انها فرصة لتحقيق التحرر الفعلي لشعوب منطقتنا


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7646 - 2023 / 6 / 18 - 16:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أثارت زيارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى روسيا مؤخرا عدة نقاشات محليا وإقليميا ودوليا، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: لما لم يطرح ولا أحد سؤال واحد عن زيارة رئيس دولة الإمارات إلى موسكو وسعيه لسرقة محاولات تبون للوساطة بين روسيا وأوكرانيا، بل كرر نفس الطلب بنفس الصيغة الذي قدمه تبون لبوتين قبل ساعات فقط؟، لما لم يسأل أحد عن توطيد علاقات سعودية- روسية منذ شهور؟، فلما لم يتهم أحد هذه الدول بإختراق مبدأ الحياد في الحرب الروسية-الأوكرانية؟، لكن تقام الدنيا إذا عملت الجزائر على توطيد علاقاتها وتنويعها سواء مع موسكو أو أمريكا أو إيطاليا أو غيرها، بل حتى مع فرنسا التي تعتبرها أيضا شريكا إستراتيجيا لها؟، فمن وراء كل هذه الحملات ضد الجزائر؟.
هناك عدة أطراف وراء ذلك، أولها المغرب الأقصى الذي يحاول دائما تصوير الجزائر كحليفة لروسيا ومعادية للغرب كي تستفيد من ذلك في صراعها مع الجزائر، بل روجت عدة مرات بأن الجزائر حليفة أيضا حتى لإيران، وأن هناك محور طهران- الجزائر، وأن حزب الله يدرب البوليزاريو في الجزائر، وكل ذلك لنفس الهدف، وكي تستفيد من أي ضربة غربية ضد إيران التي يجب أن تنطبق أيضا على ما تدعي انها حلفائها، ومنها الجزائر. فالمغرب مثلا وراء الترويج بأن أوكرانيا صوتت ضد الجزائر عند الإنتخابات الأخيرة حول العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي بالرغم من أن ولا أحد يعلم الحقيقة بسبب سرية التصويت. فهل من المعقول أن تقوم أوكرانيا بذلك وهو ما لا يخدمها إطلاقا، وهي الحريصة على إبقاء علاقات وطيدة مع الجزائر أو على الأقل إبقائها على الحياد في كل مواقفها من هذه الحرب كما كانت تقوم في الأمم المتحدة منذ إندلاعها؟.
كما نجد إضافة إلى المغرب محاولات سعودية وإماراتية ودول نعتبرها شقيقة تعمل على تهميش الجزائر بسبب تضارب مصالح إقتصادية وإستراتيجية وسياسية ومحاولة منها لإبعادها عن لعب أي دور إقليمي بحكم مواقفها ومبادئها الثابتة، وكذلك بسبب إمكانياتها العسكرية والإقتصادية وطاقاتها البشرية وموقعها وتاريخها وجغرافيتها لو وظفت بذكاء وفعالية لكان للجزائر كلمتها إقليميا، وحتى دوليا. أن السعودية اليوم تعمل على إستغلال إلى أقصى ما يمكن وعد الرئيس الأمريكي بايدن للكيان الصهيوني بتطبيع السعودية مع هذه الكيان للحصول على عدة مكاسب كما قامت المغرب الأقصى من قبل، فلهذا السبب تخشى من مواقف الجزائر.
فلنشر أن سعي أمريكا لتحقيق تطبيع سعودي مع الكيان الصهيوني سيكون له تأثير كبير جدا على العالم الإسلامي كله، فسيكون بنفس القيمة والتأثير إن لم يكن أكثر من التطبيع المصري في عهد السادات الذي فتح الباب لكل التطبيعات الأخرى بعد سنوات فقط. فالتطبيع السعودي سيؤدي إلى تطبيع الكثير من المسلمين ودولهم بحكم مكانتها الدينية، خاصة مع التنظيمات الإسلامية الموالية للسعودية، والتي لها تأثير في هذه الدول بما فيها الجزائر. وهو ما سيؤدي إلى صراعات أخرى وتوجيه بعض المسلمين ضد أعداء للغرب بدل توجيههم ضد الكيان الصهيوني كما فعلوا بهم في حرب أفغانستان ضد الإتحاد السوفياتي التي كانت سببا في إنهيار هذا الأخير، وما أنجر عنه من أحادية قطبية بقيادة أمريكا التي كانت تملي علينا كل ما تريده منذ تلك الفترة حتى الفترة الأخيرة بعد إندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وصعود البريكس وبداية ظهور ملامح نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، فهي ظروف يجب إستغلالها بذكاء للتخلص من هذه الهيمنة الغربية علينا.
