مقالات حول جدلية الدين والسياسة(2) -هل أستهدف الأنبياء والرسل إقامة دول دينية؟-


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5645 - 2017 / 9 / 20 - 21:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقالات حول جدلية الدين والسياسة (2)
-هل أستهدف الأنبياء والرسل إقامة دول دينية؟-

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-



لو نتتبع تاريخ الأنبياء والرسل، فإننا لا نجد أي نبي أو رسول قد سعى لإنشاء دولة خاصة به بإستثناء سيدنا سليمان عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك يعود إلى أن هدف الأنبياء هو إتمام مكارم الأخلاق التي بها تكون الدولة عادلة والمجتمع سعيد ومتقدم، كما يستهدفون أيضا إعطاء دفعا لحركية التاريخ بمقاومة الإستبداد والظلم والإستغلال وأيديولوجييهم الممثلين عادة في بعض رجال الدين الذين حرفوا في غالب الأحيان الدين السماوي السابق، وأختطفوه، وحرفوه لخدمة مصالحهم الخاصة بعد وفاة النبي الذي جاء به، وسعى هؤلاء بالتحالف مع الطبقة السائدة لتأسيس دولة على أساسه لتثبيت سلطتهم وإستغلالهم ونفوذهم بتوظيف هذا الدين بعد تحريفه وتأويله -حسب مصالحهم-، كما وقع مثلا مع الأمويين الذين أختطفوا الإسلام، وجندوا بعض ما سموهم ب"الفقهاء" لتبرير توسعاتهم وإستغلالهم بإسم الإسلام الذي كان إسلاما مختلفا كل الإختلاف عن الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد (ص)، ولعل هو الذي جعل المفكر الإيراني علي شريعتي والمفكر الليبي الصادق النيهوم يقولان عنه أنه "إسلام ضد الإسلام".
فلو كان للدين علاقة بإنشاء دولة، لسعى سيدنا يوسف عليه السلام إلى إقامة دولة بدل قبوله بالوزارة في دولة مصر، ونجد نفس الأمر عند سيدنا موسى عليه السلام الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول للفرعون كلاما جميلا وطيبا، لعله يخفف من طغيانه وظلمه، أي جاء بدعوة أخلاقية وحسن السلوك، أي بمباديء أخلاقية وروحية مثله في ذلك مثل سيدنا عيسى عليه السلام الذي لم يسع لتدمير الدولة وتعويضها بدولة دينية، فله مقولة شهيرة هي "مالله لله، وما لقيصر لقيصر"، بل واجه سيدنا عيسى رجال الدين اليهود الذين حرفوا الدين الذي جاء به سيدنا موسى، ويوظفونه لتثبيت نفوذهم وإستغلالهم، ونجد نفس الأمر عند سيدنا محمد (ص) الذي قال: جئت لأتمم مكارم الأخلاق، أي لاعلاقة لدعوة كل هؤلاء الأنبياء والرسل ببناء دولة جديدة مكان الدولة القائمة، بل هدفهم روحي وأخلاقي، ومن خلال ذلك تتحسن أحوال الدولة والمجتمع والإنسانية جمعاء.
لكن سيقول البعض، أن سيدنا محمد(ص) قد أقام دولة، وكذلك نفس الأمر لسيدنا سليمان، ففي الحقيقة سيدنا سليمان أقامها لحماية قومه بني إسرائيل، أي أقام دولة لقومه، أما سيدنا محمد(ص)، فلم يقم دولة المدينة إلا لحماية المسلمين الذين تعرضوا للإضطهاد من قريش في مكة، فلم تكن الدولة هدفا له، ولذا وضع وثيقة المدينة التي تحمي كل سكان المدينة أو يثرب، وتحمي حقوق الجميع في إطار تعايش توافقي بينهم، وهي وثيقة تنص نسبيا على ضمان حقوق المواطنة لكل سكان يثرب، بما فيهم المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، أي أقام دولة المواطنة نسبيا.
