-ولاد البلد- يجوبون أرجاء مصر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5712 - 2017 / 11 / 28 - 17:21
المحور: الادب والفن     



لا تنكسِرُ مصرُ رغم النصال تكسّرتِ على النصالِ في خصرها. لكنها لا تمَسُّ القلبَ. ليس لأنها مذكورةٌ في القرآن والإنجيل، وحسب، فذلك شأنُ السماء لا حيلةَ لنا فيه. أمّا شأننا في الأرض، فهو الخيطُ الرفيع الذي حافظت عليه مصرُ منذُ نشأتها: الفنون الرفيعة. والمسرحُ، دُرّةَ تاج الفنون، ليس رفاهيةً وترفًا. بل عقلُ المجتمعات وضميرُها. هو ضمانةُ بقاء المجتمع، لأنه "مدرسةُ تعليم الكبار"، مثلما المدرسةُ لتعليم الأطفال. إن هوى المسرحُ، ضَمَر عقلُ المجتمع، لأنه الظهير الذي يمنع نفاذ النصل إلى قلبه. ومصرُ حالٌ فريدة. لا تتوقّفُ مسارحُها حتى في لحظات الحروب والإرهاب والكساد. بوسعك أن تصطحب أسرتك يوميًّا إلى أي مسرح من مسارح الدولة، لتشهدَ بجنيهات قليلة عرضًا ثريًّا. المسرح في مصر، هو نبضُ القلب الذي لا يتوقف، مهما توعّك الجسدُ. ذاك هو سرُّ مصر الخاص. وهنا يتوجّبُ شكرُ المخرج إسماعيل مختار، رئيس البيت الفني للمسرح، الحريص على ألا يتوقّف ذلك النبضُ يومًا، فلا ينسدلُ ستارٌ مسرح إلا ليُفتح للعرض التالي، من رفيع الأعمال التي تستحق شرف الوقوف على خشبات مسارح الدولة.
في قاعة "صلاح جاهين" بمسرح البالون، شاهدتُ أول أمس عرضًا جميلا ينتمي لمدرسة: "الكباريه السياسي"، من تأليف مصطفى سليم وإخراج محمد الشرقاوي، وموسيقى حازم الكفراوي، وغناء صوت مصر العذب فاطمة محمد علي. “ولاد البلد"، تابلوهات درامية استعراضية تناقشُ اثنين من أخطر النصال التي تضربُ خاصرةَ مصرَ ترومُ إهلاكَها: الإرهاب، والفساد.
أحد أجمل تلك التابلوهات يحكي عن صديقين من صعيد مصر. وهدان: مسلم متزوج وأبٌ لفتاة، وقطب: مسيحي أعزب. وحين ضُربت السياحةُ، قرر وهدان استضافة قطب ليعيش في داره البسيطة لتقليص نفقات بيتين، بعد بناء حائلٍ من الخشب بين الغرفتين. وفي لحظة إرهاب مُرّة اقتحم متطرفون البيت للبحث عن المسيحي لتهجيره أو قتله. فنجحت الأم والابنة في إخفائه بحيلة طريفة، لا أودّ حرقها، لينجو من سيوف السفاحين.
الطريف هو قرار المخرج أن يؤدي شخصيةَ المسلمَ، ممثلٌ مسيحي هو "شادي أسعد"، وأن يؤدي دورَ المسيحي ممثلٌ مسلمٌ هو "ياسر الرفاعي". هنا تكتمل الرسالة.
العرضُ الُمثقل بقضايا سياسية واجتماعية ثقيلة، مضفورٌ بجرعات عالية من كوميديا الموقف. منها حين ينسى "قطب" ويقرأ "الفاتحة" مع صديقه بعد الاتفاق على أمر، ثم يتذكّر فجأة أنه مسيحي؛ فتغرق القاعة في الضحك، ثم يهدر تصفيقُ الاحترام حين يُذكّر كلٌّ منهما الآخر أن "آمين" في نهاية الفاتحة، تجمع بين المسلم والمسيحي. والحقُّ أنها لا تجمعهما فقط كصديقين اختلفا في العقيدة واجتمعا على الحب، بل تجمع بينهما كمصريين. لأنها، تعود إلى الكلمة المصرية القديمة "آمون"، وتعني:"الإله الخفيّ" أو "رب الشمس" في الميثولوجي المصري؛ وتُنطق: “آمِن"، بنفس طريقة نطق كلمة Amen التي يقولها كلُّ البشر في ختام الصلوات، على تباين العقائد والمذاهب.
يطرح العرض الثريّ قضايا حيوية مثل "الهجرة غير الشرعية" التي تحول حلمَ الهروب من ضائقة العيش إلى كابوس البحث عن رفات الجثامين في أغوار البحار. وينتهي بمشهد ماسٍّ في كتيبة من كتائب الجيش المصري بالعريش، تجمعُ الفرقاء من أبناء الوطن، على هدف الذود عن شرف مصر ضد غيلة الإرهاب. وكأنما قررت السماء أن يجمع الموتُ بين الصديقين كما جمعتهما الحياةُ. حين لم يسمحا للعقائد أن تفرق بينهما، فقررت قذيفةٌ إجرامية أن تُنهي حياتهما في لحظة واحدة في زيّهما العسكري. فيموتان متعانقين، يحاول كلٌّ منهما أن يتلقى الموت بدلا من صديقه ويحميه بجسده من شظايا القذيفة، ليختلط الدمُ المسلم والمسيحيّ ليروي تراب مصر الطيبة.
كلَّ احترامي للدكتورة "أمل جمال" بوزارة الشباب والرياضة التي قررت أن يجوب العرضُ محافظات مصر، في رحلة تبدأ الاثنين القادم بأسوان. وشكرًا يا مصرُ لأن مسرحك نابضٌ وحيٌّ وغزير، مهما تواترت عليكِ المحن.