قراءة في أوراق سفير جزائري بباريس


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7856 - 2024 / 1 / 14 - 13:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ان العودة اليوم إلى مذكرات محمد بجاوي الذي كان سفيرا في باريس ما بين عامي1970 و1979 لها أهمية كبيرة في فهم العلاقات الجزائرية-الفرنسية، وتضيء لنا الكثير عن هذه العلاقات اليوم، فالظروف متشابهة جدا بحكم تشابه نسبي بين سياسات جيسكار ديستان في السبعينيات وماكرون اليوم تجاه الجزائر، فكأن التاريخ يعيد نفسه بأشخاص آخرين.
فقبل تناول وتفكيك هذه المذكرات التي كتبت في 2016 بعنوان"في مهمة خارقة للعادة- أوراق سفير بفرنسا1970-1979 En mission extraordinaire-carnets d’un ambassadeur en France-1970-1979" يجب علينا أن نوضح للكثير من الذين يخلطون بين شخصية محمد بجاوي أبن تلمسان الذي مازال على قيد الحياة ومحمد لبجاوي إبن العاصمة الذي يكبر الأول بسنوات عديدة، والذي توفي في 1992، فلنشر أنه لا توجد أي علاقة قرابة بين الشخصيتين، فاحدهما يبدأ لقبه بحرف "ب" والآخر بحرف "ل". فهذا الأخير أي محمد لبجاوي كان أحد أبرز قادة الثورة الجزائرية، ومن الذين ساهموا بشكل فعال في معركة الجزائر، ولعب دورا كبيرا في صياغة أرضية الصومام ومصطلحاته وطروحاته، إضافة إلى مساهمته في الكثير من سياسات الثورة الجزائرية. فقد كان قريبا جدا من عبان رمضان، ليتقرب من بن بلة بعد1962، ثم يهمش تماما بعد إنقلاب بومدين على بن بلة في1965، ويصبح من المعارضين لبومدين في المنفى، ولم يعد إلى الجزائر إلا بعد1988، ليتوفى في 1992.
فمحمد لبجاوي معروف بقربة الكبير من التيارات الشيوعية في الجزائر أثناء الفترة الإستعمارية رغم أنه من التجار الكبار المؤسسين للإتحاد العام للتجار الجزائريين، فساهم في إضراب الثمانية إيام وتنظيمه، فهو عصامي التكوين، وقد كانت لمطالعاته الماركسية تأثيرا كبيرا في صياغة الكثير من مواثيق الثورة ومواقفها، وهو يعد من الأوائل الذين نشروا مذكراتهم حول الثورة الجزائرية في فترة كان الكثير إن لم نقل جل قيادات الثورة لازالت على قيد الحياة، فكتب مذكراته بالفرنسية بباريس بعنوان "حقائق حول الثورة الجزائرية Vérités sur la révolution algerienne"عام 1969 أين يبرز بشكل جلي دوره في الثورة والسنوات الأولى للإستقلال، خاصة بعض مواثيقها مثل أرضية الصومام أين يبرز لقاريء عدة حوارات أجراها مع صحف بإسم الثورة دون أن يكشف إسمه بأنه لم يكن عبان رمضان أو العربي بن مهيدي وغيرهم هم الوحيدين المؤثرين في ذلك، خاصة في بعض تعابير وتحاليل أرضية الصومام، بل كان لمحمد لبجاوي تأثيرا كبيرا أيضا، إضافة لأغلب قيادات الثورة آنذاك إن لم نقل كلها. يقول محمد لبجاوي في مذكراته أنه الوحيد من دون أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ الذين كان يشارك في إجتماعاتها بالعاصمة. فللأسف الشديد تم التعتيم على هذه الشخصية القيادية البارزة في الثورة، ولا يعرف عنه الكثير، فأصبحالكثير بما فيهم أساتذة تاريخ في الجامعات الجزائرية تخلطه بمحمد بجاوي الذي يصغره كثيرا في السن، ولم يكن له دور كبير في الثورة مقارنة بمحمد لبجاوي.
