العودة الى لينين 5


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6473 - 2020 / 1 / 26 - 02:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

استخدم الفيلسوف الماركسي الفرنسي المولود في الجزائر لويس ألتوسر (1918-1990) نص لينين بالذات, "رسائل من بعد", في ابتكار مفهومه "التناقض والإفراط في التقرير" وتطبيقه على وضع روسيا القيصرية ابان اندلاع ثورة اكتوبر ومفهوم لينين في كون روسيا الحلقة الاضعف في النظام الرأسمالي آنذاك.
Louis Althusser (1962)
Contradiction and Overdetermination
https://www.marxists.org/reference/archive/althusser/1962/overdetermination.htm

للتعريف بفكر التوسر وماركسيته المسماة عادة "الماركسية البنيوية", نستطيع القول أن التوسر اعتقد ان اعادة انتاج قوة العمل يتطلب عنصرين مهمين: إعادة إنتاج المهارات المطلوبة للعمل وكذلك اعادة انتاج خضوعها لقواعد النظام المعمول به. من خلال هذا, فهو لا يعني بشكل حصري خضوع الطبقة العاملة إلى الطبقة الحاكمة, بل يعني أيضًا إعادة إنتاج للقدرة على التلاعب بالأيديولوجية الحاكمة بشكل صحيح لصالح عناصر الاستغلال والقمع, حتى تتمكن أيضًا من ضمان هيمنة الطبقة الحاكمة من خلال الكلمات. هذا يعني أن المدارس ومؤسسات الدولة الأخرى لا تقوم فقط بتدريس المهارات اللازمة للإنتاج ولكن أيضًا تفعل ذلك بطريقة تضمن الخضوع للأيديولوجية الحاكمة. في التقليد الماركسي البنيوي, هناك فهم محدد للدولة. الدولة بالفعل هي جهاز الدولة, الذي يفهمه ألتوسر بالطريقة التالية: جهاز الدولة (بنية الدولة), هو الذي يحدد او يعرّف الدولة كقوة تنفيذية وماكنة للتدخل القمعي لصالح الطبقة الحاكمة في الصراع الطبقي الذي تخوضه البرجوازية وحلفاؤها ضد البروليتاريا. هكذا تتشكل الدولة وتفصح عن وظيفتها الأساسية. هذا الفهم يظهر للعيان أشكال الاستغلال والهيمنة اليومية الدقيقة والعنف الجسمي المباشر ضد الجماهير. بالنسبة إلى ألتوسر, تمتلك الإيديولوجية وجود مادي و يعتقد الفرد أنه يتصرف بناءً على إرادته عندما تكون إرادة الجهاز الأيديولوجي هي التي تهيئه من خلال الأيديولوجية للعمل بطريقة معينة والتي تعود بالنفع على الطبقة الحاكمة. للمزيد, يمكن مراجعة:
Understanding Structuralism Part 3: Louis Althusser, structural Marxism, and Ideological State Apparatuses
https://mediastudiesrepository.wordpress.com/2015/12/20/understanding-structuralism-part-3-louis-althusser-structural-marxism-and-ideological-state-apparatuses/

من أجل التماس تفسير للديالتيكية الماركسية وتسليط الضوء على التعقيد الكامن للممارسة التاريخية, وعدم قابليتها للاختزال لأي جوهر بسيط, وحتى الاقتصادي. ولفهم المقصود ب"التناقض والإفراط في التقرير" يسعى التوسر الى التمهيد لذلك بمعالجته اولا المفهوم الماركسي للتناقض فيما يتعلق بمثال معين: الموضوع اللينيني واستعارته "الحلقة الأضعف" - روسيا الحلقة الاضعف في النظام الرأسمالي ابان ثورة اكتوبر.

