الشيوعية -الرسمية- وطقوس عاشوراء (1)


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 6032 - 2018 / 10 / 23 - 20:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

يكتب العديد من اتباع الشيوعية الرسمية في العراق (شيوعيي العملية السياسية) مقالات وتعليقلات بخصوص المواكب الحسينية في عاشوراء وزيارات الاربعين السنوية التي تحل ذكراها هذه الايام , حيث تخرج حشود جماهيرية هائلة يقال ان عدد المشاركين فيها يبلغ الملايين ولا ادري هل ان هذه احصائية حقيقية ام مبالغات! ولكن حتى لو كان العدد فيه بعض المبالغة فان العدد يبقى "مهولا", واني استخدم كلمة "مهول" هنا بصيغة سلبية, وليس بصيغة محايدة مثل عدد "كبير جدا", وذلك لاسباب ستتضح لاحقا.

ان الجموع البشرية المشتركة في طقوس عاشوراء لم تدرك بعد ان عدوها الحقيقي يتمثل في الاحتلال وصنيعته العملية السياسية. ولذا ان التحدي التاريخي لليسار العراقي يتمثل بمساعدة الحشود على توجيه سهام غضبها نحو المسبب الحقيقي لظلمها واذلالها, الرأسمالية العالمية وصنيعتها, العملية السياسية, وان اي مخرج تاريخي آخر هو استخفاف بعقول الناس والغاء لدورهم في صنع التاريخ لصالحهم, وليس لصالح اسيادهم العالميين او المحليين.

وعادة ما يقوم الكتّاب من اتباع الشيوعية الرسمية في العراق بالمقارنة, ميكانيكيا وبسذاحة لا مثيل لها, بين ما يزعمونه بثورة الحسين ضد الظلم, من جهة, واذعان المشتركين في طقوس عاشوراء للظلم, من جهة اخرى. انهم يعتفدون بوجود تناقض هائل بين سلوك المشتركين في الطقوس, او, بالاحري او ايضا, بين سياسات احزاب الاسلام السياسي من اتباع الحسين, من جهة, وموقف الحسين وثورته ضد الظلم, من جهة اخرى. وهم يزعمون ان هذا تناقض لا يتفق مع نهج الحسين او "ثورته!". ولذا على اتباع الحسين الرجوع الى الطريق المستقيم الذي اختطه الحسين وان يثوروا هم ايضا على الظلم. وهؤلاء الكتاب يبدو انهم يناقضون انفسهم بانفسهم. فكيف يثور الناس ضد الظلم والفساد والسلطة تواجه تحركات الجماهير بالحديد والنار وتقتل وتعتقل من تشاء؟ والشيوعبة الرسمية تتبنى الدستور المتضمن تداول السلطة بشكل سلمي. ولكن كيف يحقق الناس مطالبهم بشكل سلمي ويصلحون الوضع بوجود سلطة مافيوية مستعدة ان تبيد العراق عن بكرة ابيه اذا شعرت بالخطر الداهم الذي يهدد مصالحها, ناهيك عن وجودها؟ هل حققت مظاهرات ساحة التحرير الاسبوعية السلمية, وعلىى مدار عدة سنوات, شيئا, والآن يبدو انها اضمحلت او حتى تلاشت؟ نعم انها ادت شيئا, فقد قامت بامتصاص غضب الجماهير وغرس مشاعر اليأس لدى الناس في ان تحركها لا فائدة ترجى منه. ومظاهرات كهذه, شاءت ام ابت, هي مظاهرات مناهضة للثورة او التغيير في واقع الحال. وعند كتابتي هذه الفقرة يتبادر الى ذهني امران. الاول, فيلم هندي عن الشيطان شاهدته وانا صغير العمر. وكان اسم الفيلم -الطريق المستقيم!-. ولربما ان مترجم اسم الفيلم من الهندبة الى العربية قد ارتكب خطأ, فان اسم الفيلم لربما كان -طريق الشعب-, وليس -الطريق المستقيم-. و لكن طريق الشعب لا بد ان يكون مستقيما, صحيحا, وليس طريقا معوجا او طريق الضلالة- فالشعب في الدستور العراقي هو مصدر السلطات. وبالتالي فان المترجم لم يرتكب خطأ لان الطريق المستقيم, المضاد لطريق الشيطان في الفيلم, وطريق الشعب هما سيان, على الاقل نظريا.

الامر الثاني الذي يتبادر الى ذهني هو التحذير المكتوب على علب السجائر -ان التدخين يقتل!-. ونحن نعلم تمام العلم ان من يدخن يقرأ هذه العبارة كلما استخرج سيجارة من علبته لتدخينها, اي ما لا يحصى من المرات, ومع ذلك يستمر في التدخين ضاربا بالتحذير عرض الحائط. و اني اعرف شخصيا اطباءً عديدين يدخنون ايضا. ولكننا نعلم ايضا ما هو اهم! فنحن نعلم ان هذا التحذير, الذي يمكن اعتباره بالطبع كتوصية ايضا وكرادع للأقلاع عن التدخين, لا يغير من الامور قيد شعرة ولن يحمل المدمن على التوقف عن التدخين. ونحن نعلم ايضا ان العبارة مكتوبة من قبل شركات انتاج السجائر لتنقية ضمائرهم, ونحن نفترض ان لهم ضمائر, وذك لاسباب اساسا تتعلق بحماية الشركات لانفسها ضد اية دعاوى قضائية مستقبلية ضدها في ان منتوجها يقتل البشر. ان الرأسمالية ذكية وعلى عكس الشيوعية الرسمية العراقية التي تفكر ظاهريا بمنطق شركات انتاج السجائر, ولكن الاختلاف بينها وبين الشركات هو اختلاف جوهري.

