صخرةُ العالم … وسوطُ السجّان


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 6162 - 2019 / 3 / 3 - 13:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


جلستُ أفكّر في ضيف شرف صالوني الشهر القادم. ولا أدري لماذا ألحَّ عليّ ذلك الرجلُ العظيم، الذي تفصِلُني عنه الآن حُجُبٌ وأسوارٌ، وأسرارٌ لا أعرف كُنهَها. لن يكون ضيفَ صالوني أبدًا، لأنه في مكان بعيد لا أعرفُ إليه سبيلا. مضى وترك هذا العالَم الحزين ونحن في أمسِّ الحاجة إلى رأيه وعقله وفلسفته ووطنيته. على أنه، قبل أن يمضي، ترك لي هديةً ثمينة من كلماته، تُزيّنُ صدرَ أحد كتبي في شكل مقدمة فاتنة، أعتبرُها أرفعَ الجوائز الأدبية التي حصلتُ عليها.
جلسَ أمامي يُعلّمني قائلاً: "يا مسجون... حَطِّمِ الصخرةَ بالفأس. للصخرةِ سبعةُ أبواب، حدِّدْ مكانَ الباب، واضربْ"، هكذا كان يزعقُ السجّانُ الخشنُ في وجه المفكر الكبير وهو يلوّحُ بالسَّوط. ذلك السوطُ الآثمُ نالَ من جسد الفيلسوف في المعتقل السياسي. أثناء النهار كان السجّانُ يقسو على السجين الكبير ويجعله يُكسِّر الصخورَ بالمعول حتى ينالَ منه التعبُ تحت لهيب الشمس. وفي المساء، كان العالِمُ يدعو السجّانَ الأُميَّ إلى زنزانته، لكي يُعلّمَه القراءةَ والكتابة وشيئًا مما فاته من المبادئ وقانون الأخلاق. هنا، أُقاطِعُ الأستاذَ وأهتفُ في عجبٍ: "يا أستاذ محمود! السجّانُ يجلدُك بالسياط نهارًا، وأنتَ تمحو أميّتَه في الليل؟!” فيقول، وابتسامتُه الرائقةُ الشهيرةُ تُشرِقُ على وجهه: "طبعا يا فاطمة يا حبيبتي. كلٌّ منّا يؤدي دورَه في الحياة بإخلاص وجدية. السجّانُ يظنُّ أنني مذنبٌ أستحقُّ العقاب؛ لأنهم أفهموه أنّ المطالبة بالديمقراطية مُروقٌ وخروجٌ عن القانون بدليل أنني مسجون. ولذلك كان جلْدُه لي واجبًا وطنيًّا يؤديه بأمانة. وواجبي أنا، كان حقَّه الذي في عنقي: وهو تعليمُه وتثقيفه هو وغيره من الأميين الذين فاتهم حظُّ التعليم.” أسألُه بحُبٍّ وإعجاب: "يعني أنتَ لم تكره سجّانَك يا أستاذ؟" فيجيبني بحسمٍ: "مطلقًا! بالعكس! كنتُ أحبُّه وأشفقُ عليه وأشعرُ بالمسؤولية تجاهه. هو ضحيةُ التغييب والجهل. وكنتُ أتعلّم منه أسرارَ الصخور ومفاتيحَ أبوابها. أُصغي إليه وهو يتفحّصُ الصخرةَ الكبيرةَ، ثم يشيرُ بإصبعه على مكامن ضعفها السبعة، التي هي أبوابُها، ثم يأمرني أن أهبطَ بمِعولي فوق تلك الأبواب، فتتحطم الصخرة. ذاك كان عملي في عقوبة الأشغال الشاقة. لا تتفتتُ الصخرةُ إلا من نقاط ضعفها السبع، أو أبوابها السبعة. السجّانُ الماهرُ يُعلمني بالنهار كيف أفتِّتُ الصخرَ، وأعلمه أنا بالليل كيف يفتِّتُ أسوارَ العتمة من حوله." وبعدما ينتهي الأستاذُ الجميلُ من تعليم سجّانه الأبجدية والأخلاق، يقضي بقية ليله الطويل بالزنزانة في كتابة القصائدِ على الحوائط. تلك القصائدُ لا تزالُ شاهدةً وحيّة، شاهدتُها بنفسي ، على حوائط سجن القلعة، ترفض الحيطانُ أن تمحوَها!
ذلك هو المُفكّرُ والمناضلُ الوطنيُّ الذي فقدناه في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، فسقطت برحيله من صندوق جواهرنا أيقونةٌ حُرّةٌ نادرةٌ عزَّ نظيرُها. هو الفيلسوفُ الذي كنتُ أسيرُ معه من المجلس الأعلى للثقافة، وحتى بيته في جاردن سيتي، فأراه يصافحُ البسطاءَ في الطرقات، ويمازحُ البوابَ والسائس والشحاذَ، يسأل عن أولادهم ويسمع شكاواهم! هكذا يفعلُ الكبارُ والأنبياءُ الذين يدركون أن البسطاءَ هم "مِلحُ الأرض" وكنزُ الحياة الذي يجب الاستثمارُ فيهم حتى نعلو ونرتقي.
إنه الفيلسوف المصري الاستثنائي صاحب الأطروحة الملهمة: "فلسفة المصادفة"، التي تُضفرُ الفيزياءَ بالرياضيات بقانون الاحتمالات مع الفلسفة والنقد السياسي والجدلية التاريخية في جديلة فاتنة وخطيرة الدلالات، تجعلك تعيد قراءةَ التاريخ بعينين جديدتين مُبصرتين بوعي جديد وفكر مختلف. المفكر الكبير وأبي الروحي "محمود أمين العالم"، التي توافق ذكراه هذه الأيام.
وأما الطُّرفةُ التي لا أنساها، فكانت بسبب المقدمة الجميلة التي كتبها لأحد كتبي، وأعتبرُها، وسامًا فوق صدري أفاخرُ به العالمين. كانت المقدمة بعنوان: “تحذير ومقاربة”، يحذِّرُ فيها الأستاذُ القارئَ من القراءة السطحية غير العميقة، ويدعو إلى قراءة كتابي بحذر وتعمّق ودون استسهال. بعد صدور الكتاب عام 2006، نشرت جريدةُ "الأهرام" خبرًا ذكيًّا تحت مانشيت مخاتل يقول: "العالم يحذِّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد". يومها أيقظني رنينُ الهاتف في السادسة صباحًا، لأجد أمي تصرخ في الهاتف: "هببتي ايه في كتابك الأخير؟ وليه بيحذّروا الناس منه؟!" والحكاية أن الخبر لم يضع كسرةً تحت اللام في كلمة "العالِم"، فقرأتها أمي: "العالَم يُحذّر من كتاب ناعوت!"، وارتعبتْ أن يكون كلُّ العالَم ضدي، ويحذِّر من كتابي!
ذلك المفكرُ الجليل والأبُ الروحي، الذي رحل عنّا يوم 18 فبراير 2009، لن يكون ضيفًا شرفيًّا في صالوني أبدًا، لكنه ضيفٌ دائمٌ في قلبي وعقلي ما حييتُ. فطوباه وسلامٌ عليه، وقُبلةُ احترام على يده التي حملتِ القلمَ في وجه سوط السجّان. فسقطت السياطُ، وبقي القلمُ خالدًا لا يموت! “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

***