هل تخلت الصين عن الماركسية؟-قراءة في نموذجها-


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7847 - 2024 / 1 / 5 - 15:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لم يبق اليوم بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية إلا ثلاث دول يحكمها حزبا شيوعيا واحدا هي الصين الشعبية وكوريا الشمالية وكوبا، لكن لم تحقق هذه الدول أي تقدم يذكر بإستثناء تزايد الإستبداد والدكتاتورية بإسم الحزب الواحد الذي عادة ما يستخدم كغطاء للتسلط والنفوذ، بل حتى للسلب والنهب. لكن نستثني من ذلك الصين الشعبية التي حققت قفزة كبيرة جدا على المستوى الإقتصادي مع الإبقاء على حكم الحزب الواحد الشيوعي الذي يضم اليوم حوالي 95 مليون مناضل حسب المؤتمر العشرين لهذا الحزب الذي انعقد في 2022، وكرس جين بينغ حاكما واحدا للصين، والذي قال صراحة أثناء هذا المؤتمر بأن الصين ستبقى شيوعية يحكمه الحزب الواحد.
لكن المتتبع لتطور هذا الدولة يلاحظ أنه في الوقت الذي لازال يحكمها الحزب الشيوعي إلآ أن إقتصادها رأسمالي بحت، ويتوسع يوميا على المستوى العالمي مثلها في ذلك مثل توسع الرأسمالية الغربية. وهو ما يدفع إلى التساؤل.: أين هي الماركسية في الصين الشعبية، فهل تتمثل في حكم الحزب الواحد الذي لم يقل به ماركس على الإطلاق. لم يضع ماركس أي نظام سياسي محدد بمختلف مؤسساته كما يقول روجي غارودي، بل وضع مباديء عامة حلل فيها ميكانيزمات التطور الرأسمالي وآليات إستغلالها للطبقات الكادحة محليا وعالميا حسب تعبيره، فالذي وضع مؤسسات ونظام شيوعي هو لنين بما سماه بالماركسية-اللنينية، ثم كرسها بشكل إستبدادي ستالين. فأصبح النموذج السوفياتي النموذج الواحد للشيوعية في العالم، مما جعل مفكرا ماركسيا كروجي غارودي يطرد من الحزب الشيوعي الفرنسي لأنه ليس فقط ندد بالتدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا عام1968، بل لأنه قال بتعدد الإشتراكيات، وأنها يجب أن تخضع لخصوصيات كل بلد.
في الحقيقة لم تتخل الصين فعلا عن الماركسية، بل عادت إلى منبعها الأصيل، وهو ضرورة المرور بمرحلة رأسمالية قبل تحقيق الإشتراكية كما قال ماركس الذي تنبأ بأن الشيوعية ستتحقق في أنجلترا بحكم أنها الأكثر تصنيعا. لكن لم يتحقق ذلك بسبب لجوء القوى الرأسمالية الغربية إلى الإستعمار لإنقاذ نفسها من ثورات كانت على الأبواب، فتمكنت من إرشاء الطبقات العاملة بحكم نهبها لثروات الشعوب المستعمرة. هذا ما أدركه لنين على عكس ماركس الذي كان يعتقد أن الإستعمار الأوروبي سيدخل الرأسمالية إلى مجتمعات البلدان المستعمرة التي كان يسودها –حسبه- نمط الإنتاج الأسيوي أين تغيب الملكية الخاصة، فأنعدمت أي ديناميكية إقتصادية بسبب غياب التبادلات وإكتفاء كل قرية ذاتيا، خاصة العالم الإسلامي.
لكن اقتنع لنين أن الإستعمار الأوروبي الحديث كان هو حل للأزمة الدورية الأولى التي وقعت فيه الرأسمالية في بداياتها بسبب تضخم الإنتاج، مما يتطلب إستعمار بلدان بحثا عن مناطق للإستثمار وأسواق لسلعها وثروات وأيد رخيصة. وهو ما وضحه بشكل مفصل في كتابه "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" متاثرا في ذلك -حسب ما يبدو- بالأنجليزي هوبسن الذي شرح ذلك في كتابه "الإستعمار" عام1902، مما جعل لنين يرسل بندائه إلى شعوب الشرق لمواجهة الإستعمار بوصفه طريق ومرحلة ضرورية للقضاء على الرأسمالية التي حسنت أوضاع عمالها بحكم سلبها لثروات الشعوب الأخرى، فكبحت الثورات العمالية في هذه الدول بعد ما تحسنت أوضاع العمال على حساب شعوب البلدان المستعمرة.