بعد هذا الإستطراد في التعريف بشخصية محمد لبجاوي نعود إلى محمد بجاوي سفيرنا بباريس في عهد بومدين الذي هو من مواليد1929، وهو حقوقي معروف بدوره في محكمة لاهاي الدولية وكوزير خارجية الجزائر في عهد الرئيس بوتفليقة ما بين عامي2005 و2007، كما كان مدير ديوان أول رئيس للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فرحات عباس أثناء الثورة التحريرية، ثم أول أمين عام للحكومة في عهد الرئيس بن بلة ووزيرا للعدل في حكومة بومدين الأولى قبل أن يعينه سفيرا في باريس في 1970 قائلا له بأنك ستذهب إلى جبهة أخرى لأن بومدين كان يريد تطبيع العلاقات الجزائرية-الفرنسية في إطار مشروع يريد من خلاله فصل أوروبا عن أمريكا وزرع إسفين بينهما كما يقول بول بالطا مراسل لوموند في الجزائر آنذاك في كتابه "إستراتيجية بومدين Stratégie de boumedienne"، وأيضا كمحاولة منه لخلق تعاون إن لم يكن حلفا بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر البيض المتوسط، فأختار محمد بجاوي لذلك بحكم أنه إبن الجامعة الفرنسية ومتحصل على دكتوراة في القانون من جامعة غرونوبل الفرنسية في 1952، وقد قال بوتفليقة لمدير ديوان الرئيس جورج بومبيدو "قد عيننا سفيرا من تكوينكم أنتم أيها الفرنسيون".
يتحدث بجاوي في مذكرات أخرى كتبها بعد سنتين من مذكراته كسفير في باريس بعنوان "ثورة في مستوى الرجال Une révolution a hauteur d’homme" بالفرنسية طبعا مثل مذكراته الأولى، وللأسف لم تجد إلى حد اليوم أي ترجمة لهما إلى اللغة العربية في حدود علمي. يتحدث في مذكراته "ثورة في مستوى الرجال" عن مسار حياته منذ طفولته بمدينة تلمسان بعد وفاة والده، ليتكفل به خاله بائع الخضر والفواكه، ثم إلتحاقه بفرنسا لدراسة الحقوق في جامعة غرونوبل أين تحصل على الدكتوراة في الحقوق هناك، فعمل محاميا قبل أن ينخرط في الثورة، ويصبح أحد أبرز المقربين من أحمد فرانسيس. تسيطر تقريبا على هذه المذكرات شخصية أحمد فرانسيس الذي تأثر به كثيرا، ولعل يعود ذلك إلى تأثر بجاوي ذاته عندما كان في الثانوي بشخصية فرحات عباس وحزبه الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي كان أحمد فرانسيس احد أبرز قياداته، كما أن فرنسيس هو صهر أحمد بجاوي، ولهذا نشعر كأن مذكرات بجاوي هي أيضا مذكرات فرانسيس الذي كان أحد قادة الثورة، فهو يعود له كثيرا، وبشكل كبير فيها.
لعب بجاوي دورا في الدفاع عن صديقيه الشيوعيين عبدالقادر قروج وزوجته جاكلين قروج اللذان حكم عليهما القضاء الإستعماري الفرنسي بالإعدام إلى جانب الشهيد عبدالرحمن طالب، فقام بعمل كبير في فرنسا لإطلاق سراح الثلاثة، فنجح في تخفيف حكم الإعدام عن قروج وزوجته جاكلين دون عبدالرحمن طالب الذي تم إعدامه.
يروي بجاوي في هذه المذكرات تكليفه من قيادات الثورة، خاصة من أحمد فرانسيس بتحضير دراسات علمية قانونية وسياسية تكون في خدمة هذه القيادة عند الحاجة، وتحدث بإسهاب عن رحلاته مع الوفود الجزائرية، وأيضا مع فرانسيس إلى الكثير من الدول للدفاع عن القضية الجزائرية، ومنها رحلة 1960 بقيادة كريم بلقاسم وعضوية كل من عبدالحفيظ بوصوف وأحمد فرانسيس، إضافة إلى تسعة آخرين كمستشارين للقيادة الجزائرية، ومنهم هو محمد بجاوي وكذلك عبدالملك بن حبيلس الملقب ب"سقراط"، والذي يتذكره الجزائريون جيدا لأنه كان رئيس المجلس الدستوري الذي سلم له الرئيس الشاذلي بن جديد إستقالته في ليلة11جانفي1992.