أعطى لينين هذا الاستعارة قبل كل شيء معنى عمليا. تكون السلسلة قوية فقط كقوة أضعف حلقة فيها. بشكل عام, أي شخص يسعى الى التحكم في موقف معين سوف يبحث عن نقطة ضعف في النظام التي ينبغي أن تجعل النظام بأكمله عرضة للخطر. من ناحية أخرى, أي شخص يريد مهاجمة النظام, حتى لو كانت احتمالات النجاح بالضد منه على ما يبدو, يحتاج فقط إلى اكتشاف نقطة الضعف هذه لجعل كل قوة النظام محفوفة بالمخاطر. ولا يوجد حتى الآن أستعانة بمكيافيلي او فوبان, اللذان كانا خبيرين في فنون الدفاع بقدر خبرتهم في تدمير الموقع والحكم على الاسلحة من خلال نواقصها.
(فوبان, 1633–1707 ، مهندس عسكري ومارشال فرنسي, قام بتطوير علم التحصين وابتكر أساليب حصار جديدة باستخدام سلسلة من الخنادق الموازية.)

ولكن, كما يقول التوسر, هنا يجب أن نولي اهتمامًا دقيقًا: إذا كان من الواضح أن لينين كان يسترشد بنظرية الحلقة الاضعف في نظريته عن الحزب الثوري (كان عليها أن تتجسد بدون نقص في الوعي والتنظيم لتفادي التعرض السلبي ولتدمير العدو), فانها كان أيضًا مصدر إلهام لآرائه حول الثورة نفسها. كيف كانت هذه الثورة ممكنة في روسيا, لماذا انتصرت هناك؟ لقد كان من الممكن انتصارها في روسيا لاسباب تتجاوز روسيا: لأنه مع إطلاق العنان للحرب الإمبريالية دخلت الإنسانية في وضع ثوري موضوعي. مزقت الإمبريالية القناع "السلمي" للرأسمالية القديمة. وقد أدى تركيز الاحتكارات الصناعية, وإخضاعها للاحتكارات المالية, إلى زيادة استغلال العمال والمستعمرات. المنافسة بين الاحتكارات جعلت الحرب حتمية. لكن هذه الحرب نفسها, التي سببت لجماهير واسعة, حتى للشعوب المستعمِرة التي انحدرت منها القوات, معاناة لا حدود لها, التي لم تسبب لهم المذابح قفط، بل انها ادخلتهم إلى التاريخ أيضًا كصانعون له. في كل مكان كانت التجربة, أهوال الحرب, بمثابة كشف وتأكيد لاحتجاج دام قرن كامل ضد الاستغلال الرأسمالي؛ النقطة الاهم هنا، أيضًا , ان التعرض المدمر لاهوال الحرب جعل منه وسيلة فعالة للعمل. ولكن على الرغم من أن هذا التأثير كان محسوسًا في الجزء الأكبر من قبل الجماهير في أوروبا (الثورة في ألمانيا والمجر, والتمرد والإضرابات الجماهيرية في فرنسا وإيطاليا, وسوفييتات تورينو), فقط روسيا, على وجه التحديد, الدولة "الأكثر تخلفًا" في أوروبا, أنتجت ثورة منتصرة. لماذا هذا الاستثناء المتناقض؟ لهذا السبب الأساسي: في "نظام الدول الإمبريالية" مثلت روسيا أضعف نقطة. كانت الحرب العظمى, بالطبع, قد عجلت و فاقمت هذا الضعف, لكنها لم تخلقه بنفسها. بالفعل, حتى في الهزيمة, كشفت ثورة 1905 ضعف روسيا القيصرية. كان هذا الضعف نتاج هذه الميزة الخاصة: تراكم وتفاقم جميع التناقضات التاريخية التي كانت ممكنة في دولة واحدة. تناقضات نظام الاستغلال الإقطاعي في فجر القرن العشرين, ومحاولة أكثر شراسة للحكم من قبل النظام القيصر من أي وقت مضى وسط تهديدات متزايدة للحكم, و باستناد الحكم على كهنوت مخادع, وبوجود كتلة هائلة من الفلاحين الجهلة (الظروف التي