لكن للأسف الشديد، تم تغييب وثيقة المدينة التي أرساها سيدنا محمد(ص) في تاريخ الإسلام من طرف بعض الفقهاء، فالوثيقة هي إشارة واضحة إلى أن سيدنا محمد(ص) أستهدف بها بناء دولة مدنية لكل السكان المقيمين في يثرب، وليس إقامة دولة دينية، أي أن هذه الوثيقة فيها نوع من التمييز والفصل بين الدولة والدين، فدستور الدولة قائم في تلك الوثيقة، أما الدين، فنجده في الكتاب المقدس، وهو القرآن الكريم، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع السوداني محمود محمد طه إلى الفصل بين الآيات المكية والمدنية، فأثبت بحكم ضلوعه الكبير في نصوص الإسلام إلى القول: أن الآيات المكية نصت على مباديء عامة وقيم صالحة لكل زمان ومكان، أي دون أي تفصيل فيها، أما الآيات المدنية، فهي ظرفية، وهي خاصة فقط بدولة المدينة، ولهذا أخذت طابع تشريعي ظرفي، ويقول أنها مرتبطة بزمانها ومكانها، وهي خاصة بدولة تتطور في ظروفها وتعقيداتها.
فبغض النظر إن كنا نتفق أو نختلف مع محمود محمد طه، إلا أنه يثبت لنا أن النصوص الدينية خاضعة لتأويلات عدة، وبإمكان أي كان فينا أن يؤولها كما يشاء، ويتحكم في عملية التأويل درجة الثقافة والتثاقف مع ثقافات أخرى والأيديولوجية والإنتماء الطبقي وغيرها من العوامل، فقد أتى مثلا محمود محمد طه لدعم طرحه بأدلة قاطعة من مصادر الإسلام الدينية كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، وكانت حججه قوية جدا، وبإمكان آخر في نفس مستواه في مجال المعرفة بالنصوص الدينية أن يواجهها بحجج أخرى من نفس النصوص، فمن الأصح بين كل هؤلاء المأولين للنص الديني، وبتعبير آخر فالنص الديني يحتمل عدة قراءات وتأويلات، وقد لفت إلى ذلك الخليفة علي بن أبي طالب مبكرا عندما قال "أن القرآن حمال لعدة أوجه".
أن ما أوردناه، يعني أن تأويل النصوص الدينية وفهمها هي مسائل بشرية بحتة، تتحكم فيها عدة عوامل، ولو جاء أي واحد، وأعطى لتأويله القداسة والحقيقة المطلقة، وكفر المخالف له، فمعناه ندخل في حروب دينية لانهاية لها، في الوقت الذي نحن بحاجة إلى الإستقرار من أجل بناء دولنا المرتبطة بتسيير وتحسين ظروف الحياة والقيام بعملية تراكم البناء والتنمية، فنحن نعرف جميعا مثلا في بلادنا المغاربية، وبناء على ما أورده بن خلدون في مقدمته، كيف أقيمت دول، وأسقطت أخرى بإستغلال الدين وتكفير بناة الدولة الجديدة لأصحاب الدولة التي اسقطوها، ثم تتكرر نفس العملية من آخرين بتكفيرهم المكفرين لسابقيهم، فمن هو المؤمن، ومن هو الكافر ضمن كل هؤلاء؟، فمن هو الأصح اليوم، فهل الذين قالوا في السبعينيات أن الإسلام "دين إشتراكي" بحكم النفوذ والإنتشار الكبير للفكر الإشتراكي آنذاك، كما ذهب الإخواني السوري مصطفى السباعي في كتابه "إشتراكية الإسلام"، وذهب سيد قطب أبعد من ذلك في إشتراكيته، لدرجة إتيانه في كتابه "العدالة الإجتماعية في الإسلام" بمقولة لسيدنا عمر بن الخطاب، يرى فيها بأحقية الدولة نزع كل الأموال الزائدة الموجودة لدى الأغنياء، ثم إعادة توزيعها على الفقراء، بل لايختلف ماطرحه سيد قطب في كتاب "معركة الإسلام والرأسمالية" عن طروحات أشد الإشتراكيين تطرفا، لكن لو عاش بيننا اليوم سيد قطب أو مصطفى السباعي وغيرهم لعل سيقولون شيئا آخر مناقض لما كتبوه في خمسينيات القرن الماضي بحكم تأثير العولمة الرأسمالية بإعلامها القوي جدا، فبإمكاننا أيضا أن نأتي بالكثير من الأمثلة من الذين يوردون اليوم نصوصا دينية توحي بأن الإسلام يتماشى مع إقتصاد السوق والديمقراطية، فلانستغرب إشارة وتلميح الكثير اليوم إلى مقولة "الإسلام دين رأسمالي" مستندين أيضا على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، كما فعل الذين قالوا من قبل أن "الإسلام دين إشتراكي".
