هاتفي... الذي أحبَّ تونس


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5843 - 2018 / 4 / 12 - 13:12
المحور: الادب والفن     


لماذا لا يذبلُ الياسميُن في تونس؟ لأن قلوب أهلها عامرةٌ بالريّّ والحياة. لهذا ستظلُّ باقةُ الياسمين، التي أهدتها لي تونس، ممشوقة القدّ مشرقةً في مزهرية مكتبي بالقاهرة، حتى أعود من جديد إلى تونس بكامل الحب والشغف، لألتقي أصدقائي هناك.
ذهبتُ للمشاركة في معرض تونس الدولي للكتاب وعقد جلسة حوارية حول كتابي: "حوار مع صديقي المتطرّف". وعدتُ بكنز وفير من الكتب، ضمنت لي صيفًا ممتعًا زاخرًا بالقراءة ورقص الروح. منها رواية "الطلياني"، حاصدة جائزة بوكر الشهيرة، و"تاريخ التكفير في تونس"، وكتاب جميل عن طه حسين، وجميعها من تأليف الروائي والمفكر التونسي د. شكري المبخوت، وغيرها عديد العناوين المهمة التي صدرت في تونس هذا العام. ولكن الكنز الذي عدتُ به إلى مصر، ليس فقط من ورق ومداد. إنما من القلوب الخضراء الورافة التي منحتني الحب في تونس الخضراء. تحت سيول الأمطار والرعد والبرق، قادت الجميلة "سامية وسلاتي" سيارتها من "سوسة" الجنوبية من أجل لقائي في العاصمة. وجاء الصديق المصري رأفت غالي ومن سفارتنا جاءت القنصل المصرية الجميلة ريهام عمار. ومن باريس، طارت طبيبة الأطفال: "روضة نابلي"، خصيصًا للقائي على ضفاف البحر في بلاج "سيدي بوسعيد". وكانت رقصة الأزرق مع الأبيض على شاطئ البحر، والأبواب العتيقة. إنها ديكتاتورية اللون حين يكتفي بلون الموج والزبد. وما حاجةُ العيون إلى مزيد من الألوان بينما تختبئ الحياةُ بكامل سحرها في الأبيض، والأزرق؟!
وأطار الجمالُ عقلي، فذهلتُ عن أشيائي، وضاع هاتفي في ذلك المكان الساحر. أو على قول أحد قرائي على صفحتي، "إن هاتفي رفض أن يترك ذلك الجمال، فقفز من حقيبتي ليظلَّ في تونس ولا يبرح سيمفونية الأزرق والأبيض. قالت صديقتي "روضة" بنبرة حزينة ولهجة فرنسية: “هذه عين حسود أصابتنا بعد يوم مبهج وسط الطبيعة والشاطئ والنخيل.” كنا نجلس ننظر إلى البحر المترامي أمامنا، ثم التقطت ورقة وقلمًا لترسم لي خريطة تونس وهي تشير إلى المدى البعيد، حينما بحثت عن هاتفي لألتقط الصور، فاكتشفتُ ضياعه! وذهبنا إلى نقطة البوليس بقرطاج. كان الضابط التونسي المحترم: "شرف الدين محمودي"، يكتب البلاغ ويتعهد بإرجاع الهاتف، وهو يعتذر عن الواقعة، بينما عقلي سارحٌ في مكان آخر.
لماذا هناك أقسامُ شرطة في كل مكان بالعالم؟ لماذا هناك وظيفة ضابط شرطة؟! لماذا هناك محاكمُ وسجونٌ وسلاسلُ وأقفالٌ؟ صديقتي "روضة" تلومني لأنني تركتُ حقيبتي غير مقفلة "بالسوستة" والقفل. مَن يا تُرى الذي اخترع السوستة والقفل؟
في البَدء؛ كان الإنسانُ بريئًا لا يعرف الأقفال. فجاء إنسانٌ وتلصّصَ على الإنسان، فاخترع الإنسانُ "الباب”. فجاء إنسانٌ وفتح البابَ وسرق شيئًا. فاخترعَ الإنسانُ القِفلَ والمفتاحَ. ثم اخترع الأسوارَ والسياجَ والأصفادَ والخزائن والأرقام السرية وغيرها من أدواتٍ اخترعناها لنتحايل على لصٍّ زرع زهرة الشرّ الأولى التي لوثت الأرض وجعلتنا نبتكرُ القانونَ والمحاكم والسجون والمشانق.
أصلُ الحياة أن تكون بسيطة بلا قضبان ولا أسوار حين كان العالم يحكمه قانون "البراءة”. الضابط والقاضي والسجّان … جميعها وظائفُ ابتكرها الإنسانُ لكي يعاقب مَن تلصَّص وسرق وقتل. لو كنا حافظنا على فطرتنا النقية ما عرفنا السجون. كلُّ سجن، كان يمكن أن يكون حديقة. كلُّ سورٍ يعطّل الشمس، كان ينبغي أن يكون أيكةَ ورد تغازلُ شعاع نور وترسمُ معه دانتيللا الظلال. كلُّ ثقبِ مفتاح في كلِّ بابٍ، كان بوسعه أن يكون عُشًّا يسكنه عصفور، أو شرنقة حرير تخرج منها فراشة. كلُّ قِفْل كان يجب أن يكون مفتاح حياة فرعونيًّا. كلُّ ضابط ومحامٍ وقاضٍ وسجّان، كان يمكن أن يكون شاعرًا ورسّامًا وموسيقارًا أو عاشقًا يسهرُ الليلَ ليصنعَ هديةً لحبيبته. كلُّ ساعة تُسرق من أعمارنا في نقطة تفتيش، كان لابد أن نغرس فيها شجرةً أو نقرأ كتابًا أو نكتب قصيدة أو نداوي مريضًا. زهور الشرّ حرمتنا من عازف بيانو يغسلُ قلوبنا بالفرح، واستبدلت به عشماوي يقصُّ أعناقَ الأشقياء. فقط لو كنّا حافظنا على براءتنا.
لو عاد الهاتفُ سأفرحُ، وإن لم يعد لن أحزن. سأقول إنه أحبَّ تونس وقرر الحياة بها.