الاسطورة: ترنيمة الالم وانشودة العذاب!


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6124 - 2019 / 1 / 24 - 03:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في مقالتي السابقة
"عبد الكريم قاسم: الاضطراب النفسي ليس ضعفا او سبة!"
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=625397
افترضت ان موسكو اوعزت الى الحزب الشيوعي العراقي بأن لا يسعى الى استلام السلطة في عهد رئيس الوزراء عيد الكريم قاسم, 1958-1963, ولكن العكس قد يكون صحيحا, اي ان الحزب الشيوعي العراقي نفسه هو الذي اسّر الى موسكو بعدم سعيه الى استلام السلطة, وان رأي موسكو كان انعكاسا لرأي الحزب الشيوعي العراقي او تلبية لرغباته او على الاقل 50/50.

ليست لدي معلومات كافية او وثائق لترجيح وجهة النظر هذه او تلك. والمؤرخون لربما سيسعفوننا بمعلومات ووثائق بخصوص موقف موسكو من استلام الحزب الشيوعي للسلطة. فاكثر المعلومات بهذا الخصوص هي تكهنات وان كانت تبدو انها ذات مصداقية عالية, ولكننا, حسب علمي, لا نملك وثائق دامغة من قبل موسكو تؤكد على معارضتها لاستلام الحزب السلطة في العراق. واني ازعم ان موقف موسكو هو وجه العملة الآخر لعدم تحمس او معارضة الحزب الشيوعي لاستلامه السلطة بدلالة, كما اوردت في المقالة, عدم استعداد قادته وكوادره الى حد كبير (واقتصرت المقاومة على نطاق جغرافي محدود ولبضعة ابام فقط), لحمل السلاح لحماية انفسهم ورفافهم وجماهيرهم اثناء حصول انقلاب شباط الدموي 1963, وكذلك في عدم قدرتهم على القيام بعصيان مسلح شامل بالضد من الانقلاب. ان الحزب في سلوكه كان بعيدا كل البعد عن السلوك الثوري اللامازوخي, فهو اما لم يستطع قراءة الخارطة الطبقية بوضوح. او ان الرغبات الذاتىة للقادة واحلام اليقظة طغت على التقييم العلمي الصارم للتركيبة الطبقية للسلطة وتداخلها بعوامل اخرى, بضمنها العوامل والحوافز النفسية والاستعداد البدني والعسكري لحماية الذات والحزب وجماهيره عسكريا اذا اقتضت الضرورة.

واني اكرر استغرابي وتساؤلي بخصوص لماذا لم يدافع سلام عادل ورفافه عن انفسهم باستخدام سلاحهم الشخصي؟

سلام عادل نفسه قضى فترة طويلة في الاتحاد السوفيتي بصفته سكرتير الحزب.
"تأزمت العلاقة مع السلطة في عام 1960 ، بعد صدور قانون الاحزاب ، ولم تجز السلطة طلب العمل العلني للحزب الشيوعي العراقي ، بل اجازت جماعة منشقة حملت اسم الحزب . وفي خضم تلك التطورات ، برزت في قيادة الحزب كتلة الاربعة التي وجهت اصابع النقد الى قيادة سلام عادل .
سافر سلام عادل مع الشهيد جمال الحيدري الى موسكو ، ولم يعد الا في ايلول 1962 بعد غياب جاوز السنة والنصف"
سلام عادل.. مسيرة لامعة
http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=4069#sthash.8DBZPil9.dpbs