من حقنا أن نتساءل اليوم: لماذا تم تغييب الحديث عن عدالة عمر بن الخطاب ومبدأه "من أين لك هذا؟" في الخطاب الديني، كما لا يذكر إطلاقا الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي وقف في وجه الزحف التدريجي للمال على الدولة للسيطرة عليها في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، مما مهد لقيام دولة بني أمية التي تعد نقطة تحول وإنحراف كبير جدا في تاريخ الإسلام، فالتفسير الوحيد لكل هذا التغييب هو تغول الرأسمالية العالمية وإعلامها وتوظيف الخطاب الديني لخدمة مصالح الطبقة المسيطرة على دولنا والمرتبطة بمصالح الرأسمالية العالمية، والذي يتطلب تبرير ممارساتهم وإعطائها شرعية دينية بتأويل آيات قرآنية وأحاديث دينية.
أن ما أوردناه هي مجرد أمثلة من الأمثلة الكثيرة جدا في التاريخ التي تثبت لنا عن مدى تحكم الظروف الفكرية والثقافية والإقتصادية والسياسية والمصالح الطبقية وغيرها في عملية تأويلنا النصوص الدينية، هذا ما يعني أنه لا وجود لنظام إسلامي ثابت كي نقيم على أساسه دولة، بل بإمكاننا تأويل النصوص الدينية حسب الظروف، فهذا في الأخير سياسة، وليس دين، فمادام هو تأويل، فمن الأصح من ضمن هذه التأويلات كلها؟، وهل لمنظري حزب البعث العربي، وعلى رأسهم ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار الحق عندما قالوا أن الإسلام كان مجرد رسالة العرب على العالم في تلك الفترة، أدت إلى إنبعاثهم وتوسعهم؟، ألم يكن هذا الإعتقاد لدى منظري حزب البعث العربي وراء تقديسهم الدولة الأموية، لأنها فقط دولة عربية عنصرية بغطاء ديني؟، ويقول هؤلاء المنظرون بأن العرب لهم اليوم رسالة أخرى تتمثل فيما أسموه ب" الإشتراكية العربية" التي يجب أن ينشروها في العالم أيضا، ويبدو أنها نفس الفكرة التي يأخذها عنهم السوداني محمود محمد طه دون إلغائه الإسلام بقوله: أن إسلام فترة المدينة والخلافة الراشدة شيء تتحكم فيها ظروفها الخاصة، أما اليوم فالإسلام في نظره ذو مباديء إشتراكية وديمقراطية، وذلك في كتابه "الإسلام دين ديمقراطي وإشتراكي" الصادر في 1968.
هذا ما يدفعنا إلى القول بضرورة الفصل بين مقتضيات الدولة والسياسة من جهة وشؤون الدين من جهة أخرى، وأي خلط بينها، هو في الأخير مجرد تأويل لنصوص دينية بهدف إيجاد شرعية لممارسات سياسية خاصة بظروف الدولة.