تحدث بجاوي مطولا عن هذه الزيارة، ويروي لقاءاتهم مع ماوتسي تونغ وشوان لاي وكيم إيل سونغ في كوريا الشمالية و هوشي منه في الفيتنام، لكن أبرز ما يرويه هو لقائهم بالقيادي السوفياتي ألكسي كوسيغين أين لامه كريم بلقاسم عن عدم دعم الإتحاد السوفياتي للثورة الجزائرية وتقديم مساعدات لها. ففاجأهم كوسيغين جميعا عندما جاء بالوثائق تثبت بأن كل الأسلحة التي كانت تسلمها مصر للجزائر هي أسلحة سوفياتية ترسل إلى الثورة الجزائرية عبر مصر، بل أكثر من ذلك بهتوا عندما أكتشفوا بأن مصر كانت تستبدل تلك الأسلحة السوفياتية بأسلحة قديمة من بقايا الحرب العالمية الثانية، لتعطيها للجزائر.
لعل هذا ما دفع بجاوي إلى تقزيم أي دعم عربي للثورة الجزائرية في مذكراته، ويصب جام غضبه عليهم، خاصة مصر أين ينفي أي دعم كبير لها للثورة الجزائرية، بل يقول أن الصين وبلغاريا والإتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا هم الذين قدموا الدعم الكبير. فحتى في الجانب المالي، فقد كرس له فصلا كاملا بحكم أنه قريب من أحمد فرانسيس وزير المالية في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. فقد قزم بجاوي الدعم المالي العربي بوثائق وتقارير أوردها في مذكراته، ويبرز دور المهاجرين الجزائريين في فرنسا في تمويل الثورة، ويقول أن العرب يتحدثون فقط، لكن لا وجود لهم عند الفعل. يرد محمد بجاوي على فتحي الديب صاحب كتاب "عبدالناصر وثورة الجزائر" بالقول أن كل تلك الوثائق للدعم المصري بالأسلجة التي أوردها في كتابه هي في الحقيقة أسلحة سوفياتية سرقها المصريون، وأعطوا للجزائر أسلحة قديمة بدلها.
يبدو أن محمد بجاوي في مذكراته سواء الخاصة بدوره كسفير في فرنسا أو كمدير ديوان فرحات عباس ومستشار ومساعد لصهره احمد فرانسيس أثناء الثورة كان يعتمد على كل ما كان يسجله آنذاك من تقارير، ولهذا نجد مثلا يورد بالكامل الحوار الذي جرى بحضوره بين كوسيغين وأحمد فرانسيس بموسكو في1961.
لا يمكن لنا تناول كل ما يورده محمد بجاوي في مذكراته سواء الخاصة بدوره في الثورة أو بصفته كسفير للجزائر في باريس، إلا أننا ما يهمنا في أوراقه كسفير هي طبيعة العلاقات الجزائرية-الفرنسية التي تتحكم فيها الأمزجة والغضب من أشياء يمكن إعتبارها صغيرة، ثم يتم تضخيمها سواء من الجانب الجزائري أو الفرنسي. فمثلا رفضت فرنسا تقديم أوراق إعتماده عندما عينه بومدين كسفير بسبب إعتقال الجزائر لجاسوسين إقتصاديين فرنسيين، كما أنه كثيرا ما يستدعى من وزارة الخارجية الفرنسية بسبب مقالات وتهجمات صحف جزائرية على فرنسا. يتحدث بجاوي بشكل مفصل عن زيارة جيسكار ديستان إلى الجزائر في 1975 التي شارك في التحضير لها، ويصور كيف حظي ديستان بإستقبال كبير، لكن يحمل ديستان فشل كل المحاولات لتطبيع العلاقات الجزائرية-الفرنسية، خاصة بعد ما دعم الأخير المغرب الأقصى، وضغط على فرانكو لإعطاء الصحراء الغربية للمغرب، وقد برر ديستان هذا الموقف-حسبه- بأن بومدين لم يكن ضد ذلك، أي وقع سوء فهم من ديستان لبومدين، وكان هذا الأخير يعتقد أن بومدين مع هذا الطرح بعد ما سأله ديستان إن كان يريد أخذ جزء من الصحراء الغربية، فعندما رفض بومدين ذلك أعتقد ديستان أنه مع إعطاء هذه الآراضي للمغرب، ولهذا أوصى ونصح فرانكو بذلك، وهو ما أدى إلى هذه الأزمة التي لازالت مستمرة إلى حد اليوم. لكن يشكك بجاوي في مبررات ديستان، ويصفه بالمراوغ، وقد قال له يوما عن الصحراء الغربية بأن فرنسا ضد إقامة دويلات صغيرة يصعب التحكم أمنيا فيها، وتصبح عرضة لإستغلال أمني.