تملي التحام ثورة الفلاحين مع ثورة العمال). تناقضات الاستغلال الرأسمالي والإمبريالي الواسع النطاق في المدن الرئيسية وضواحيها ، في مناطق التعدين, وحقول النفط ، إلخ. تناقضات الاستغلال الاستعماري والحروب المفروضة على شعوب بأكملها. كان هناك تناقض هائل بين مرحلة تطوير أساليب الإنتاج الرأسمالية (خاصة فيما يتعلق بالتركيز البروليتاري: كان أكبر مصنع في العالم في ذلك الوقت مصنع بوتيلوف في بتروغراد, الذي شغل 40000 عامل ومساعد, وكان ينتج الاسلحة والتراكتورات وعدد السكك الحديدية. Putilov Works: https://socialhistoryportal.org/news/articles/109766) في تناقض مع ريف القرون الوسطى. تفاقم النضال الطبقي في جميع أنحاء البلاد, ليس فقط بين المستغَلين والمستغِلين, ولكن حتى داخل الطبقات الحاكمة نفسها (أصحاب الاطيان الإقطاعية الكبرى يدعمون القيصرية البوليسية الاستبدادية والعسكرية؛ النبلاء الأصغر كانوا متورطين في مؤامرات مستمرة؛ البرجوازية الكبيرة والبرجوازية الليبرالية في مواجهة القيصر, تأرجحت البرجوازية الصغيرة بين مهادنة النظام و "اليسارية" الأناركية). أضاف المسار المفصل للأحداث ظروفًا "استثنائية" أخرى, غير مفهومة خارج "تشابك" التناقضات الداخلية والخارجية لروسيا. على سبيل المثال, الشخصية "المتقدمة" للنخبة الثورية الروسية التي تعيش في المنفى بسبب القمع القيصري استطاعت التحضر وان تستوعب كامل تراث التجربة السياسية للطبقات العاملة في أوروبا الغربية (قبل كل شيء ، الماركسية)؛ كان هذا صحيحًا بشكل خاص في تشكيلة الحزب البلشفي، متقدماً بفارق كبير على أي حزب اشتراكي غربي في الوعي والتنظيم؛ "بروفة التدريب" في ثورة عام 1905 ، والتي, بالاقتران مع معظم الأزمات الخطيرة, أدت إلى احتدام العلاقات الطبقية بشكل حاد, وبلورتها وجعلت من الممكن "اكتشاف" شكل جديد من التنظيمات السياسية الجماهيرية: السوفييتات (حول السوفيتات, يمكن مراجعة كتاب لينين: ما هى سلطة السوفييت؟ : مقالات و خطابات. ترجمة الياس شاهين. دار التقدم https://books.google.at/books/about/%D9%85%D8%A7_%D9%87%D9%89_%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81%D9%8A%D9%8A%D8%AA_%D9%85%D9%82.html?id=W-FhQgAACAAJ&re--dir--_esc=y )

أخيرًا , وليس أقل ما يلفت الانتباه, سمحت "فترة نقاهة" غير متوقعة لألأمم الإمبريالية المنهكة للبلاشفة بأن (يفتحوا الابواب) ويدخلوا التاريخ, اضافة الى الدعم اللاإرادي ولكن الفعال للبرجوازية الأنجلو-الفرنسية, التي, في هذه اللحظة الحاسمة, رغبت في التخلص من القيصر, وفعلت كل شيء لمساعدة الثورة. باختصار, كما توضح هذه التفاصيل على وجه التحديد, كان الوضع المميز لروسيا فيما يتعلق بالثورة المحتملة مسألة تراكم وتفاقم للتناقضات التاريخية التي كان من الممكن أن تكون غير مفهومة في أي بلد لم يكن, كما كانت روسيا, متزامنًا على الأقل مع تخلفها لقرن من الزمن خلف العالم الإمبريالي, ولكن في ذروة تطورها فيما يتعلق الامر بامكانية قيام الثورة.
يتبع