فنحن نعلم أن الصين في عهد ماوتسي تونغ حورت الماركسية –اللنينينة التي أعتمدت على طبقة البروليتاريا التي يجب خلقها في روسيا لأنها كانت ضعيفة نسبيا، لكن ما دام الصين متخلفة جدا وفلاحية على طول الخط، فإن ماوتسي تونغ أستند على طبقة الفلاحين، وهي نفس نظرية فرانز فانون حول الثورة الإشتراكية في البلدان المستعمرة مثل الجزائر، والتي وضعها بشكل كامل في كتابه "المعذبون في الأرض" عام1961، والتي حاول الرئيس بومدين الإستناد عليها في بناء الإشتراكية في الجزائر. لكن أكتشفت الصين إستحالة تحقيق ذلك، خاصة بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، فعادت من جديد إلى ماركس دون لنين كما يمكن أن يعتقد الكثير، ولم تأخذ عن هذا الأخير إلا فكرة الحزب الشيوعي الواحد الذي يجب أن يحكم. فعادت الصين إلى الرأسمالية في المجال الإقتصادي كمرحلة لبناء الإشتراكية، بل يمككننا القول أن الصين عادت إلى لنين عشية وفاته عندما حاول تدارك بعض الأخطاء التي أرتكبها بتأميماته لكل الملكيات، فنادي ب"السياسة الإقتصادية الجديدة" بإعادة بعض الملكيات الصغيرة إلى أصحابها. لكن مجيء ستالين جعلته يتخلى عن ذلك، ويقيم رأسمالية دولة أين أمتلكت الدولة كل وسائل الإنتاج، إلا أن بدل ما يقوم ستالين بنفس ما دعا إليه ماركس، وهو ضرورة المرور بالمرحلة الرأسمالية لإنجاح الثورة الإشتراكية، فإنه عمد إلى رأسمالية دولة بإستيلائها على كل وسائل الإنتاج والملكيات والتركيز على الصناعات الثقيلة لخلق طبقة البروليتاريا. وبتعبير آخر إمكانية تحقيق الإشتراكية في بلد غير مصنع بإستيلاء الحزب الشيوغي على السلطة ثم القيام بتصنيع البلاد كي تخلق البروليتاريا، لكن بالإعتماد على الملكية التامة للدولة لوسائل الإنتاج.
بقي ستالين وفيا لفكرة إمكانية إنتصار الإشتراكية في بلد تعد من أطراف الرأسمالية العالمية التي نظر لها بشكل مفصل الإقتصادي المصري سمير أمين عندما قال بأن الرأسمالية نشأت في أطراف النظام الخراجي الذي كان سائدا في العالم الإسلامي، لكن لم يستطع العالم الإسلامي على المرور إلى الرأسمالية بسبب أكتمال دورة النظام الخراجي في العالم الإسلامي، وأصبح صلبا غير قادر على التحول، ولهذا ظهرت الرأسمالية في أطراف هذا النظام الخراجي المتمثل في الإقطاعيات الأوروبية. فلم يكن هم سمير أمين إلا تفسير وسعي منه لفهم لما لم تظهر الرأسمالية في العالم الإسلامي رغم تطورها التجاري وتبادلاتها، وظهرت في أوروبا؟.
إذا فشل ستالين في إنجاح الثورة الإشتراكية بالإعتماد على رأسمالية دولة، فإن الصين تحاول اليوم الإستفادة من كل هذه التجارب بالعودة صراحة إلى ماركس وتشجيع الرأسمالية كما وقع في أوروبا القرن19 من خلال الإعتماد على المنافسة والملكية الخاصة والإستثمارات وغيرها، بل فتحت إستثماراتها حتى لكبرى الشركات المتعددة الجنسيات الغربية التي جذبتها الصين بحكم السوق الواسعة والأيدي العاملة الرخيصة، وهو ما كان أحد أسباب الأزمة المالية 2008 في الغرب بحكم هروب المستثمرين الصناعيين إلى الصين وسيادة الإستثمارات العقارية الغير منتجة للسلع في الدول الرأسمالية الغربية.
لعل ما لايعلمه الكثير أن الحزب الشيوعي في الصين موجود في كل الشركات والمؤسسات الإقتصادية بما فيها الأجنبية، فيراقب كل شيء إقتصاديا وسياسيا، ومن غير المستبعد اللجوء إلى تأميمها عند الضرورة وأقتضت الحاجة لذلك فقد خلق النموذج الصيني اليوم منافسة بين الشركات ورجال الأعمال سواء صينيين أو أجانب لتنمية إقتصاد رأسمالي يتوسع حتى على المستوى العالمي، وهو ما حقق للصين قفزة إقتصادية لايستهان بها، فهي اليوم في نفس مستوى الدخل مع أمريكا إن لم تكن قد تجاوزته.
حددت الصين هدفين هما: تحقيق الصعود الإقتصادي بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني في 1922، ورسمت هدفا إستراتيجيا آخر هو بلوغ قمة العالم في مئوية تأسيس الصين الشعبية في 1949. فهل ستحقق الصين فيما فشل فيه الإتحاد السوفياتي؟.