لكن ما يؤكده بجاوي العارف بكل خبايا السياسة الداخلية والخارجية لفرنسا بأن سياستها الخارجية وكل ما يقع فيها من تشنجات من بعض الشخصيات في الكي دورسي هي لا معنى و لا تأثير لها، لأن هذه السياسة هي في يد الرئيس دستوريا وواقعيا وفعليا ومؤسساتيا، وهو الذي يحرك كل خيوطها، ولهذا يحمل ديستان وحده فشل سياسته الخارجية.
ان أجمل ما في هذه المذكرات هو حديثه عن مختلف لقاءاته في باريس مع الشخصيات السياسية والثقافية سواء كانت فرنسية أو أجنبية أخرى، فهي في الحقيقة نقل للتقارير التي كان يرسلها إلى الرئاسة الجزائرية بصفته سفيرا. بين في هذه المذكرات مدى علاقاته الوطيدة بجاك شيراك الذي كان من المقربين إليه، خاصة عندما كان رئيس وزراء لديستان في بداية حكمه قبل أن يستقيل، وقد كان بجاوي أول من أعلمه شيراك بذلك. لعل تركيزه على شيراك معناه يريد القول لنا أنه وراء تلك العلاقة الوطيدة بين بوتفليقة وشيراك عندما كان بجاوي وزيرا للخارجية في عهد بوتفليقة.
يتحدث بجاوي بإسهاب عن السياسيين الفرنسيين وكيف دعمت الجزائر الإشتراكي فرانسوا متيران للوصول إلى الحكم، وكيف كان سببا في سوء العلاقة بين الجزائر وفرنسا وغضب ديستان من ذلك متهما الجزائر بأنها تتدخل في شؤون فرنسا الداخلية. فهناك حساسية كبيرة في فرنسا من الإشتراكيين آنذاك لدرجة أنه يقول لنا بجاوي أن الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور دفعته فرنسا للإستقالة بعد ما لاحظت عليه تعاطف مع الفكر الإشتراكي، وأنه لم يستقل طواعية كما يروج له الإعلام، ويعطيه كنموذج عن الشخصيات الزاهدة في الحكم في أفريقيا مثل الجنوب الإفريقي نيلسون ما نديلا أو التانزاني جوليوس نيريري، ويقول بأن ديستان هو الذي ضغط على سنغور كي يستقيل خوفا من إنحيازه إلى جانب الإشتراكية والإشتراكيين في فرنسا. فقد كان سنغور من أشد المدافعين عن الفرنكوفونية ومعاد للجزائر، ويصفها بدولة إمبريالية في أفريقيا، وهو نفس ما كان يروجه ديستان الذي قال أن فرنسا ستدافع عن الدول الضعيفة في أفريقيا ضد الذين يريدون السيطرة عليها، ويقصد بها الجزائر حسب تعاليق الصحف الفرنسية آنذاك.
لعل أبرز أزمة بين الجزائر وفرنسا هي عند إختطاف البوليزاريو عسكريين فرنسيين كانوا يدعمون موريطانيا بعد تهديد البوليزاريو بضرب الرعايا الفرنسيين في هذا البلد، فهددت فرنسا بقطع العلاقات مع الجزائر متهمة أياها أنها وراء ذلك الإختطاف، لكن تمكنت الجزائر من تحريرهم بصفتها وسيطا بين فرنسا والبوليزاريو لا غير.
عرف بجاوي الكثير من الشخصيات التي زارت فرنسا آنذك مثل موبوتو الذي يروي عنه كيف أنه لم يكن شغله الشاغل إلا تسليم الجزائر تشومبي له الذي كان معتقلا عندها في1967 عندما كلفه بومدين بتمثيله في مؤتمر القمة الإفريقية بالزايير لدرجة قيامه بتصرفات طفولية مع بجاوي لتسليمه تشومبي خوفا من تهديد سلطة موبوتو، لكن تشومبي أراحه عندما مات في السجون الجزائرية بسكتة قلبية عندما كان بجاوي وزيرا للعدل، فأخذ كل إحتياطاته خوفا من أن تتهم الجزائر بأنها أغتالته.