ان الشركات تعلم تمام العلم, من خلال بحوث علم النفس الذهني وطب الادمان وطريقة عمل الدماغ البشري, ان تحذيرها لا يسوى شروى نقير وعديم الفعالية في التسبب في الاقلاع عن التدخين, اما الشيوعيون الرسميون في العملية السياسية فيعتقدون ان حثهم الناس على سلوك طريق الحسين واتخاذه كقدوة سسيؤتي ثماره- وان كانت الملاحظات اعلاه بخصوص مظاهرات ساحة التحرير واردة هنا ايضا. ولكن اذا افترضنا حسن النية, فانه يبدو ان كتّاب الشيوعية الرسمية يعتقدون بشكل راسخ ان رسالتهم الاخلاقية المستمدة من مأساة الحسين, وهم يسمونها -ثورة! -لأنهم لا ثوريون اساسا ويكرهون الثورة وحتى اسمها, ستؤتي ثمارها! ولكن الثورة غير مقبولة دستوريا. اذن يحق لنا ان نتسائل: ما معنى دعوة الناس للسير على طريق الحسين اذا كانت الثورة مستحيلة حسب الدستور العراقي الذي تبنته الشيوعية الرسمية؟ وبالتالي فان دعواتهم للسير على خط الحسين لا بد ان تكون من باب المراوغة والخداع, على اقل تقدير, حتى ولو افترضنا حسن النية. وهم يمارسون الخداع بشكل اعمق, وان كان يكثير من السذاجة. فهم يعتقدون ان التكرار, تكرار حث الناس على انتهاج ما بسمونه -نهج الحسين-, سوف يفعل فعله يوما ما وان الناس ستقتنع بوصاياهم الاخلاقية فيشرعوا بالثورة, حسب قانون الديالكتيك في تحول الكم الىى كيف! ولكن يشرع الناس بالثورة ضد من, فالشيوعية الرسمية تلتزم بالدستور الذي ينفى الثورة من مفرداته؟ فكيف ستحل الشيوعية الرسمية هذا التناقض بدون تخليها عن العملية السياسية ودستورها؟ ونحن لا نعلم كيف ان دعوات الشيوعيين الرسميين, مهما بلغت قوة حجتها وجزالة كلماتها وبلاغة خطابها, تكون اكثرثاثيرا من دعوات الله نفسه او من يقوم مقامه. فما تدعو اليه الشيوعية الرسمية بالسير على نهج الحسين متضمن ايضا في اذان الصلاة, خمسة مرات يوميا -حي على الفلاح, حي على خير العمل!-. فلماذا تعتقد الشيوعية الرسمية ان دعواتها ستكون اكثر فعلا وتأثيرا على الناس من الأذان نفسه. ولو كان هنالك دراسة علمية, مهما بلغت بساطتها المنهجية, فانها ستثبت بما لا يدعو للشك ان المؤذن, صوت الله لربما, فشل فشلا ذريعا في مهمته في كبح الظلم والفساد. واسباب الفشل بالطبع يمكن التكهن فيها, وهو تكهن وفق معطيات علمية وليس من باب التحليق في الخيال. ان المؤذن يدعو الى الفلاح وخير العمل, والناس تسمع ذلك حالها حال المدخن الذي يقرء عبارة التحذير. التدخين هو ادمان مرضي, والدين في العراق, بحكم وظيفته كمورقين, ادمان هو الآخر. والادمان لا يمكن معالجته بدعوات اخلاقية كدعوات المؤذن او الشيوعية الرسمية الاخلاقية -طهرانية, والا بعكسه يتحول طبيب الادمان او الطبيب النفسي الى مؤذن او مهرّج اخلاقي بائس بكل معنى الكلمة.

والمؤذن قد يُعذر, ولكن الشيوعيين الرسميين لا يمكن ان يٌعذروا. فهم يعلمون, او ينبغي ان يعلموا, ان الاخلاق بناء فوقي لا يمكن تغييره بالنصائح والتعاويذ, كما لدى ممارسي الطقوس الدينية, بل بتغيير القاعدة المادية بشكل اساسٍ. ان خطاب هؤلاء الشيوعيين الرسميين هو نفسه خطاب المؤذن! ولكن بواعث خطاب او دعوات المؤذن مفهومة نسبيا لانه ليس ماديا وعلى عكس الشيوعيين الرسميين, او هذا ما يفترض. ودعوات هؤلاء الشيوعيين الرسميين هي من باب -اني اديت دوري وواجبي واستطيع ان اشعر الآن براحة ضمير!-. فهي نرجسية, ولكنها ايضا وجه المرأة الآخر للتطبير, وايذاء النفس عموما, في عاشوراء والذي يضفي ايضا بدوره الشعور براحة الضمير والتكفير عن الذنب المفترض لدى اتباع الحسين.
يتبع