فما الذي فعله سلام عادل في موسكو؟ فحسب علمي, لم ينتج سلام عادل هناك او لاحقا اي عمل نظري ذا شأن. فكيف قضى سلام عادل وقته هناك اذن-يبدو ان وجوده في موسكو كان اشبه بعقوبة حزبية وقد سبب عنده مشاعر الامتعاض وكبح رغبته في التطوير الذاتي بجوانبه المختلفة (يعاقب نفسه كوجه عملة آخر للعقوبة الحزبية!), ولكنه لربما ايضا اعتبر نفسه متكاملا فكريا او ذاتيا بدلالة كونه سكرتير الحزب المعترف به من قبل اعلى مرجعية شيوعية عالمية وقتها, شيوعية الكرملين. كما يبدو ان سلام عادل, حاله حال الحركة الشيوعية الرسمية وقتها والآن الى حد كبير, لم يسمع بمنطق اللاتكامل الرياضي الذي اوجده Kurt Goedel في عام 1931
An Introduction to
Goedel’s Theorems
Peter Smith
https://www.karlin.mff.cuni.cz/~krajicek/smith.pdf
ولا اعتقد ان المدارس الحزبية في موسكو اوعموم الاتحاد السوفيتي والدول التابعة كانت تدّرس هذا المنطق لانه كان سيشكل الاطروحة النقيض لتكامل اية نظرية, سواء كانت ماركسية او خلافها.

فلماذا اذن لم يطور سلام عادل نفسه, بدنيا (وفكريا), بتدربه على حمل السلاح في موسكو بدل ان يكتفي بحضور محاضرات (غسل دماغ) في كيفية تعلم الشيوعية الانضباطية-السلطوية (شيوعية المعتوه والمهرج خروتشيف!؟) في اقصر فترة زمنية ممكنة؟ الم يتلقَ سلام عادل تدريبا عسكريا هناك او يتعلم كيفية التفاعل نفسيا و ذهنيا مع الازمات او كيفية توزيع الادوار وعلوم التواصل البشري؟ الم يتعلم استخدام السلاح الخفيف هو ورفاقه للدفاع عن انفسهم او في حالة اختيارهم سلوك الكفاح المسلح؟ مَن توقعوا ان يدافع عنهم عندما تتأزم الامور وتكون حياتهم في خطر؟ اليس من واجبات القيادة والكادر تعلم قواعد وتمارين الدفاع عن النفس وعن الحزب وجماهيره باستخدام كل الوسائل المتاحة والممكنة؟ لماذا لم يكن التدريب على حمل السلاح والدفاع عن النفس جزءا من متطلبات احتلال مركز قيادي او حتى لعموم الكادر؟

يبدو ان التدريب كان هو النقيض ويقتضي, ضمنا وليس بالقصد, الاستسلام بدون ادنى مقاومة وذلك لتسهيل عمل العدو والانقياد كالحمل الوديع الى المجزرة كي تُسلخ الضحية على قبلة الانقلابيين الساديين! فهل توقعت قيادات الحزب ان الانقلابيين سوف لا يعاملونهم وكوادر الحزب وجماهيره بقبضات حديدية وحتى ليست في قفازات من حرير, وسيوفرون للكل محاكمات عادلة؟ نعم, يبدو ان هذا ما توقعوه وانفصالهم عن الواقع وذهانهم هنا ليس له من مثيل! وتعريف الذهان في الطب النفسي انه انفصال عن الواقع
psychosis as detachment from reality

وعدم الرغبة او القدرة على استخدام السلاح للدفاع عن النفس والحزب هو مرض خطير جدا لا يزال موجودا, او قد تفاقم حتى, لدى قيادات الحزب الحالية التي اغلبها من كبيري العمر وقد استرطبت حياة الدعة والصالونات واستهوتها, فانعدمت لديها بذلك الرغبة في تأهيل ابدانها وشحذ اذهانها و ايقاظ همتها الثورية. والابدان والعقول في تفاعل مستمر, وعلى عكس ما زعم به الفيلسوف رينيه ديكارت. وهذا يفسر ابتذال الماركسية التي تساوي العلم بالعلم الامبريقي او التجريبي او الطبيعي والتي تحيل الماركسية الى علم رجعي حالها حال علوم الفلسفة الوضعية, وتحيل البشر الى زومبيات تحركها, كما لدى هيغل, الروح المطلقة التي تجسدها قوانين الطبيعة في تقمصها لقوانين التاريخ البشري. انها تلغي المادية التاريخية, وتحيل المادية الديالكتيكية الى مادية غائية (شبه) لاهوتية لتلاحق الروح المطلقة, السراب, بدل ان تكون سرديتها هي حصيلة تفاعل اطروحاتها ديالكتيكيا, حيث يلعب الانسان فيها دورا حاسما. واذا كان ولا بد من دور للآلهة فدورها لا يتسامى فوق دور الانسان. الانسان هو الذي يحكم ويتحكم في الآلهة وليس العكس! والزومبية هي الزومبية سواء كانت تتلبس لباس الرأسمالية او الشيوعية او خلافهما.