ان ما تقوم به أمريكا مع السعودية وغيرها اليوم هو تكرار لما كانت تسعى إليه مع مصر عبدالناصر في ستينيات القرن20 عندما أرادت إقناعها أن العدو هو الإتحاد السوفياتي، وليس الكيان الصهيوني، لكنها فشلت أمام إصرار عبدالناصر، لكنها نجحت بقبول السادات ذلك بكل ما أنجر عنه من كوارث على المنطقة. فالسعودية مقبلة على التطبيع مع الكيان الصهيوني في إطار مشروع قديم-جديد هو مشروع الشرق الأوسط الجديد، لكنها تتماطل فقط حتى تحضر الأذهان، وكذلك بهدف مقايضة ذلك بمكاسب كبيرة مثل الحصول على التكنولوجيا النووية، فحتى تحسين علاقتها مع إيران تدخل في إطار ضغط على أمريكا فقط لاغير، خاصة أن إيران قد عرضت منذ سنوات تقديم مساعداتها في هذه التكنولوجيا لكل من تريدها من الدول المسلمة أمام معارضة أمريكية لذلك بدعوى الخوف من صراع نووي في الشرق الوسط، لكن في الحقيقة هو الإبقاء على إحتكار الكيان الصهيوني للسلاح النووي. كما بدأ الترويج بأن تبون حصل على إتفاق في هذا المجال مع روسيا، وهو ما بدأ الترويج له عبر بعض وسائل الإعلام، ومنهم للأسف الشديد عبدالباري عطوان رئيس تحرير يومية "رأي اليوم" الذي يظهر أنه من محور المقاومة، لكن ترويجه لذلك يطرح أمامنا عدة تساؤلات وإستفهامات مشروعة، خاصة أنه يبدي تعاطفا نسبيا مع السعودية في أغلب مقالاته وإفتتاحياته، فهل تناسى أن الجزائر لا تهتم بذلك، وأنها وقعت على إتفاقيات منع التسليح النووي، وهي ملتزمة بها.
هناك طرف ثالث وراء هذه الحملة هي فرنسا والغرب الر|أسمالي الذي يريد إبقائنا تابعين له ومجرد أسواق ومصدرين للمواد الأولية فقط دون أن نصنع أنفسنا، أي الإبقاء على النظام الإقتصادي العالمي المجحف في حق شعوبنا. فالمراكز الرأسمالية التي هي في الحقيقة القوى الإستعمارية التقليدية السابقة إضافة إلى أمريكا صاحبة فكرة الإستعمار الجديد للإلتفاف على حركات التحرر الوطني تدرك جيدا أن ظروف جديدة اليوم قد تولدت، وتشبه كثيرا الظروف التي كانت وراء نشأة حركات التحرر الوطني التي كانت وراء القضاء على الإستعمار التقليدي، ومنها قيام الثورة البلشفية في1917 ونداء لنين لشعوب الشرق في 1919 لطرد الإستعمار الذي هو نتاج توسع الرأسمالية التي لا يمكن التخلص منها إلا بالقضاء على الإستعمار الذي اعطاها دفعا ووسائل مادية يسمح لها بإضعاف أي إنتشار للأفكار الإشتراكية في الغرب الرأسمالي بحكم إستغلال شعوب المستعمرات وإعطاء جزء من الأموال التي تعود من ذلك الإستغلال لعمال الغرب الرأسمالي وفقرائه، فيتم بذلك تجفيف منابع إنتشار الأفكار الإشتراكية فيها.
ان نداء لنين إلى شعوب الشرق في 1919 أدى إلى دعم الإتحاد السوفياتي لحركات التحرر الوطني، فأزدادت قوة هذه الحركات، خاصة أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية بفعل عاملين أساسيين هما: إضعاف هذه الحرب العالمية الثانية للقوى الإستعنمارية التقليدية بريطانيا وفرنسا كما أضعفت اليوم الحرب الروسية-الأوكرانية هذا الغرب أيضا، وكشفت الكثير من إختلالاته ونقاط ضعفه، فبدأ يظهر نظام عالمي جديد. كما أعادت هذه الحرب الروسية-الأوكرانية نفس ما وقع بعد الحرب العالمية الثانية بظهور عالم ثنائي القطبية و الحرب الباردة بين المعسكرين الغرب الرأسمالي بقيادة أمريكا والشرق الشيوعي بقيادة الإتحاد السوفياتي. فقد كانت هذه الحرب الباردة لصالح شعوب العالم الثالث التي أنشأت تكتلا ثالثا هو حركة عدم الإنحياز في1961 التي جاءت بعد مؤتمر باندونغ1955. فلا نستبعد توجه هذا العالم اليوم إلى باندونغ جديد آخر في الإيام القادمة. كما اعتمدت هذه الدول مبدأ الحياد الإيجابي الذي معناه العميق وهدفه الجوهري هو إستغلال تلك التناقضات الدولية لخدمة مصالحها بذكاء ومرونة والقدرة على القفز على كل الحبال بتناغم يجعلها تتخلص من أي ضغوط عليها، فكلما عانينا من ضغط غربي لجأنا إلى السوفيات لمساعدتنا والعكس صحيح، فالجميع أصبح في حاجة إلينا بدل ما نكون نحن في حاجة إليهم.