كما ألتقى بجاوي كثيرا بسنغور الذي وصفه بالفاشل سياسيا على عكس نجاحه الأدبي بصفته شاعرا، وكان طيلة حياته يعيش في باريس حتى وهو رئيسا للسنغال. أثنى بجاوي في مذكراته على الملك السعودي فيصل واصفا أياه بالمتواضع والبسيط رغم إمتلاك السعودية لثروة طائلة، وأستهجن بجاوي تصرف بومدين مع الملك فيصل عندما أستقبله في تلمسان وحضور بجاوي ذلك اللقاء بصفته وزيرا للعدل، ويقول أن بومدين جلس في مواجهته، وهو يدخن سيجارته مطلقا دخانها في وجه الملك فيصل كرمز على إحتقار رجل إشتراكي لملك ينام على مليارات الدولارات من النفط. هذا ما يناقض ما يقوله محي الدين عميمور أن فيصل كان صديقا كبيرا لبومدين، وهذا يحتاج إلى نقاش آخر، وممكن أن تكون قد تحسنت العلاقات بينهما فيما بعد، خاصة بعد مواقف فيصل في حرب أكتوبر1973.
رغم إعجاب محمد بجاوي ببساطة الملك فيصل إلا أنه لم يتوان على وصف النظام السعودي الوهابي بالمنافق عندما كتب في المذكرات الخاصة حول دوره أثناء الثورة بأنه رافق الرئيس بن بلة بوصفه أمينا عاما للحكومة إلى نيويورك بمناسبة دخول الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة في أكتوبر1962، ومنها إلى كوبا أين لم يعلم الوفد الجزائري بأن أحداث خطيرة كانت تحدث في خليج الخنازير آنذاك، وهم في طائرة كوبية سمحت بها أمريكا كنيدي للهبوط في مطار أمريكي فقط تكريما للجزائر لا غير. يقول بجاوي أن بن بلة رفض تقديم الخمور لضيوف الجزائر عند إقامة الإحتفال بدخولها هيئة الأمم المتحدة كي لا يشوه، لكن المفارقة-حسب بجاوي- أنه في نفس اليوم أحتفلت السعودية بعيد ميلادها، لنكتشف أقداح مختلف أنواع الخمور تقدم للضيوف في مقر ممثل السعودية في هيئة الأمم المتحدة، وهي التي تدعي -حسبه- أنها ملتزمة بتعاليم الإسلام بناء على مذهبها الوهابي المتشدد.
يدفعنا إيراد هاتين الحادثتين إلى التساؤل: هل إستهجانه لتصرف بومدين مع الملك فيصل هي رغبة منه لتشويهه أم فقط يريد أن يكون وفيا لما يورده في مذكراته؟، وما أثار إنتباهنا أنه لم يذكر إسم بومدين طيلة تلك المذكرات التي خصها لدوره في الثورة، فحتى عندما تعود إلى فهرس الأعلام، فلا وجود لإسم بومدين، فهل من المعقول أن لا يذكره ولو مرة، وهو كان قائدا للأركان العامة لجيش التحرير الوطني منذ1960؟، فهل حاول تقزيم دور بومدين خدمة لصديقة وأبن بلدته بوتفليقة؟، فهل يدخل ذلك في إطار محاولات التعتيم على الرئيس بومدين؟.
كما نتساءل في أوراقه كسفير بفرنسا كيف انه عند الحديث عن تأميم البترول في24 فيفري1971، فكأنه أراد أن يظهر أن لبوتفليقة الدور الابرز في ذلك عندما تماطلت فرنسا في المفاوضات، وأرادت تأجيلها لما بعد الأعياد التي كانت تشغل فرنسا، فقال لهم بوتفليقة : أحتفلوا ونحن نعلم ما نريد فعله، مما أسرع في عملية التأميم كأنها لم يكن مخطط لها من قبل. لكن ينفي بلعيد عبدالسلام في حواراته الطويلة مع علي الكنز ومحفوظ بنون التي نشرت في جزئين بعنوان "الصدفة والتاريخ" أي دور لبوتفليقة الذي كان بومدين يشك فيه، طبعا نأخذ كلام بلعيد عبدالسلام بتحفظ، ويحتاج إلى نقاش وتفكيك بحكم صراع بلعيد عبدالسلام مع كل من بوتفليقة وأحمد طالب الإبراهيمي عن من يحظى بمكانة أكبر لدى بومدين الذي كان يستغل ذلك الصراع والتناقضات لصالحه. فلنسجل أن بجاوي أكثر المديح والثناء على بوتفليقة في مذكراته كسفير لدرجة وصفه بالعبقرية الفذة أين يريد الجميع لقائه للأخذ بنصائحه بما فيها هنري كيسنجر ذاته.
