خالد جلال يرفع مرآة ميدوزا في وجوهنا


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5687 - 2017 / 11 / 3 - 23:28
المحور: الادب والفن     

خالد جلال يرفع مرآة ميدوزا في وجوهنا


على مدار الساعتين، ظلَّ عقلي يفكّر في ذلك "الملفّ المغلق" الذي لا يريد أن ينفتح إلا بعلم صاحبه! تُرى ما يكون؟! ملفٌ غائر في عمق جمجمة إنسان، مُشفّرٌ عصيٌّ على مباضع أعظم علماء الكون وخبراء البرمجيات في مستقبلٍ لم نره بعد، يقع في عام 2050. جاء الصوتُ النسائيُّ المعدني يقول: “هذا المفُّ مغلقٌ وفي موقع عميق من ذهن الهدف. ولا يُفتح إلا بمعرفته هو فقط. وذلك عند الضرورة ووقت الخطر. لهذا هو عصيٌّ على الفهم، يصعُب اختراقُه، أو هزيمتُه، هذا هو السرّ.”
وأما "الهدف" المقصود، فهو إنسانٌ ملوّثٌ، مثلي ومثلك، بأمراض المجتمع المصري الراهن: الفساد، الرياء، الثرثرة، الكذب، النميمة، الذاتية، إطلاق الشائعات، الهدر، غياب القيم، اللاانتماء، الغرور، الاستئثار بالرأي، التعصب، ادّعاء العلم، والجهل. هذا الهدف التعس، سقط، بطريقة ما، في المستقبل. حيث لحظة متطورة من حياة البشرية بعد عقود، نجح الإنسانُ فيها أن يغدو "الكائن الفائق"، أو السوبر مان، الذي تنبأ به نيتشه، حين يغدو الإنسانُ فاضلا لا يرتكب الخطيئة ولا يعرف الإثم، ليس خوفًا من نارٍ ولا طمعًا في جنّة، إنما من أجل عيون الحق والخير الجمال، وفقط. ذاك هو حلم البشرية، بعيدُ المنال. أن نغدو نبلاء لأننا يجب أن نكون نبلاء وفاضلين وأطهارًا، لا خوفًا ولا طمعًا. وجد نبلاءُ المستقبل، ذلك الرجلَ، ابنَ عصرنا، مرميٌّ على الأرض غائبٌ عن الوعي، مُحمّلٌ بكل فيروساتنا الأخلاقية؛ فخافوا أن تنتقل أمراضُنا إلى مجتمعهم النظيف، فيتلوّث. فأودعوه في الحجر الصحّي، وحذّروا من لمسه. مجرُد مسِّه قد ينقل العدوى! وكأن انهيار الأخلاق لون من "الجرب" الروحي. وهذا حق. ثم بدأوا في تحليل وتشريح ذلك الدماغ الملوّث؛ للوقوف على طريقة لعلاجه، وإلا يُعدَم، حمايةً لأبناء المستقبل الفائق من العدوى. نجح خبراءُ البرمجيات في عصرهم في فتح جميع ملفات الجمجمة الملوثة، وسط ذهول علمائهم من شيء اسمه: فساد، نميمة، جهل، جحود، عنصرية…. وغيرها من فيروسات تعشّش في خلايانا، نحن أبناء اللحظة الراهنة. لكن ملفًّا واحدًا استعصى عليهم، وكان فيه سرُّ شفاء هذا التعس المُفيرس. فقرّروا إعدامه قبل أن تشيع أمراضُه في أجوائهم النظيفة. إلا طبيبة واحدة رفضت فكرة إهلاك إنسان، مهما كان موبوءًا، لأن حقّ الحياة مقدسٌ. أمهلوها يومين لفتح الملف، وإن أخفقت، فليس إلا موت مريضها.
ظلّ عقلي يفكّر في هوية ذلك الملف الغام! وظننتُ أنه "الضمير". لكن صُنّاع الحكاية كان لهم تصوّرٌ آخرُ، أجملُ وأوقعُ. ربما لأن ضمير مريض كهذا لابد سيكون غائبًا. فالشرَّ، هو غيابُ الخير، والظلمَ هو غيابُ العدل، والدنسَ هو غيابُ الطهر. هكذا يكون "الوجود"، بـ"الغياب”. وإذن، فلابد أن الملف المغلق "موجودٌ"، لكنه خاملٌ. ملفٌّ غالٍ عزيز، وثمين. فيه سرٌّ شفاء المرضى، وسرُّ عودة النبل والأخلاق لجنسنا البشريّ التعس.
هنا يجب أن أتوقف ولا أُفشي السرَّ الذي لابد أن يصل إليه كلُّ إنسان بمفرده. لأن "الكنز" في مشقّة الرحلة إليه، لا في جواهره وألماساته.
سيعرفُ سرَّ ذلك الملف مَن يشاهد هذا العرض المدهش على خشبة مسرح مركز "الإبداع الفنيّ" بحرم "دولة" الأوبرا المصرية، كما أُحبُّ أن أسمّيها. مسرحيةٌ آسرة ارتجلتها مجموعةٌ من شباب الممثلين الواعدين كمشروع تخرّج للدفعة الثالثة من ورشة الارتجال والتمثيل المسرحي 2017. وكل ارتجال بحاجة إلى عصا مايسترو تضبطه وتقوده ليخرج إلى الناس سيمفونية منضبطةَ الإيقاعِ مضفورةَ الوشيج، عميقة الدلالة، احترافية الأداء. وكان هذا "المايسترو" هو المخرج الفنان "خالد جلال" الذي اختار أولئك الممثلين بعين جواهرجي ينتقي الدرّ النفيس من حصى الأرض، ويصقل صخورَ الكربون فيتلألأ ألماسًا مُشعًّا يخطف الأبصار ويسرُّ الناظرين. علينا جميعًا أن نشاهد تلك المسرحية الآسرة، "سلِّم نفسك"، حتى نتطهّر من أمراضنا، ونُشفى، ونُسلّمَ أنفسنَا للفضيلة والنبالة والتحضر. مسرحيةٌ يرفع فيها "خالد جلال"، وتلامذته، مرأة ميدوزا في وجه الجميع، حتى نرى القبحَ فنسارع بتحويله إلى جمال، قبل ان نتحوّل إلى أحجار.