وحصيلة ميكانيكية علم ديكارت هي كتل جسمية خائرة العزيمة, معدومة الارادة, وقادرة فقط على لعب دور الضحية العصابي وتمجيد ثقافة الاستشهاد, ثقافة الموت, وكأن الشهادة, او الموت, هو الهدف الاسمى والأعلى. والموت المقصود هو موت الذات وليس موت العدو. ان انتحار قاسم هو وجه العملة الآخر لانتحار الشيوعيين العبثي والمجاني او بالعكس.

والانتحار الجماعي للكل يدلل على ان العصاب او الاضطراب النفسي يمكن ان يشمل العقل الجماعي للاطراف المعنية بمجملها ولا يقتصر على الزعامة فقط, فالكل يغذي الاجزاء والاجزاء تغذي الكل بثقافة الموت في صيرورة مستمرة من الدمار والهلاك- الكلمات, التي تفعل فعلها عبر الحكمة والامثال وما يسمى "الفطرة السليمة", تكون هنا التربة والبذور والسماد اللازم لزراعة ثقافة الموت, كما كان كروزيبسكي لربما سيقول في كتابه المشار اليه سابقا. فسلوك سلام عادل وقيادات وكوادر الحزب في جوهرها تماثل سلوك قاسم في استسلامه وخضوعه كمحصلة لارادة الانقلابيين في الاستسلام بدون مقاومة او بالحد الادنى منها ان امكن.

ولذلك السؤال الذي لم يسألني احد من قراء مقالتي رغم بديهيته:
هل سيكون الشيوعيون قادرين, او بالاحرى راغبين, على حماية السلطة في حالة استلامها في زمن قاسم؟ ان عدم المقاومة وشيوع الروح الاستسلامية لدى قيادة الحزب وكوادره تحملنا على اختيار اجابة واحدة فقط لا غير. الحزب في حالة استلامه السلطه سوف لن يكون مستعدا او راغبا على حماية السلطة برغم قدرته, جماهيريا وعسكريا (!) , لذا قرر عدم استلامها والانتحار كما انتحر قاسم. الحزب لم يستطع وضع حدود فاصلة, نفسيا او عصابيا, بينه وبين قاسم. لذا استسلم الحزب وانتحر كما فعل قاسم!

ويبدو ان العصاب لم يكن عصابا, بل ذهانا (جماعيا)!

ولأن للمتدينين في العراق, من اتباع الحسين على الاقل, اسطورتهم كما تتجسد في شهادته او استشهاده , فلا بد للشيوعيين, لتحقيق العدالة والتوازن, ان يكون لهم اسطورتهم المماثلة هم الآخرين, كما في الفيديو ادناه
سلام عادل..الرجل الأسطورة
https://www.youtube.com/watch?v=4HvDqjLMflY

واحتمال ارتفاع الموت كحتمية مبتذلة, كابتذال العلم الميكانيكي, الى درجة الاسطورة والخلود تتزايد بزيادة هتك الاجساد وتقطيع الاوصال, وفي ان تكون الاسطورة ترنيمة الالم وانشودة العذاب!