نجيب محفوظ بين الحقيقة والمروج عنه


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7905 - 2024 / 3 / 3 - 18:48
المحور: الادب والفن     

يعتقد الكثير من الذين كانوا يلتهمون روايات نجيب محفوظ بأنه روائيا إباحيا معاديا للدين، مما جعل الروائي الإسلاموي علي أحمد باكثير يصفه بذلك، بل وصل إلى حد إتهامه بالإلحاد. وقد وجهت له نفس التهمة من وزير في عهد عبدالناصر الذي أثار قضية روايته "أولاد حارتنا" متهما إياه بأنه يسخر من الأنبياء والرسل فيها، مما تطلب إبعاده من منصبه في وزارة الثقافة الذي كان على رأسها صديقه ثروت عكاشة.عندما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل قال عنه أنور الجندي في مقالة شهيرة بأنه أعطيت له لأنه ضد الأديان السماوية، فذكر الجميع بروايته "أولاد حارتنا"، ونحن نعلم ان أنور الجندي كان معروفا بتوزيعه شهادات الإيمان والكفر على جل المفكرين والمثقفين، فأتهم مثلا طه حسين بالكفر صراحة في كتاب شهير عنوانه " طه حسين في ميزان الإسلام"، فقد كان أنور الجندي الذي كانت توزع كتبه كالهشيم في عدة دول، ومنها الجزائر في الثمانينيات أحد التكفيريين الذي مهد بكتبه ومقالاته ضد المثقفين التقدميين والتنويريين لإضعافهم في الساحة كي يفسح المجال للإسلامويين آنذاك. لم يكن فقط أنور الجندي وراء إتهام نجيب محفوظ، بل تتالت المقالات ضده بعد حصوله على جائزة نوبل بين مكفر له مذكرا بروايته "أولاد حارتنا" أو متهمين أياه بأن اللوبيات الصهيونية وراء إعطائه الجائزة كتكريم له على تأييده إتفاقيات كامب ديفيد. فكل هذه الحملة ضده دفعت البعض إلى محاولة إغتياله على يد إرهابيين، وهو ما وقع في 1987.
لا يمكن لنا فهم نجيب محفوظ إلا بعد قراءة حياته التي سردها في نوع من مذكرات على شكل حوارات أجراها مع رجاء النقاش في مقر مؤسسة الأهرام، ونشرت في كتاب من أكثر من 300صفحة بعنوان "نجيب محفوظ-صفحات من مذكرات- حوارات مع رجاء النقاش"، صنفت هذه الحوارات في عدة فصول حسب عدة قضايا تحتوي حياته ومسيرته وكذلك مواقفه من العديد من القضايا والمسائل. نعتقد أن ما قاله سلامة موسى بأنه يجب على كل أديب أو مفكر أن يسرد حياته للقراء لأنها ضرورية لفهمه، كما ان جل الأعمال الأدبية هي إنعكاس لهذه الحياة. ولهذا ركز سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني" على حياة أولائك المفكرين الذين تأثر بحياتهم وسيرهم أكثر من أعمالهم. فعندما نقرأ سيرة نجيب محفوظ ندرك أن أغلب رواياته إن لم نقل جلها مستمدة من تلك الجياة، فهي تروي واقع كان يعيشه، فحتى شخصيات رواياته كانت مستلهمة من شخصيات واقعية عايشها سواء عندما كان صغيرا أو كبيرا، وهو ما أعطى تلك الروايات وصف الواقعية. ففي بعض الأحيان نجتهد ونقوم بقراءة تأويلية لتلك الروايات، لكن في الأخير نصل إلى نتيجة واحدة هي أنه كان يصور واقعا عايشه، فمثلا رغم قراءتنا لكل رواياته، إلا أننا نصر على مشاهدة كل تلك الروايات التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات لعلنا نفهم أكثر ما يقصده. لكن بعد ما قرأنا سيرته في هذا الكتاب "مذكرات" أنطفا ذلك الحس للفهم، لأننا أقتنعنا بأنه يصور واقع، وان ما يفهمه البعض منها، ويؤولها، فهو لايتبناه، بل القاريء حر في فهم ما يريده. فقد جلبت له مختلف التاويلات لرواياته وأعماله الكثير من القلاقل مع الأنظمة سواء عبدالناصر أو السادات أو رجال الدين وغيرهم، وهو ممكن لا يقصد إطلاقا ما فهموه.
