التفسير التاريخي لعلاقة الجيش بالسياسة في الجزائر(1)


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6067 - 2018 / 11 / 28 - 20:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

التفسير التاريخي لعلاقة الجيش بالسياسة في الجزائر(1)


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-



أن تأثير الجيوش في السياسة وصناعة قرارات الدول هي ظاهرة عرفها التاريخ البشري منذ القدم ولازالت سائدة إلى حد اليوم، وتعرفها كل دول العالم، لكن باشكال متفاوتة من دولة إلى أخرى، وقد عرف هذه الظاهرة التاريخ الإسلامي بشكل كبير جدا، خاصة منذ أن تم إبعاد الفقهاء عن بلاط الخلفاء لصالح أصحاب السيف، بل أكثر من ذلك فقد تزايد نفوذ الجيش في دولة الخلافة منذ عهد الخليفة العباسي المعتصم الذي أستعان بالجند التركي للحفاظ على خلافته، والذي أصبح له القرار الأخير شيئا فشيئا ، أما بالنسبة لبلادنا المغاربية، فقد عرفت ظاهرة إنشاء البدو للدول بالإعتماد على قوتهم العسكرية كما حللها بن خلدون، وعادة ما يلجأ الحاكم إلى مرتزقة في مرحلة ضعف الدولة، فيتحكمون في شؤونها، كما عرفت الجزائر في العهد العثماني تحكم الجيش في النظام السياسي، فكان الإنكشاريون هم وراء تعيين الأغوات حتى سادت الفوضى، ثم استولت بعدهم الأميرالية أو رياس البحر على النفوذ، فأصبحوا وراء تعيين الدايات .
وإن كانت هذه الظاهرة بعيدة الجذور، إلا أننا نكتفي بالجذور القريبة التي تمتد إلى عهد المقاومة ضد الإحتلال الفرنسي للجزائر، ونتناول هذه الجذور على مرحلتين: تتمثل في مرحلة ماقبل إندلاع الثورة المسلحة عام1954 ثم أثناءها .
قد يستغرب البعض إذا قلنا انه توجد علاقة بين مجال عسكري ومجال سياسي في الفترة ما قبل إندلاع الثورة المسلحة عام 1954، وكي نوضح ذلك، نقول إن الجزائر عرفت مباشرة بعد الإحتلال عام 1830 مقاومات عسكرية ضد الفرنسيين، ومنها مقاومة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري ومقاومات كل من لالا فاطمة نسومر والحاج المقراني والشيخ الحداد في منطقة القبائل وأحمد باي في الشرق الجزائري والشيخ بوعمامة في الجنوب الغربي والشيخ آمود عند الطوارق وغيرها من المقاومات، وقد فشلت هذه المقاومات العسكرية كلها في تحرير البلاد من المحتل، مما أدى إلى اقتناع الكثير من الجزائريين في نهاية القرن التاسع عشر بأنه من الصعب جدا تحرير البلاد بالأساليب العسكرية، فشرعوا في التفكير في مقاومة ثقافية وأساليب سياسية من أجل القضاء على النظام الإستعماري، ويمكن لنا القول، إنه في بدايات القرن العشرين ترسخ في الأذهان فشل الأساليب العسكرية في تحرير البلاد، فعاد القرار من جديد إلى الأساليب السياسية بقيادة السياسيين الذين بدأوا في إنشاء التنظيمات السياسية، فظهر ما يعرف تاريخيا بالنخب التي شرعت في الكفاح السياسي .
وعلينا أن نسجل هذه الملاحظة الهامة جدا، لأنها ستفسر لنا العديد من الأمور حول العلاقة بين العسكري والسياسي في الجزائر أثناء الثورة المسلحة، وتتمثل هذه الملاحظة، في أن المقاومة العسكرية في القرن التاسع عشر كانت ريفية لدرجة أن أطلق عليها البعض ثورات الفلاحين، كما فعل مصطفى لشرف على سبيل المثال لا الحصر، أما المقاومة السياسية، فقد ظهرت في المدن على يد البرجوازية المدينية، ولم تكن راديكالية في مطالبها، أي أستندت على العمل المرحلي والتدريجي، أما سكان الأرياف فقد انغلقوا على أنفسهم رافضين كل ما يأتيهم من أوروبا أو حتى من السياسيين في المدن الذين اعتبروهم متأوربين-أي متأثرين بالثقافة الأوروبية ونمطها المعيشي، وبعبارة أخرى دخل الريف في مقاومة ثقافية سلبية ضد المستعمر .
