ابتسامةُ چورچ … ليندا صندوقُ اللآلئ


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6527 - 2020 / 4 / 1 - 12:20
المحور: الادب والفن     

سافرَ إلى السماء، وترك لنا ابتسامتَه. هي ذاتُها الابتسامةُ الآسرةُ كما عرفناها وسجّلتها الكاميرات؛ وكأن الزمانَ لا يمرّ. بصَفوها وعذوبتِها وطفولتها؛ وكأن المحنَ لم تَنَل من هذا الجسد الواهن. ازداد الوجهُ جمالاً، مع تلك الهالة الملائكية التي تُكلّلُ هاماتِنا مع الكِبَر. وربما مع الإيمان بأن يدَ الله حانيةٌ تمتد بالرغد والسلام، مثلما تسمحُ بالمرض والاختبار. لكن الحتميَّ أن تلك الابتسامة السابحةَ على وجه "جورج سيدهم"، وذاك الاطمئنانَ المغروس في ملامحه، يعودان إلى الزوجة الاستثنائية التي منحها اللهُ له، هدية سماويةً عظمى تفوق كنوز الأرض.
في بيتهما الجميل، يجلسُ "جورج" على مقعد وثير يجاور تمثال كبير للسيدة العذراء، عليها السلام، تمدُّ يدها البيضاءَ صوب قلبه الأبيض. يجاوره مقعدٌ آخر بالكاد تجلس عليه زوجته الجميلة "ليندا". فهي أغلبَ الوقت تُحوّم في الدار مثل عصفور لا يعرف الكسلَ ولا الخمول. هي الدكتورة الصيدلانية "ليندا مكرم"، رفيقةُ حياة "جورج سيدهم"، التي شاركته سنوات تألقه على خشبات المسرح، ثم حملت معه محنةَ مرضه ربع قرن، رافضةً أن يحمل معها التبعةَ الشاقّةَ أحدٌ سواها. فهي الحبيبةُ والزوجةُ والأمُّ والابنة والشقيقة والصديقة، وهي الأهلُ والسندُ والأصدقاءُ، وهي الصخرةُ التي ارتكن إليها "جورج" حين تهالك ساقطًا في غيبوبة المرض سنواتٍ طوالا، فكانت الحضنَ والسَّكن والدواء، ثم توكأ عليها رويدًا رويدًا، حتى اشتدّ عودُه ووقف على قدميه من جديد، وعادت مياه الحياة تسري في شرايينه، بعد يبوس. قصةٌ طويلة وهائلة تضيقُ عن سردها كتبٌ وقصائدُ وملاحمُ عشق. هي تجسيدٌ حرفيٌّ وجليّ لمقولة سليمان الحكيم: "امرأةٌ فاضلة، مَن يجدها؟ لأن، ثمنَها يفوقُ اللآلئ." لهذا؛ حين أهديتُ جورج أحد كتبي: "صانع الفرح"، كتبتُ على صفحته الأولى هذا الإهداء: "طوبى لكَ يا جورج، فها أنتَ قد وجدتَها."
منحني القدرُ بهجةَ أن أحتفل معهما بعيد ميلاده الأخير العام الماضي. كان حفلاً دافئًا بفيوض المحبة والفرح. وكان "جورج" في كامل أناقته، يشرقُ بابتسامته الوادعة التي عشقناها. صحتُه الجسدية والنفسية كانت في أفضل حال بفضل رعاية الزوجة الاستثنائية التي تصنعُ معه كلَّ يوم معجزةً جديدةً، على مدى خمسة وعشرين عامًا، منذ أقعده المرضُ. الصيدلانيةُ الجميلة تركت عملَها وتفرّغت لرفقة زوجها، كما ترافقُ أمٌّ وليدَها، الذي لا يعرفُ في العالم سواها، ولا يقوى على الحياة دون الاتّكاء عليها. طافت به العالمَ، راقدًا على سريره، شرقًا وغربًا بحثًا عن العلاج. وحدها دون معين إلا الَله الذي لا يُطلَبُ معه آخرُ. لم تلجأ إلى نقابة، ولا صديق. بل حملت، بكل رضًا وفرح، جبلَ المحنة وحدها، وكانت أهلا لها. منحها اللهُ صبرًا جميلا وبأسَ جيوش باسلة وفرحًا ملائكيًّا بأداء الرسالة. واللهُ لا يُضيعُ أجرَ من أحسن عملا. نهض "جورج سيدهم" من سريره بعد سنوات رقاد، واستطاع بفضل جهدها الأسطوري أن يجلس ويتكلم ويُحرّك أطرافه التي يبُست سنوات. عادت للجميل ابتسامتُه التي أسرت قلوبنا سنواتٍ وأجيالا، ولم تفارقه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
صديقتي الجميلة "ليندا". أعزّيكِ يا صندوق اللآلئ، وأهنئكِ لأنك أتممتِ رسالتك على النحو الأجمل والأكمل، حتى سافر حبيبُك وحبيبُنا إلى السماء، ملءَ قلبه فرحٌ ورضا وشكرٌ لله على نعمته الكبرى: أنتِ، ومحبة الناس. فأيُّ محظوظٍ هو بكِ يا ليندا. اسمُكِ على مسمّى: Linda بالإسبانية تعني: "الجميلة"، و Lenda بالبرتغالية تعني "الأسطورة". وأنت بالحقّ أسطورةٌ جميلة، ونموذجٌ نتعلّم منه معنى الحب ومعنى التضحية ومعنى المسؤولية، ومعنى التحضّر، ومعنى الإيثار.
في ديواني الأخير أهديتُكِ قصيدةً عنوانها: (يفوق اللآلئ)، كتبتُها على لسان جورج. اسمعي منها هذا المقطع بصوته:
(نعم يا حبيبتي/ أنا الجميلُ بكِ/ أنا المرْضِيُّ عنه بوجودكِ/ إلى جواري/ تُحوِّمين في أرجاءِ البيتْ/ مثل عصفورةٍ تطيرُ من غصنٍ إلى أيكةٍ/ تجمعُ القمحَ والشعيرَ/ لتُطعمَ صغارَها الضِعافَ/ وتعلمهم الطيرانَ والشدوَ/ أنا الآن صغيرُكِ/ يا صغيرتي/ فكيف لا أكونُ بألفِ خير؟!/ لا يُعوزُني شيءٌ/ مادمتِ حولي/ ... لا تعاتبي الرفاقَ الذين ينسون/ فالناسُ تنسى الصامتين/ ولا تعاتبي صمتي/ فصمتي صلاةٌ/ لم تعدْ بي رغبةٌ في كلامِ اللسان/ فاستبدلتُ به همسَ القلبِ/ الذي لا تسمعين/ في مخدعي كلَّ ليلةٍ/ قبل صلاةِ النومْ/ أهمسُ:/ أيها الملكُ سليمان/ أنا وجدتُها/ وجدتُها/ المرأةَ التي ثمنُها يفوقُ اللآليء.)
مع السلامة يا "جورج"، ستظلُّ حيًّا لأن "صُنّاعَ الفرح" خالدون. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***