فلنشر أن نجيب محفوظ كان يريد في البداية أن يكتب روايات تاريخية تضم تاريخ مصر كله منذ العهد الفرعوني حتى الحاضر، وذلك في حوالي 40رواية مـتأثرا في ذلك –حسب ما يبدو- بروايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان- فبدأ مشروعه مع روايته "كفاح طيبة" في العهد الفرعوني، لكن تخلى عن هذا المشروع نهائيا، ليدخل إلى الرواية الواقعية، وهو مقتنع بأن تصوير الواقع المصري هو مصدر هام للتاريخ يجب على المؤرخين الإهتمام به.
فمما يلفت الإنتباه في مذكراته هو تعرضه للتهميش عدة مرات مثل منعه من بعثة لمواصلة دراسته في فرنسا في الفلسفة بسبب إسمه نجيب محفوظ، حيث اعتقد الكثير بأنه مسيحيا بما فيها أستاذه في الفلسفة مصطفى عبدالرازق الذي لم ينتبه إلى أنه مسلم إلا عندما أعطاه مثالا لمسيحي يريد أن يتعرف على الإسلام من خلال إختياره موضوع بحث حول فلسفة الجمال في الإسلام في نهاية دراسته الجامعية في تخصص الفلسفة.
يروي نجيب محفوظ سبب هذه التسمية التي تعود إلى أن تم توليده من طبيب مصري مسيحي شهير يدعى نجيب محفوظ، فأنقذ أمه من الموت، فأطلقت إسم هذا الطبيب على إبنها، ويشير إلى أن أمه كانت تتبع الطرق الصوفية وأولياء الله الصالحين. لكن نجيب محفوظ يقول في مذكراته بأنه يرفض هذه الطرق لأنه مجرد هروب من الواقع المر، وقد صور ذلك بشكل جلي في روايته "اللص والكلاب" أين هرب احمد مهران إلى الطرق الصوفية.
ما يستغربه القاريء للمذكرات هو دعم نجيب محفوظ لدولة دينية معتدلة في مصر وإعتقاده بضرورة السماح للإسلاميين بتاسيس الأحزاب، بل كان شديد الإرتباط بالقرآن الكريم، فقرأ الكثير من التفسيرات له، و تأثر ب"ظلال القرآن" لسيد قطب الذي أطلع على كل أجزائه السبعة. فلعل الكثير لا يعلم أن سيد قطب كان صديقا لنجيب محفوظ قبل ذهابه إلى أمريكا للدراسة بوساطة من عباس محمود العقاد في الأربعينيات، فقد كان سيد قطب في بداياته ناقدا أدبيا نال إعجاب عباس محمود العقاد، كما كان أول من كتب عن روايات نجيب محفوظ. تأسف نجي محفوظ كثيرا لإنقلاب سيد قطب إلى التطرف الديني بعد زيارته الأخيرة له بعد خروجه من السجن في 1955 بسبب المرض.