علينا الإشارة أن العنجهية الغربية وإحتقارها لشعوبنا هي التي دفعت الكثير من قادة العالم الثالث إلى توطيد علاقاتها مع السوفيات، ومنها مثلا مصر عبدالناصر في الخمسينيات عندما رفض الغرب تمويل بناء السد العالي في1956، وكذلك مع الجزائر في عهد بومدين التي عانت كثيرا من الضغوط الغربية، خاصة الفرنسية منها، فعندما ضغطت فرنسا عليها بسبب تسويق الكروم لم تجد إلا السوفيات لمساعدتها في ذلك، ونجد نفس الأمر بالنسبة للمحروقات والتنقيب عن المعادن وغيرها من المشاريع التنموية وبناء المصانع التي يرفضها الغرب خوفا من فقدان أسواق سلعه والإستقلالية الإقتصادية وفك الإرتباط بالرأسمالية العالمية.
فحتى في مجال السلاح هناك دول تعمل لإضعاف روسيا بهدف إضعاف جيوش تعتمد على السلاح الروسي، مما يسهل إلتهامها، ولهذا يجب على الجزائر أن تعمل على منع أي إنهيار روسي كما خطط له الغرب مع الحفاظ على حيادها الإيجابي، لأن هناك دول مثل المغرب يريد إضعاف روسيا وإنهياره كي يضعف معها الجيش الجزائري الذي يعتمد على السلاح الروسي، فتحقق بذلك أهدافها التوسعية في الجزائر والمنطقة كلها. كما أن هناك دول أخرى منتجة للسلاح تريد ذلك أيضا كي تفتح سوقا جديدة لمنتجاتها العسكرية.
لكن نشير أنه رغم كل التعاون مع روسيا في عهد الرئيس بومدين إلا أن للجزائر آنذاك علاقات وطيدة مع الغرب، ومنها أمريكا، خاصة في مجالات الطاقة والكثير من الإستثمارات في عدة قطاعات. فقد كانت الجزائر وما زالت على حيادها الإيجابي وتنويع مختلف علاقاتها، فهذا ما لا تريده فرنسا التي تضغط عليها بسبب ذلك لأنها تريد أن تبقيها لها فقط كسوق لسلعها ومصدر للمواد الأولية ومناطق للإستثمار فيها في الصناعات الإستخراجية مثل الطاقة كما كانت أثناء الإستعمار.
يريد البعض الترويج أن تبون زار عمدا روسيا في الوقت الذي كان يجب فيه زيارة فرنسا متناسين بأن حتى زيارته إلى روسيا تأجلت عدة مرات مثلها مثل زيارته لفرنسا، فالجزائر تريد علاقات شراكة إستراتيجية مع الجميع لكن بندية ومبدأ رابح-رابح. فنحن نعلم أن وراء هذا الترويج هي أطراف فرنسية تريد إفشال هذه الزيارة خدمة للمغرب لا غير المعروفة بإرشائها الكثير من النواب الأوروبيين والسياسيين الفرنسيين.
ان الغرب يعلم جيدا كل هذه التحولات القائمة اليوم في النظام العالمي، وبأنه بدأ يفقد نفوذه وهيمنته بسبب هذه الحرب الروسية-الأوكرانية وبروز مجموعة البريكس التي بدأت تتحول إلى مجموعة مقابلة لمجموعة السبع، وتعمل على إقامة نظام بديل لهذا النظام العالمي المجحف، مما جعل الغرب يدرك أن عنجهيته وراء طلب الكثير من الدول الإنضمام إلى مجموعة البريكس، فأصبح اليوم يعمل لإرضاء شعوبنا مؤقتا وتكتيكيا فقط حتى يتسنى له إضعاف روسيا والصين قبل أن يعود للإنقضاض علينا كما فعل بعد إنهيار المعسكر الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي بعد ما أصبح العالم أحادي القطبية يملي علينا أوامره، ونحن راضخون، وقد تحدثنا عن ذلك في مقالتنا "مجموعة البريكس وبناء نظام عالمي جيد"(الحوار المتمدن عدد7623 بتاريخ26/05/2023). فكم خسرنا بإنهيار الإتحاد السوفياتي، وكم سنخسر لو أنهارت روسيا والصين أمام الغرب اليوم. فنحن مع الحياد الإيجابي ومع عالم متعدد الأقطاب ونظام إقتصادي عالمي أكثر عدلا، ولهذا نتعاون مع موسكو دفاعا عن مصالح دولنا دون أن نغير سيد بسيد آخر، بل من أجل التحرر نهائيا من هذا الإستعمار الذي ربط إقتصادياتنا بمصالحه، فجعل إستقلالنا مجرد إستقلال شكلي لاغير، فلنعي كلنا أن ظروف اليوم هي فرصة مواتية لخوض معركة تحررنا الثاني والفعلي، فلنستغلها بذكاء شديد دون أن ندفع دفعا إلى الإصطدام بأي كان لإجهاض وتضييع هذه الفرصة المواتية لنا اليوم .