يعود فشل الإتحاد السوفياتي إلى عدة عوامل، ومنها تطبيق رأسمالية الدولة بسيطرتها على كل وسائل الإنتاج، فقتلت بذلك روح المنافسة الإقتصادية والإبداع، وكذلك بسبب دفع الغرب له إلى سباق التسلح في عهد ريغان، أو ما يسمى بحرب النجوم الوهمية، مما جعله غير قادر على مجاراة الغرب حيث تم التركيز على التسليح على حساب الإقتصاد، إضافة إلى العامل الإستعماري الذي ذكرناه آنفا، والذي سمح للدول الإستعمارية ربط إقتصاديات البلدان المستعمرة بها وجعلها في خدمتها، مما وفر لها أموالا وثروات على عكس الإتحاد السوفياتي الذي لايمتلك مستعمرات، وكلفته الحرب الحرب العالمية الثانية خسائر إقتصادية وبشرية كبيرة جدا على عكس أمريكا التي كانت بعيدة جغرافيا عن الحرب؟.
يمكن لنا القول أن الصين الشعبية أستفادت من دروس الماضي، فهي تعمل بصمت، وأبقت على الحزب الشيوعي كحزب حاكم حيث التحاليل الصينية تقول أن إنهيار روسيا يعود إلى حلهم الحزب الشيوعي والتخلي عنه، ولهذا فالصين رغم إعتمادها نظاما رأسماليا إلا انه أبقى على هذا الحزب الذي يراقب الحياة السياسية والإقتصادية، بل تستند هذه التحاليل في طرحها الحزبي الأحادي على القول بأنه هناك عدة دول تطورت إقتصاديا في ظل إستبداد، وليست حريات مثل كوريا الجنوبية وحتى اليابان التي حكمها حزب واحد تقريبا لعقود. فهناك نظرية تقول بإمكانية تحقيق تطور إقتصادي دون حريات ديمقراطية على عكس ما يقوله الغرب الذي جعل إقتصاد السوق والتقدم مرتبط بالحريات مثل فوكوياما.
ومن الدروس التي استفادت منها الصين هو مواصلة البناء الإقتصادي دون ضجيج، لكن الغرب وأمريكا يدركون ذلك جيدا، فسيحاولون إستفزازها لدفعها إلى حروب خاصة في تايوان كي تجهض مشروعها الإقتصادي المتنامي. فهل ستصمد الصين، وتواجه كل هذه الإستفزازات الغربية لها بمواصلة البناء أم سيوصلها الغرب إلى الحد الذي سيدفعها إلى التحرك العسكري، وهو ما سيؤثر على إقتصادها ويجهض مسيرة نموها؟.
فالصين اليوم تواجهة عدة مشكلات، ومنها مشكلة الأقليات التي يمكن أن يستغلها الغرب بإسم حقوق الإنسان، وكذلك مشكلة الطاقة، ولو أنها ربطت عدة علاقات لضمان الطاقة من روسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وربط خطوطها التجارية بما يسمى ب"طريق الحرير"، وهي طرقات وموانئء وغيرها كي تضمن الطاقة ولسلعها التحرك. كما عمدت إلى تطوير قوتها البحرية، لأنها تدرك أنه من السهل عليها السيطرة على أوراسيا، أي أوروبا وآسيا البرية، لكن ذلك غير كاف إن لم تطور قوتها البحرية، فتصبح مثل أمريكا تستخدم ذلك لحماية منابع الطاقة، خاصة النفط.
ويبقى التساؤل عند المشتغلين على تطور الصين الشعبية التي تقول بأنها بقيت وفية لماركس الذي قال بضرورة المرور بمرحلة رأسمالية مثل أوروبا كي تنجح فيها الإشتراكية، فهل ستتحول الصين إلى إشتراكية فعلا حسب الطرح الماركسي أم انها ستكون مثل أوروبا القرن19 حيث تطور قوى الإنتاج غير شكل الدولة والقيم والثقافة التي تعتز بها الصين كثيرا، وذلك طبقا للمنهج الماركسي في التغيير الإجتماعي القائل بأن تطوير قوى الإنتاج بصفتها بنية تحتية ستغير البنية الفوقية المتمثلة في نظام الدولة والأخلاق والثقافة والأفكار وغيرها، فبناء على ذلك ستتخلى الصين عن حكم الحزب الواحد لتتحول إلى تعددية حزبية وحريات وغيرها؟. أما الإنشغال الثاني: فهل التطور الرأسمالي الصيني لا يدفعها إلى التوسع على حساب ضعفاء هذا العالم بحثا عن الإستثمارات والأسواق والثروات كما فعلت أوروبا القرن19 أم أنها ستقود عالم الجنوب، وتتحالف معه لمواجهة الرأسمالية الغربية وإقامة نموذج سياسي وإقتصادي آخر بديل، وهو ما سيؤدي إلى تغيير النظام الإقتصادي العالمي المجحف في حق الجنوب الفقير؟.