يبعد نجيب محفوظ عن الإخوان المسلمين تهمة انهم منشؤو الإرهاب والتعصب، فهو يعيد سببه إلى الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وكذلك إلى نظام عبدالناصر الذي عرض الإخوان للتعذيب. كما ينفي عن حسن البنا أي دعوة أي دعوة للعنف. لكن لانعلم إن كان هذا موقفه من الإخوان والبنا منذ البداية أم في آواخر حياته، لأنه يجب أن نشير إلى أن أغلب الكتاب يعودون إلى الدين في آواخر حياتهم، وهو بذاته يتحدث عن صديقة توفيق الحكيم بأنه أصبح من دعاة دولة دينية في آواخر حياته، وهو ما نجهله تماما بسبب ما أُثير في آواخر حياة توفيق الحكيم من نقاش حاد عن كفره بوجود الله بسبب مقالة مثيرة آنذاك، وأدخل البعض تلك المقالة المثيرة عن عدم وجود الله بأنها مجرد دخول الحكيم مرحلة الخرف بسبب سنه. نعتقد ان رواية نجيب محفوظ "أحاديث الصباح والمساء" التي كتبها في 1987، ثم تحولت إلى مسلسل تعبر بشكل كاف عن فلسفته في آواخر حياته، ونعتقد أن قناعات الكثير عند وصولهم آراذل العمر، حيث ن لا نجد في الرواية إلا تغبير واحد هو الولادة والموت والحياة، فكأن الجياة لامعنى لها، فيزداد أي قاريء للرواية أو مشاهد للمسلسل قناعة بأن الحياة لامعنى لها بسبب الدوران بين الولادة والشيخوخة ثم الموت، فيزداد المشاهد تعلقا بالآخرة. لعل يظهر ذلم بجلاء عند مشاهدة المسلسل أكثر من قراءة الرواية، حيث لاتخلو كل حلقة من الحلقات من ولادات ووفيات، وتكرر مقولة ناس تموت وناس تولد. نعتقد أن هذه الرواية تعبر كثيرا عن آواخر حياة نجيب محفوظ الذي لا يخفي في مذكراته بإرتكابه المحرمات في شبابه مثل شرب الخمر والزنا وغيرها، والتي تظهر بجلاء في رواياته، خاصة التي كتبها قبل 1952، ولو انه يصور البؤس الإجتماعي فيها كثيرا. لكن الأغرب كله هو إنقلاب نجيب محفوظ من رفض حكم الإعدام الذي أصدره الخميني على سلمان رشدي إلى تأييده بعد إطلاعه على تفاصيل روايته، فرأى أنه يجب عليه أن يتوب.نعتقد أن نجيب محفوظ لم يفهم معنى الردة الواردة في تاريخ الإسلام، ففي الحقيقة لا يوجد أي نص ديني ينص على قتل المرتد لأنه ينافي مبدأ "لا إكراه في الدين"، فقد ارتبط مفهوم الردة بالمعارضة السياسية، فكل من يعارض الخلفاء والسلاطين، فهو مرتد يجب قتله، أي توظيف الدين لأهداف سلطوية بحتة.
يظهر نجيب محفوظ في مذكراته مدى وفائه لجزب الوفد سواء لشخصية سعد زغلول أو خليفته نحاس باشا، فلم ينتقدهم إطلاقا، وهو نفس الإعجاب بزغلول يبديه الكثير من المثقفين المصريين مثل عباس محمود العقاد حسب ما يرويه لنا أنيس منصور في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا إيام". لكن جل إنتقاد نجيب محفوظ منصب على عبدالناصر، وبشكل اقل السادات، بل يؤيد توفيق الحكيم، ويضع نفسه في نفس موضعه عندما يقول بأن توفيق الحكيم الذي كتب عودة الروح في1933، وقال في عهد عبدالناصر بأنه هو ذلك الشخص الذي صوره في روايته، مما جعل الحكيم يحظى بحب عبدالناصر له، لكن بمجرد ما توفي هذا الأخير يكون توفيق الحكيم أول كاتب يفتح النار عليه