زي النهارده واليومين اللي فاتوا... كارت أحمر


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5571 - 2017 / 7 / 4 - 14:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


زي النهارده من كام سنة، نزلت إلى مكتبة "سمير وعلي" واشتريت فرخ كبير مقاس 100× 70 سم، فبريانو أحمر بلون الغضب. رجعت البيت، فتحت درج مكتبي، وأخرجت عِدّة الرسم الهندسي اللي من أيام الكلية، لما كنت في قسم عمارة بهندسة عين شمس. قلم رصاص سنون 0.5 مم، مسطرة T-square، مثلت 30-60 لزوم الزوايا القائمة، وكاتر حادّ، كحِدّة الغضب في قلبي. فردت فرخ الورق فوق ترابيزة الرسم وثبّته بالسولوتيب، وقسّمته بالمسطرة والمثلث والقلم: 20 خط رأسي، و10 خطوط أفقية، وبدأت أدوس على الخطوط بالكاتر المسنود ع المثلث. وفي الأخير كان بين إيديا عدد 200 مستطيل ورق مقوى مقاس 7×5 سم. 200 كارت أحمر.
النهارده الجمعة 30 يونيو 2017. زي النهارده من أربع سنوات، الأحد 30 يونيو 2013، كان قد مرّ علينا شهرٌ في اعتصام المثقفين، داخل وزارة الثقافة وأمامها بشارع شجر الدر، بالزمالك. سيبنا بيوتنا وعيالنا وحياتنا وجينا نعتصم اعتصامًا مفتوحًا للمطالبة بإقالة الوزير الإخواني، اللي اتخبط في دماغه وفكر يُقيل د. إيناس عبد الدايم من منصبها كمدير لدار الأوبرا المصرية، اللي باحب اسميها “دولة الأوبرا المصرية”. والسيدة الجميلة دي مش بس عازفة فلوت عالمية رائعة، ومش بس مديرة ناجحة جدا لدولة الأوبرا المصرية العظيمة، لكنها كمان سيدة مثقفة جدًّا ووطنية جدًّا، وفنانة جدًّا. عشان كده انتفض كل مثقفي مصر غضبًا على هذا القرار الإخواني الأحمق، وقررنا احنا اللي نُقيل الوزير الإخواني اللي فكّر يستبدل بفنانة عظيمة زي د. إيناس، حد من الإخوان عشان يخرب دار الأوبرا زي ما كانوا بيخربوا أي مكان بيقع في ايديهم. وقتها كتبت مقال شكرت فيه الوزير الإخواني ده عشان قراره الغبي ده فجّر غضب المثقفين. وده اللي أعطاني شبه يقين أن أيام الإخوان في حكم مصر بقت معدودة. قلت في المقال: "أهلا بكم في عشّ الدبابير. موعد رحيلكم قد حان أيها الإخوان". وبالفعل، استمر اعتصامنا شهرًا ويزيد. قررنا، نحن المثقفين، ألا نبرح موقعنا في مقر الوزارة، حتى لو أُقيل الوزير الإخواني. لماذا؟ لأننا قررنا أن يلتحم اعتصامُ المثقفين بثورة الشعب المصري المرتقبة في اليوم المعهود المشهود، 30 يونيو، الذي سيخرج فيه الشعب كاملا، بكافة طوائفه وانتماءاته السياسية والعقدية والفكرية، حاملين لكروت الحمراء لإسقاط محمد مرسي العياط، مندوب جماعة الإخوان الإرهابية في مسلسل هدم مصر الذي بدأوه عام 1928. لم تكن ثورتنا ضد محمد مرسي كرئيس لمصر، وفقط. فأنا أحد الذين لم نره رئيسًا لمصر في يوم من الأيام. ولم أُلقّبه أبدًا بلقب "الرئيس" لا في مقال ولا في لقاء تليفزيوني ولا في تصريح أو حوار صحفي، ولا في جلسات الأقارب والأصدقاء. إنما كانت ثورتنا ضد فكرة تقويض مصر بجعلها دولة دينية. ضد إسقاط مصر فكريًّا وثقافيًّا ومجتمعيًّا. كانت ثورتنا ضد الدستور الإخواني الوهابي الذي كتبه سلفيون غُلاة وإخوانيون خونة. كانت ثورتنا ضد تشويه التعليم واعوجاج القيم وتدنيس تاريخ مصر. كانت ثورتنا ضد أفكار بشر لم يُقدّروا مكانة مصر الحضارية العريقة، ولا قرأوا تاريخها، ومن ثم لم ينجحوا في حبّها، وإن انتموا إليها بالميلاد أو بالعرق أو ببطاقة الرقم القومي. كانت ثورتنا ضد تقويض اقتصاد مصر لصالح انتفاخ جيوب وأخزنة أسلحة ميليشيات الإخوان داخل مصر وخارجها. كانت ثورتنا ضد تفتيت النسيج الوطني المصري وتقسيمه شرائحَ وشِيعًا وطوائف وعقائد ومذاهبياتٍ ومللا ونِحلاً وفرقًا متناحرة على أسس فكرية أو عَقَدية أو طائفية. كانت ثورتنا ضد الفقر الروحي والعِوَز الأخلاقي، والانحطاط القيمي. كانت ثورتنا ضدّ إهانة المرأة والطفولة والجمال. كانت ثورتنا ضد فكرة قيام أحزاب على أسس دينية تشطر الشعب وتمزّق نسيجة. كانت ثورتنا ضد "حزب النور" الذي كان ومازال وسوف يظل يُسمّم عقول البسطاء بأفكار تنأى عن منظومة الجمال والعدل. كانت ثورتنا ضد الفساد والسرقة واغتصاب الحقوق وحرمان الإنسان المصري من حق الحياة بكرامة وحرية. كانت ثورتنا ضد إهدار دم الشهداء الذين سقطوا في ثورتين آمّنا بهما وأخرجتانا من بيوتنا ببراءة من أجل إنقاذ مصر من الطغيان والفاشية والتجهيل العمدي على يد من حكموها. كانت ثورتنا بالأساس ضد الجهل. لأن الجهل هو عدو الشعوب التاريخي الذي يهدم المجتمعات ويحوّلها إلى قطعان من السوقة الحوشيين وينأى بها عن ركب الحضارة والتحضر والسمو. كانت ثورتنا ضد صنّاع البغض والقبح، أعداء الحياة خصوم الحق والخير والجمال.
وأتى الكارتُ الأحمر بثماره في طرد الإخوان من حلبة الحكم المباشر. لكن شيئًا من ظلالهم مازال يرعى في جسد مصر يُعرقل التعافي والشفاء. ومازال أمامنا جهدٌ هائل وعملٌ دءوب وصبرٌ ومثابرة من أجل تحقيق ما تستحقه مصرُ من السمو والتحضر.