أوهامُ الحبّ ... وفنّ الهوى


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5834 - 2018 / 4 / 3 - 11:38
المحور: الادب والفن     



“بأهازيجِ النصرِ اِشْدُ يا فتى/
ثم اصدحْ مُهلّلاُ إنّى مضيتَ/
فها هي ذي مَن كنتُ أطاردُها/
تقعُ فريسةً في الشِّراك.”

هل تذكرون كتاب "فنُّ الهوى" Ars Amatoria، للشاعر الرومانيّ الشهير أوڤيد، الذي ولد عام 43 قبل الميلاد؟ ذلك الكتابُ الذي كان سببًا في غضب الإمبراطور أوغسطس بسبب جرأة الكتاب وإباحيته التي صدمت الوعي العام آنذاك. وأعلن الإمبراطور رسميًّا أن الكتاب يُلهي الناسَ، بالهوى، عن أعمال الفلاحة والصيد والقنص؛ فنُفي الشاعرُ الجسورُ إلى مدينة مهجورة على شاطئ البحر الأسود، وأُحرقت جميع نسخ الكتاب. ولم يجد الشاعرُ حيلة سوى أن راح يرسلُ من منفاه القصيدة تلو القصيدة التماسًا للعفو الملكيّ. ذاك العفو الذي لم يجئ أبدًا. فقضى الشاعرُ نحبَه بعيدًا عن وطنه بمدينة توميس على ضفاف البحر. ذلك الكتاب الفريد الذي تُرجم إلى كل اللغات تقريبًا، وقرأناه في ترجمته العربية الأنيقة، بقلم الدكتور ثروت عكاشة، فتعرّفنا فيه على فصوله الثلاثة التي أذهلتنا. إذ يضمُّ الفصل الأول نصائح للرجل تفيده في البحث عن المرأة التي تجيد فنّ الحب وكيف عليه أن يتصيّدها بالمكر والحيلة. فيما كان الفصل الثاني تدريبًا ذكيًّا، وشعريًّا، للرجل من أجل الاحتفاظ بتلك المرأة "الكنز" أسيرةَ هواه، لأطول فترة ممكنة. بينما، في المقابل، نجد في الفصل الثالث، نصائحَ للمرأة، كيما تحتفظ بحبِّها عفيًّا ضاجًّا بالاشتعال في قلب حبيبها، فتضمن بذلك أن يكون أسيرها إلى الأبد. هل تذكرون ذلك الكتاب العبقري؟
تنويعةٌ جديدة من ذلك السِّفر العمدة، صدرت في مصر عن سلسلة "كتاب اليوم"، في شكل كتاب عنوانه: "أوهام الحب والزواج"، لاستشاري الطب النفسي المصريّ د. أيمن حامد، وتشرّفتُ بكتابة تصدير الكتاب. وكأن الكتابَ الجديد هو الصورة المرآوية لكتاب أوفيد القديم، ولكن ليس على صفحة مرآة الشعِّر كما فعل أوفيد، بل على صفحة مرآة العلم، الطبيّ والنفسي، كما فعل طبيبُنا المصري.
هو الصورة "الُمفلترة" من كتاب "أوفيد" تلك التي تحاول تنقية الحبَّ من شوائب الوهم والخيالات المُضلّلة، التي تُعكّر صفو الحبّ، فيظل يَخفُت بالتدريج، إلى أن يقضي الحبُّ نحبَه، ولا عزاء للعشّاق.
تحمّستُ لكتابة تصدير لهذا الكتاب، رغم إنه ينطلق من تربة أخرى غير التربة التي نشأتُ فيها فكريًّا ودراسيًّا. فلا هو كتابٌ في الهندسة المعمارية، مجال تخصصي الدراسيّ، ولا هو كتاب في الشعر أو النقد أو الأدب، مجال تخصصي العمليّ والوظيفيّ. إنما هو كتابٌ عِلميٌّ، طبيّ ، نفساني، اجتماعيّ. فلمَ كان حماسي؟
لأنه يتناول الإنسان. والإنسانُ، هو محور اهتمام المعماريّ، والشاعر، والأديب. مثلما هو محور اهتمام الطبيب والعالِم، مثلما هو محور اهتمام كل منجزات البشرية وعلومها وفنونها وصناعاتها. بل لا أتجاوز إن قلتُ إنه محور اهتمام الطبيعة الفاتنة الشرسة، مثلما هو هدفُ مُشاكستها وعنادها ولَعِبها، منذ الأزل وإلى الأبد. كذلك لأن الكتاب يطرح إحدى أخطر مشكلات المرأة مع قلبها. والمرأة هي الكائن الأثير لديّ. ليس لأنني امرأة، بل لإيماني العميق بأن المرأةَ هي مركزُ إشعاع الجمال في هذا الكون. وإلا ما كان مذهب الأنثوية المنادي بالانتصار لقيم الحق والعدل والجمال والرقي في المجتمع.
كذلك، ثمة سببٌ برجماتيّ أشعل حماسي للكتاب. كونه يستهلُّ كلَّ فصل بمقتطفات شعرية، صادف أن كانت جميعُها لشعراء طالما ألهموني. جبران خليل جبران، صلاح جاهين، نزار قباني، أمل دنقل، وغيرهم من عظماء الشعر العربي. والأجملُ، والأكثر ثراءً، كان استشهاد الكتاب بمقطع من الشِّعر المصري القديم لأحد شعراء الفراعين "بِتاح حُتُب"، فخرج الكتاب وجوديًّا كونيًّا، بمِسِحة حضارية مصرية دافئة.
سنتعلم من الكتاب لُعبة المخ مع القلب مع الروح، من أجل اختيار الحبيب. تلك الجديلة الثلاثية المُلغزة التي تجعلنا نختار حبيبًا دون سواه، فنرى فيه مزايا، ربما لا يراها الآخرون، ونعمى عن عيوب قد يتفق عليها الجميع! نُنصتُ إلى قول القدماء يقولون: "الاختيار الأمثل لشريك الحياة هو ما صادف هوي القلب، ولم يتعارض مع أحكام العقل. وأن ما يليه هو اختيار العقل الذي لا يرفضه القلب، فيكون تربة صالحة لغرس بذور الحب. أما أسوأ الاختيارات فهو اختيار العقل الذي ينفر منه القلبُ نفورا راسخًا، أو اختيار القلب الذي يرفضه العقل."
ونتعلم، عبر منهج علميّ موثّق، كيف يتآلف جنودٌ أشدّاءُ داخل أجسادنا، نُسمّيهم أعضاءنا الحيوية: العينان، القلب، المخ، الرئتان، الأطراف، وهلم جرّا، مع جنود غير مرئيين تسيطر على أدمغتنا، نُسمّيها: الغريزة والوعي والفكر والتراكم الثقافي والتأثر الحضاري بالبيئة التي نشأنا فيها، من أجل إتمام تلك "المعركة”. يتآلف جنودُ هذين الجيشين، أو يتعاركان أحدهما ضد الآخر، وصولا لنتيجة محددة، إما في صالح الحبيب، أو ضده. وسنتعلم لغات الحب المختلفة، وهو الجزء الذي منحني المتعة الأكبر في الكتاب، نتعرف فيه على طرائق التعبير المختلفة عن الحب، من ثقافة إلى ثقافة، ومن شعب إلى شعب، ومن فرد إلى فرد. للحبّ ضرورةُ وجود، وغيابُه هو أصلُ كلّ شرور العالم.