بروايته "عودة الوعي" في 1974، وكان كان وغيه مغيبا في عهد عبدالناصر فاكتشف الحقيقة فيما بعد. وضع البعض آنذاك كتاب توفيق الحكيم في إطار حملة وجهها السادات ضد عبدالناصر واليسار عموما، وقد تحدث عنها محمد حسنين هيكل بشكل مستفيض في حواره الطويل حول عبدالناصر والثقافة الذي اجراه مع يوسف القعيد، ونشره في كتاب من أكثر من 470صفحة عام2003 بعنوان "محمد حسنين هيكل يتذكر-عبدالناصر والمثقفون والثقافة-". لكن يقول نجيب محفوظ بأنه لم ينتظر حتى وفاة عبدالناصر كي يفيق من الغيبوبة، بل ادرك ذلك مباشرة بعد هزيمة 1967 أين حمل كل النظام الناصري المسؤولية بدكتاتوريته وإستبداده على عكس توفيق الحكيم الذي حمل عبدالناصر وحده ذلك دون أي غشارة إلى النظام السياسي الذي نتج بعد 1952. نسجل أن نجيب محفوظ يثني على حسني ميارك، ويصفه ب"الديمقراطي" والعارف كيف يتعامل في علاقاته الدولية، ويوازن بين مختلف القوى العالمية، ولا يستفزها على عكس ما كان يفعل عبدالناصر الذي أضاع على مصر بسياساته الخارجية فرصة البناء الإقتصادي والتنمية لبلاده، لكن نتساءل لو عاش نجيب محفوظ حتى بعد سقوط مبارك، فهل سيقول نفس الكلام أم سيغيره؟، وهو ما يدفعنا على التساؤل: هل كان نجيب محفوظ إنتهازيا ومتملقا لمبارك لأن هذه الحوار الظويل مع رجاء النقاش جرى في عهد حكمه؟.
يبدو أن نجيب محفوظ جد مطلع، لكنه ما نستغربه هو عندما يعتبر سلامة موسى مؤسسا للحزب الإشتراكي أو الشيوعي في مصر، ونحن نعلم أن سلامة موسى لم يكن شيوعيا، بل كان إشتراكيا فابيا الذي كان منتشرا بقوة في بريطانيا، خاصة ان نجيب محفوظ كتب مقالة عن الإشتراكية في 1930، كما يظهر في الكثير من رواياته في الأربعينيات بأن له ميولات إشتراكية من خلال تصويره البؤس والإستغلال بكل اشكاله آنذاك، خاصة أنه يعترف في مذكراته هذه بأن له ميولات ماركسية، وأنه لم يرفض في في الإتحاد السوفياتي إلا أمرين هما الدكتاتورية ومعاداة الدين، فيقول بأنه ليس صحيح بان الشيوعية لم تنتشر بقوة في مصر بسبب تدين المصريين، بل لأن الشيوعية عادت الدين، فلو جمعوا ومزجوا بين الدعوة الماركسية والدين لأنتشرت الشيوعية في مصر كالهشيم بسبب الوضع الإجتماعي المتردي في عهد الملكية.
يرى نجيب محفوظ أن االتطرف الديني يجب أن لا يقاوم بالعنف، بل بالتعليم والثقافة وغرس الروح النقدية وبخطاب مسجدي مستنير وبمحاربة الوضع الإقتصادي والإجتماعي المتردي الذي يعتبره أنه السبب الأول لهذا التطرف. فقد ظهر نجيب محفوظ في مذكراته ديمقراطيا إلى ابعد الحدود لدرجة مطالبته بالسماح للألحزاب الدينية المتطرفة بالتواجد، وإن فازت في الإنتخابات، فلها الحق أن تحكم، وتطبق الشريعة الإسلامية، ففي نظره أن الديمقراطية هو حكم الأغلبية. يبدو أن نجيب محفوظ يجهل تماما بأن الديمقراطية ليست فقط حكم الأغلبية، بل مرتبطة أيضا بعدة مباديء أخرى، ومنها إلتزام الجميع بإحترام التعددية واالتداول السلمي على السلطة والجريات بكل أشكالها ومبدا المواطنبة وإحترام الآخر، فهل سيلتزم هؤلاء المتطرفين بكل ذلك؟.