لماذا أكتبُ بالطباشير؟


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5862 - 2018 / 5 / 2 - 05:25
المحور: الادب والفن     



أعكفُ هذه الأيام على مراجعة وتنقيح وتطوير أحد كتبي القديمة، ليصدر في ثوبه الجديد هذا العام، فيكون هديةً إلى صديقة جميلة، أعتزُّ بها، ويعتزُّ بها مثقفو مصر.
هذا الكتابُ، الذي أعتزُّ به كثيرًا من بين كتبي الخمسة وعشرين، بدأتُ كتابته عام 2002، وصدر عام 2006 عن دار "شرقيات" بعنوان (الكتابة بالطباشير) . وعن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، سوف تُعادُ طباعته قريبًا، في ثوبٍ جديد، ولون جديد (بالطباشير الملوّن)، في لحظة وعي مختلفة بعد مرور اثني عشر عامًا بين الطبعتين، اتسعت فيها عيناي وتشاسعت مداركي، مع مرور كل يوم من تلك الأيام والليالي الطوال.
يُعدُّ الكتاب الجديد، صيحةَ فرح بواقعة فريدة في تاريخ مصر. حلمٌ قديم ناديتُ به سنواتٍ طوالا، تحقق أخيرًا وشهدت موكبَه الثريَّ بعيني.
هذا الحلمُ القديم هو أن تحملَ حقيبةَ الثقافة في مصر، امرأةٌ نابهة مثقفة فنانة، واستثنائية. وتحقق هذا كلُّه في شخص الجميلة د. إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة المصرية، الفنانةُ المُرهفة وعازفةُ الفلوت العالمية، ومديرُ دار الأوبرا المصرية لسنوات، وأيقونةُ "اعتصام المثقفين" الشاقِّ الشيّق المُشوّق الذي أفضى إلى ثورة 30 يونيو 2013، الشريفة.
قد يرى البعضُ أن شهادتي مجروحة في صديقة عزيزة على قلبي، مثل إيناس عبد الدايم. لكن المتابع لي يعرف أنني حينما أكتبُ في أيّ أمر، فإنني أتجرّدُ من أثوابٍ ثقيلة عديدة؛ من بينها ثوبُ "الهوى”. حينما أمسكُ قلمي لأكتبَ، أحاولُ أن أملأه بمداد الموضوعية الجادّة، فلا أُخضعُ قلمي لهوى الصداقة أو الخصومة، أو الميْل أو النفور، أو الاتفاق أو الاختلاف. هكذا أفهم “فعل الكتابة” الخطير، الذي لا يقلُّ خطورةً وشرفًا عن “القضاء” أو “الطب”. فالقاضي الذي “يميلُ” بهواه، يميلُ معه ميزانُ العدل فيظلم، والطبيب الذي “يميلُ” بهواه، “يميلُ” معه ميزانُ العلم، فيقتل. كذلك الكاتبُ الذي “يميلُ” بهواه، يميلُ معه ميزانُ الموضوعية، فيبخسُ الحقُّ، أو ينافق.
ولهذا، حين طلبت مني صديقتي التاريخية الشاعرةُ والروائية د. سهير المصادفة، رئيس قطاع النشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب، أن أختار من بين كتبي ما تعيد طباعته عن "هيئة للكتاب"، لم أجد أجملَ من هذا الكتاب، لأقدمه هدية للقارئ المصري والعربي من عُشّاق الفنون الجميلة، وللمايسترا المثقفة، وزيرة الثقافة المصرية. لأن الكتاب مغزولٌ بخيوط الموسيقى والفنّ، والأدب والمسرح والسينما والأغنية والأوبرا والرقص والتشكيل، وبالطبع أيضًا بخيوط "العمارة” مجال دراستي ومكمن عشقي. وكل ما سبق من خيوط الحرير، ليست إلا متَن النسيج الثريّ الشاسع المطرّز بدانتيلا الأناقة والذوق، الذي اسمه: "نسيج الثقافة"، الذي تغزل على نوله اليوم الموسيقارة: إيناس عبد الدايم.
الكتاب في طبعته الأولى، كتب مقدمتَه مفكرٌ مصريٌّ شاهقُ القامة، هو الراحل الجميل، وأستاذي، محمود أمين العالم، الذي غادرنا في يناير 2009. ولقدر هذا الرجل، ومكانته في قلبي، وفي العقل الجمعي العربي، أحتفظتُ بتلك المقدمة التاريخية الثرية في الطبعة الجديدة من الكتاب في عنوانه الجديدة (الكتابة بالطباشير الملوّن)، وقد أضيف له تصديرٌ جديد بقلم فيلسوف شاهق هو الدكتور مراد وهبة، ذلك التصدير الذي أعتبره وسامًا آخر فوق صدري.
في مقدمته الثريّة لهذا الكتاب، قال المفكر المصري الراحل "محمود أمين العالم"، رحمه الله: (أيـها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوان هذا الكتـاب! فكتابتُه لم تتم وتتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق، وفي غير مغالاة، كتابـةٌ بالحفـر العميـق في حقائقَ وظواهـرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة عامـة، … والحق أن قراءتي لفصول هذا الكتاب، على تنوّعها ووحدتهـا معًا، كانت لحظةً معرفيّةً حضاريّةً متنامية، تجمعُ بين تراثِ الماضي الإنسانيّ بعامة، وليس القوميَّ فحسب. هذا كتابٌ يُعدُّ إضافةً عميقةً وجادةً ملهمَة إلى تراثنا النقديّ العربيّ المعاصر وتستحقُّ عليه الشاعرةُ والمهندسة والناقدة فاطمة ناعوت كل تقدير واعتزاز.)
وبعد تلك المقدمة الجميلة، حدثت واقعةٌ طريفة للغاية مع أمي، سأحكيها لكم في مقال قادم. وأما إجابة السؤال: “لماذا أكتب بالطباشير؟"، فله سبب طريفٌ آخر سأحكيه لكم لاحقًا.