منسي: اللي زيّنا عمرُه قُصَيّر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6573 - 2020 / 5 / 25 - 23:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

(اللي زيّنا عمره قصير!) عبارةٌ فادحةُ الوجعِ جارحةُ المعنى علِق رنينُ جرسِها في قلبي. قالها بطلٌ من قوّاتنا المسلحة على لسان النجم "أمير كرارة" الذي جسّد دورَ الشهيد عقيد أ.ح. "أحمد صابر منسي" قائد الكتيبة 103 صاعقة بشمال سيناء، وهو يسامر رجال كتيبته ليحثَّهم على بذل أنفسهم فداءً للوطن، مع اغتنام اللحظات الخاطفة التي يزورون فيها أسرهم ليشبعوا منهم قبل الشهادة. سلاحُ الصاعقة قواتٌ نخبوية تختصُّ بالمهامّ الصعبة والعمليات الخاصة (SOF)، مثل الإغارات وزرع الكمائن في مختلف الجبهات وخطوط القتال وصولاً إلى عمق العدو. أفرادُها تلقّوا تدريبات معقّدة ومتقدمة لتنفيذ عمليات نوعية خطِرة بتسليح فردي يناسب المهام الاحترافية الخاطفة. لهذا يمتازون بخفة الحركة والقدرة على المناورة والهجوم والانسحاب الخاطف. كان ذاك هو "الاختيار”. اختيارُ الشرف لمحو آثار العار عن الوطن. اختيارُ الشهادة حتى تحيا مصر.
لم تفقد الأحداثُ في مسلسل "الاخيار" بريقَها لدى المشاهدين، رغم علمنا المسبق بمضمونها بوصفها تاريخًا قريبًا عشناه جميعُنا وعرفناه من نشرات الأخبار. لكن الرؤية والمعايشة غير قراءة المواجع في مانشيتات الصحف. لحظات الترقّب والمواجهة. مواجهة أعداء الوطن يُلوِّحون بالموت الوشيك والمحتمل، وشبه الحتميّ أحيانًا.
(مابيستسلموووش لييييه؟). هكذا صرخ المجرمُ التكفيري خائنُ الوطن، يسألُ زميلَه في حُنقٍ وغضب؛ قاصدًا جنودَنا الأماجد في كتيبة الشهداء: 103 صاعقة. وهذا سؤالٌ عصيُّ الجواب على عقل إرهابي مُضلَّل. من المستحيل على مثله أن يعرف إجابة سؤاله لأنه ببساطة لا يعرف معنى "الوطن”.
سؤالٌ صعبٌ لا يعرفُ إجابتَه إلا المقاتلُ المصريُّ الباسل الذي يؤمنُ أن شرفَ الوطن حَتمٌ وفرضُ عينٍٍ على كل مواطن، دونَه الشهادة. المقاتلُ المصري مؤمنٌ أن كلَّ ما عدا شرف الوطن مبذولٌ يُجادُ به بكلّ رضا؛ ليبقى الوطنُ حُرًّا لأبنائه. لا يعرفُ التكفيريُّ الخسيسُ أن مفردة “الاستسلام” غريبةٌ وناتئه عن معجم الجيش المصري الذي قُوامُه "رجالٌ صدَّقوا ما عاهدوا الله عليه”.
لكن البطل “أحمد منسي” يجيبُ التكفيريَّ خائنَ الوطن، وهو يعاجلُه برصاصة الموت، قائلا: (ماسمهومش طواغيت؛ اسمهم شُهدا.) فيتعلَّمُ الظالمُ آخرَ وأهمَّ درسٍ فاته تعلُّمه في حياته المظلمة وهو يُصفَّى برصاص جيشنا العظيم؛ جزاءً وفاقًا، قبل أن يلقى جزاءَ الله الحكم العدل؛ الذي حرَّم الظلمَ على نفسه وجعله بيننا محرمًا.
ثمَّ يوصي الشهيدُ رفاقَه قبل استشهاده: (اتدفن بأوفرولي. الشهيد لا بيتغسِّل ولا بيتكفِّن .) وما حاجته إلى غُسلٍ وقد طهّره عطرُ الشهادة دائمُ الرحيق؟! وما حاجته إلى كفنٍ، وقد دثّره ثوبُ الوطن الذي لا يبلى؟!
الحلقة 28 من مسلسل "الاختيار" موجعةٌ وجارحةٌ. أدمت قلوبَنا حسرةً على رحيل أبطال نبلاء يستحقون الحياةَ أكثر من ملايين الأحياء، ولكنها نثرت زغاريدَ الفخر في قلوبنا؛ لأن في مصرَ رجالا عظماء يستشهدون ليولَد غيرهم. الآن أسمعُ كلمات أبي الروحي، المثقف الوطني "محمد نوح" يهتف في قلبي: “مدد مدد شدي حيلك يا بلدٍ/ وإن كان في أرضك مات شهيد/ في ألف غيره بيتولد.”
درسٌ عظيم لأبنائنا الصغار الذين لم يعاصروا حربَنا مع العدو الصهيوني كما عايشناها نحن. وحربُنا مع الإرهاب أشدُّ خطورةً وضراوةً وعمقًا من حربنا مع إسرائيل. لأن جبهتها قلبُ الوطن، وعدّو الوطن يتكلم لغتنا ويلبس ملابسنا ويختبئ في بيوتنا، وللأسف يحمل ملامحَنا المصرية، لكن مصرَ منه براء. مشهدُ المقاتل المصري النبيل وهو يسلِّم رشاشَه الخاص لزميلَه وهو يحتضِر، ليكملَ الأحياءُ منهم معركةَ الشرف التي أهرق الشهداءُ دماءهم الزكية قبل إتمامها، درسٌ خطير.
وضعنا المسلسل الذي التفَّ حولَه كلُّ شريف عربي ومصري فى قلب معركة التحرير الثانى لسيناء، وفي قلب موقعة مربع "البرث" التي استشهد فيها بواسلُ كتيبة 103 صاعقة، بعدما ظلّوا يقاتلون حتى النفس الأخير وأجسادهم تنزف الدماء من كل شلوٍ. شكرًا للشؤون المعنوية بالجيش المصري على توثيق شهادات البواسل الذين افتدونا بأرواحهم، فترمّلت زوجاتهم، وثكلت أمهاتُهم، وتيتّم أبناؤهم، فداءً لنا وقربانا لشرف مصر. شكرًا للمخرج العظيم "بيتر ميمي" ولكامل طاقم التمثيل والمونتاج والمؤثرات الصوتية والملابس والديكور على توثيق تلك الملحمة الخالدة التي ستكون تحصينًا صلدًا ومصلا ناجعًا لعقول النشء الصغير من فيروس التكفير والتطرف والإرهاب. وأما عن تساؤلات التغطية الجوية وغيرها، فأحيلكم إلى بيان المحلل والخبير العسكري: “محمد الكيناني"، الذي يُعدُّ درسًا وافيًا ودقيقًا لمهام الصاعقة والفروق بين الأسلحة المختلفة في الجيش المصري العظيم. “وقالوا إيه؟"، تحيا مصر. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

***