ويواصل في تشويه بومدين بشكل غير مباشر عندما يقول بأن فرنسا قد أجرت13تجربة نووية في الصحراء الجزائرية من 1962 إلى 1966 دون أن يعلم بذلك إلا بومدين وعبدالقادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، فحتى بن بلة ولا بوتفليقة يعلمون بذلك، وأنه هو الذي كشف هذا السر لبوتفليقة عام2000 بعد إطلاعه على الأرشيف في فرنسا. فهل صحيح ذلك أم يريد الترويج إلى أن بومدين كان يخدم فرنسا، وهي محاولة منه لتأكيد ما يروجه البعض انه أخذ السلطة بدعم فرنسي مقابل تقديم خدمات جليلة لها؟.
لايمكن لنا أن نفهم فعلا هل هذه هي دوافع بجاوي أم أنه فقط يروي دون أي خلفيات، ويريد فقط إبراز دور صديقه بوتفليقة الذي يبدو أنه وراء تعيينه سفيرا في باريس بحكم أنه كان وزير خارجية بومدين بعد ما أقال هذا الأخير محمد بجاوي من وزارة العدل.
نسجل في هذه المذكرات عدم تطرقه إطلاقا للمعارضة الجزائرية التي كانت موجودة في أوروبا، خاصة فرنسا، فمن غير المعقول أن لا يتناولها في تقاريره للرئاسة الجزائرية مثله في ذلك مثل أي سفير أم أن ما أورده عنها تدخل في إطار السرية التي يجب أن يحافظ عليها أي مسؤول. ونشير أن المعارض الوحيد الذي تحدث عنه هو مصالي الحاج الذي يفتخر انه أمر مباشرة تسليمه هو وعائلته جواز سفر جزائري دون العودة إلى السلطات العليا في الجزائر بعد ما فوجيء بأنه لا يمتلك لا بطاقة هوية ولا جواز سفر جزائري.
لم يستطع أيضا محمد بجاوي إكتشاف بحكم دوره كسفير أن فرنسا كانت عضوا بارزا، بل قائدة لمجموعة السفاري التي تضم إلى جانب فرنسا كل من مصر السادات وإيران الشاه والسعودية والمغرب الأقصى، وهي مجموعة تكفلت بالتنسيق لضرب أنظمة تقدمية في أفريقيا خوفا من تهديد شرايين النفط المتدفق إلى الغرب، خاصة فرنسا. صحيح يمكن لنا أن نبرر له ذلك بأن هذه مهمة المخابرات التي فشلت كلها سواء في الجزائر او غيرها في كشف هذا التنظيم السري حتى كشفه محمد حسنين هيكل بعد ما سمح له الخميني بالإطلاع على وثائق السافاك في طهران بعد سقوط شاه إيران في 1978.
ان كل هذه التساؤلات لا يمكن لنا الإجابة عنها إلا ببحث أعمق في ذلك، لكن ما هو متفق عليه أن مذكرات بجاوي كانت قيمة جدا بغض النظر عن بعض الذاتية مثلها في ذلك مثل كل المذكرات بنسب متفاوتة. يمكن أن تساعد هذه المذكرات أي باحث أو محلل في فهم خلفيات العلاقات الجزائرية- الفرنسية بكل أزماتها، وكيف تتغير من علاقات طبيعية وحسنة إلى علاقات متشنجة لأسباب تبدو ليست جوهرية، بل لأحداث وتصريحات لا تستحق ذلك كله. لكن نعتقد أن تلك الوقائع التافهة كما يصفها البعض هي مجرد ذرائع ومحاولة إلتفاف للتغطية على خلافات جوهرية وأعمق مما يعتقد البعض تخص الطاقة والأسواق والنفوذ والسيطرة على مواقع جيو-ستراتيجية وغيرها قد تطرقنا لها كثيرا في عدة مقالات سابقة حول هذه العلاقات، خاصة أن ديستان يشبه ماكرون كثيرا في سياساته تجاه الجزائر كما قلنا في بداية هذه المقالة.