لكن في نفس الفترة، وبسبب عدة أزمات، عرفت الجزائر هجرات ريفية إلى المدن، كانت أهمها هي الهجرة إلى فرنسا خاصة سكان منطقة القبائل، فاكتشف هؤلاء الريفيون العمل السياسي في فرنسا، فشكلوا هناك تنظيما سياسيا سموه نجم شمال أفريقيا عام 1926، فأعطوا لتنظيمهم صبغة ريفية، فكان راديكاليا وثوريا في طروحاته، فأعاد من جديد احياء فكرة المقاومة المسلحة كأسلوب لتحرير البلاد، والتي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، أو ما سمى بالعنف الثوري، فقد حلت السلطات الفرنسية تنظيم نجم شمال أفريقيا عدة مرات، قبل أن ينتقل إلى الجزائر، ويحمل تسمية حزب الشعب الجزائري عام1937، ثم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية عام 1946، وقد انتشر هذا التنظيم بقوة في الأرياف وفي صفوف سكان المدن ذوي الأصول الريفية .
لقد عرفت هذه الفترة صراعا بين هذا التنظيم الريفي الراديكالي والتنظيمات السياسية المدينية الأخرى، فكان الأول يدعو إلى العنف الثوري كحل لتحرير البلاد، فوضعه هذا الطرح في موقف المواجهة، ليس فقط مع النظام الاستعماري، بل أيضا مع التنظيمات السياسية المدينية التي كانت تدعو إلى حل سياسي مرحلي رافضة أساليب العنف، ومنددة بهذا التنظيم الريفي الثوري، وقد أطلق على هذه التشكيلات المدينية تسمية الإصلاحية السياسية، وتتمثل في كل من جماعة فرحات عباس الذي أسس الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري عام 1947، والحزب الشيوعي الجزائري، وكذلك جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس ثم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والتي كانت حليفة لفرحات عباس على الصعيد السياسي ومعادية للتنظيم الراديكالي الريفي الذي يرأسه مصالي الحاج .
يمكن لنا القول أن هذا الصراع هو صراع بين ريفيين يؤمنون بالحل العسكري وسياسيين مدينيين يِؤِمنون بالحل السياسي للتخلص من الإستعمار، لكن هذا الصراع بين الطرفين، امتد حتى إلى داخل هذا التنظيم الثوري الراديكالي الذي أصبح يحمل إسم الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ما أنضم إليه بعد هذه الحرب بعض المدينيين أو الريفيين الذين تخرجوا من المدارس الفرنسية وتأثروا بها، وأصبحوا يسيطرون على اللجنة المركزية للحزب، فدخلوا في صراع مع مصالي الحاج رئيس الحزب الذي كان مدعوما بقاعدة الحزب الريفية، وكاد أن يتفتت هذا التنظيم الإستقلالي، لولا تدخل عناصر المنظمة الخاصة، التي هي عبارة عن تنظيم شبه عسكري تابع للحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية، مهمته التحضير للعمل المسلح من أجل تحرير الجزائر، فأخذت عناصر هذه المنظمة مبادرة الشروع في العمل المسلح، وإجبار الطرفين المتصارعين، أي المركزيين والمصاليين، على الإلتحاق بالعمل المسلح، وبذلك اندلعت الثورة المسلحة في ليلة أول نوفمبر من عام1954 .
وهكذا سيطر أعضاء المنظمة الخاصة الشبه العسكرية على زمام الثورة المسلحة، ومن هذه المنظمة انبثقت الطلائع الأولى لجيش التحرير الوطني بصفته الجناح المسلح لجبهة التحرير الوطني التي قادت الثورة التحريرية، فقد كان لأعضاء المنظمة الخاصة شبه العسكرية الفضل في إنقاذ الحركة الإستقلالية من المأزق التي أوصلها إليه هؤلاء السياسيين داخل الحركة، هذا دون أن ننسى الإشارة، إلى أن أغلب أعضاء المنظمة الخاصة شبه العسكرية، كانوا ينظرون بعين الريبة والشك، إن لم نقل الإحتقار لهؤلاء السياسيين الذين كانوا يرون فيهم بأنهم يتصارعون من أجل المكاسب التي سيجنونها من الفوز في الإنتخابات التي كانت تنظمها الإدارة الإستعمارية، ولم ينس هؤلاء الأعضاء ذوي الجذور الريفية، كيف تخلى عنهم هؤلاء السياسيين عند اكتشاف السلطات الإستعمارية للمنظمة الخاصة عام 1950، ويجرنا هذا كله إلى تناول العلاقة بين الطرفين أثناء الثورة التحريرية.



البروفسور رابح لونيسي