا نعرفُ شيئًا عن قاتليهم ومُكفّريهم؛ لأنهم بلداءُ خاملون لا منجزَ لهم إلا هدر الدماء وترويع الآمنين. وقد أكّد لنا التاريخُ بالفعل مقولةَ "عمر المختار": أن أعمارَ العظماء أطولُ كثيرًا من أعمار قاتليهم.
هل تذكرون اسمَ البليد الذي طعن "نجيب محفوظ" بخنجر جهول في تسعينيات القرن الماضي؟ هل تعرفون أسماء الشيوخ الذين أهانوا تراثَ الرجل الفريد، وطالبوا بمصادرة رواياته؟ لا، لا نعرف طاعنَه، ولا نعرف مُكفريه، لكننا نعرف جيدًا مَن هو "نجيب محفوظ" ونكاد نحفظ رواياته ونرى شخوصها تعيش بيننا، ونعرف أنه مازال حيَّا رغم احتفالنا بالذكرى ١٧ على رحيله إلى حيث عالم شاسع رحب، لا يضيق بالفكر الرفيع، ويُقدّر الفنَّ الراقي، ويحترم العقلَ، هديةَ الله للإنسان.
اليوم أتمّ الأديب نجيب محفوظ عامه السابع عشر بعيدًا عن صخب العالم، بعدما انحنى له العالمُ احترامًا حين حصد لمصر وللعرب نوبل الآداب عام ١٩٨٨. سبعةُ عشر عامًا لم ينسه أحدٌ، ومازالت كتبه تتصدّر قوائم الأكثر مبيعًا بجميع لغات العالم، بينما نسينا منذ اللحظة الأولى أولئك الذين على عقولهم أقفالُها، ممن أهانوا اسمَه وإرثَه، وأفتوا بكفره ووجوب قتله.
ذات يوم من أيام القرن الثامن عشر، كان صديقان ألمانيان كهلان يتمشيان في حديقة من حدائق مدينة "فيمار" الألمانية. أحدهما اسمه "بيتهوفن"، والآخر اسمه "جوته”. شاهد الصديقان موكبًا ملكيًّا قادمًا من بعيد صوب الحديقة. وكانت التقاليد الملكية تقضي بأن يتنحّى السابلةُ عن مواكب الملوك والأمراء وينحنوا احترامًا أمام أصحاب السموّ الملكي، حتى يمرَّ موكبُهم. الأديبُ الكبير "جوته"، صاحب رواية "فاوست"، اتّبع البروتوكولَ وساير التقاليد الألمانية؛ فانتحى  جانبَ الطريق، وهو يحني رأسَه احترامًا للأمير. بينما لم يعبأ الموسيقارُ "بيتهوفن"، وضرب بالبروتوكول عرض الحائط. لم يتنحَّ عن الطريق ولم ينحنِ ولا خفض رأسَه للأمير؛ بل استمر في طريقه غير مبال بالموكب ولا بمن يحمله. ماذا فعل الأمير؟! لم يغضب ولم يثُر ولم يأمر رجاله بجزّ عنق الرجل قبل أن يُكمل سيمفونياته التسع، بل ترجّل  الأميرُ عن موكبه ووقف أمام "بيتهوفن"، ثم انحنى له قائلا بصوت مسموع: (حقَّ علينا نحن، أن نُحني الرأَسَ  لـ "بيتهوفن”.) ليتني أعرفُ اسم ذلك الأمير المثقف لأقدّم له التحايا لأنه عرف قدر وقيمة العظيمين "بيتهوفن" و"جوته"، اللذين أعمالهما الموسيقية والأدبية تملأ الكونَ شدوًا وفكرًا وبهجةً وأملا وفرحًا وحياة.
في أحد لقاءاتنا بالخالد "نجيب محفوظ"عام ٢٠٠٣، وفي ڤيلا الدكتور الجميل "يحيى الرخاوي" بحي المقطم، مِلتُ نحوه وهمستُ: “أستاذ نجيب، فاكر اسم طاعنك؟"، فابتسم بوهنٍ وحرك رأسَه دلالة النفي، ثم همس: “بس سامحته!” هكذا العمالقةُ أمام الصغار. الكبارُ يغفرون للصغار طيشَهم وحماقاتِهم؛ لأنهم يدركون أن الصغارَ لا يعلمون ماذا يفعلون. يا عم نجيب النجيب، كل سنة وأنت أكثر وجودًا وحياة ممن أخفقوا في قراءتك وإدراك قيمتك. عِش ألفَ عام، وعام.



***