ويبدو هذا ماكان يقع في تاريخ الإسلام منذ وفاة سيدنا محمد(ص)، فلو كان يربط بين الدولة والدين، لوضع مؤسسات، ولأختار خليفة له، فما نشأ حول الخلافة منذ وفاة سيدنا محمد(ص) هو خلاف حول تسيير الدولة وطريقة تعيين الحاكم، والتي أختلفت من خليفة إلى آخر، أي من أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليهما، فلم تكن إطلاقا خلافات دينية، وما محاولات بعض المسلمين إيجاد دلالات تثبت أو توحي أن سيدنا محمد(ص) قد لمح لأبي بكر بخلافته ماهي في الحقيقة إلا بحث عن شرعية دينية للخليفة أبي بكر الصديق تقابلها محاولات شيعية لإيجاد شرعية دينية لأحقية علي بالخلافة بإختراع حديث الغدير، كما أخترع أنصار أبو بكر تلك الدلالات عليه، فمعناه أنه صراع سياسي بغطاء ديني ظرفي، ونذهب أبعد من ذلك، عندما نتحدث عن حروب الردة وتشريع قتل المرتد، فنعتقد أنه تحريف كبير جدا للإسلام ومجرد محاولة لإيجاد غطاء ديني لممارسات وسلوكات سياسية، فأبوبكر الصديق عندما قاتل الذين رفضوا دفع الزكاة لم يقاتلهم لسبب ديني في الحقيقة، بل لأنهم رفضوا دفع الضرائب للدولة، والتي سميت بالزكاة، فما قام به أبوبكر الصديق هو شبيه بقيام الشرطة الأمريكية بسجن وإعتقال كل من يرفض دفع الضرائب التي هي المورد المالي لتسيير الدولة، وكل ما جاء فيما بعد تحت غطاء ديني هو لإعطاء شرعية دينية لما قام به أبوبكر الصديق، فهي مسألة تسيير دولة بتغيراتها وظروفها وتعقيداتها، ولا علاقة لها إطلاقا بمسألة الدين، ونعتقد أن الذين يتحدثون اليوم عن قتل المرتد عن الإسلام، لايمتلكون أي نص قرآني ثابت يقول بذلك، لأنه مناقض للمنطق، فمفهوم الردة آنذاك تشبه مفهوم عدم الولاء وإعلان العصيان على الدولة اليوم، وليس الدين.
ما يؤسف له هو هذا الخلط الكبير بين توسعات الأمويين، وبأنهم كانوا يستهدفون نشر الإسلام، فلنسأل هل من المعقول أن ينشر الإسلام أناس ضربوا الكعبة بالمنجنيق لأسباب سياسية مع خصومهم، وهم أناس لعبوا برأس سيدنا الحسين حفيد سيدنا محمد (ص)، فمعناه لاعلاقة لممارسات الأمويين بالدين الذي ينص على مكارم الأخلاق، فماهي إلا سياسة وشؤون دولة، بل هي سياسة بكل مأساتها ولا أخلاقيتها، ويتم ذلك كله تحت غطاء ديني، والدين بريء منها.
طبعا سيعرف تاريخ الإسلام كل هذه الصراعات السياسية التي صاحبها التكفير مثل لعن الأمويين لسيدنا علي على المنابر، وهو المبشر بالجنة في الخطاب الإسلامي السائد، فمن المسلم الحقيقي ضمن هؤلاء فهل هو علي أم الأمويين؟، نحن لاندخل في هذه النقاشات، بل فقط لنثبت أنها سياسة لا أخلاقية تستغل الدين، ويكفر بعضهم بعضا، وهذا في صدر الإسلام، ولم يمر على وفاة سيدنا محمد بضعة عقود، فما هو حال هؤلاء الذين يستغلون الدين اليوم، ويبشروننا بدولة دينية لم يسع الأنبياء ذاتهم لإقامتها، ومنهم سيدنا محمد(ص) الذي أسس الدولة لظروف خاصة بتلك الفترة فقط بهدف حماية المسلمين آنذاك من قريش، وما يؤسف له عندما تطرح على دعاة الدولة الدينية اليوم بعض القضايا، يعودون بك إلى ممارسات سيدنا محمد(ص) أو الخلفاء الراشدين، كأن هؤلاء هم في نفس درجة وأخلاق الرسول (ص)، فالدولة والسياسة شيء، أما الدين فشيء آخر لاعلاقة له بها حتى في مفهوم الأنبياء الذي لم يسع ولا أحد منهم إلى إنشاء دولة خاصة بدينه، وسنحاول في المقالات القادمة تتبع المأساة والإنعكاسات الكارثية لعملية إستغلال وتوظيف الأديان لأغراض سياسوية وسلطوية لدى العديد من الشعوب، ونبدأها بتاريخ الإسلام ذاته.

يتبع بمقالة ثالثة عنوانها : علاقة الدين بالسياسة في تاريخ الإسلام

البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-