ماركس ووايتهيد والميتافيزيقيا والديالكتيك (16)


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 5425 - 2017 / 2 / 7 - 02:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في الحلقة السابقة تطرقت الى بعض الخلل في فكر فيلسوف العلم كارل بوبر وكذلك في الفلسفة الوضعية في مجال تعريف العلم ومساواتهما بين العلم ومنهجيته. وهو خطأ فادح كما اثبت ذلك مؤرخ العلم الشهير بول فايرآبند (1), الذي تابع تطور العلم عبر التاريخ واكتشف ان العلم لا يتطور وفق منهجية محددة. فليس هنالك منهجية واحدة لتطور العلم, فهو يتطور بشكل فوضوي. ولكن احدى اكبر هفوات بوبر, ان لم تكن احدى خطاياه, هي مساواته بين الشيوعية والفاشية (2).

للاسف الشديد, الشيوعيون, كلهم او اغلبهم, تماهوا مع بوبر, بشكل او بآخر,عندما زعموا ويزعمون ان اليسار المتطرف واليمين المتطرف هما وجهان لعملة واحدة. وافكار كهذه هي ليست من مخلفات ماض غابر, لان اصداءها لا تزال تُردد بضجيج يصم الآذان وفي انحاء مختلفة من العالم. ان كتابتي لهذه المادة هي ليست للتقليل من مكانة بوبر العلمية باي شكل من الاشكال. ولكن ما اريد ان ازعمه هنا هو ان بوبر لربما لم يكن له اطلاع كاف, او حتى في حده الادنى, على الحياة الفكرية والفنية في الاتحاد السوفيتي, مما حدى به الى ان يخرج باستنتاج مفاده ان الفاشية والشيوعية صنوان لبعضهما البعض.

ان اهمية هذا النقاش تبرز الآن بجلاء للعيان بمناسبة عرض اعمال رسم يعود تاريخها الى الحقبة السوفيتية, وهذا العرض, الذي تنظمه في لندن الاكاديمية الملكية, هو بمناسبة الذكرى ال 100 لثورة اكتوبر الاشتراكية. يفتتح العرض في يوم 11 من شهر فبراير الجاري ويتضمن عرض اعمال فنانين روس مشهورين, للفترة 1917-1932, مثل فيكتور كاندينسكي وكازيمير ماليفيتش ومارك شاغال والكسندر رودشينكو.

فقد شجب بكل شدة ناقد الفن البريطاني Jonathan Jones, جوناثان جونز, في صحيفة الغارديان البريطانية احياء مثل هذا العرض للرسوم, بقوله: "ان عرض الأكاديمية الملكية للفن الروسي من حقبة لينين يُحّتم عينا ان لا نُغفل العنف الشمولي لنظام مماثل للنازية" (3).

ونفس الشجب يوجهه جونز الى متحف نيوورك للفن الحديث الذي خصص احدى قاعاته لعرض لوحات رسوم تعود الى الحقبة السوفيتية. يقول جونز:
"لقد صدمني الامر وتصورت أنه كسل فكري لهذا المتحف، ولا علاقة له بتاتا بالثورة الروسية. كما ان الاحتفاء اللاسياسي بهذه الاعمال يوحي وكأن الفلسفة البنيوية وال suprematism (مدرسة فنية تعني بالاشكال الهندسية, ط. ا) تعني تفوقية الاكتشافات الجمالية ومعاملتها بشكل بارد وبدون اية صلة بالمشاريع الطوباوية من عصر الصراع والعنف الذي تميزت به الثورة الروسية".

ويقول جونز ايضا في معرض شجبه لثورة اكتوبر:
"ان رؤية ثورة لينين من خلال عدسات وردية كشيء جيد وكحلم ب"المدينة الفاضلة", التي فشلت فقط بسبب اخطاء ستالين الشريرة التي أفسدت كل شيء, هو بمثابة ايمان بحكايات خرافية". ويضيف جونز باستغراب شديد "ولكن بعد كارثة كهذه، سعى الفنانون لتقديم هذه الثورة بدعاية حداثية جريئة."

في معرض رد الصحيفة In Defence of Marxism (الدفاع عن الماركسية), على آراء جونز تقول الصحيفة: "ان ذكرى مرور 100 عام على الثورة الروسية قد دشن عصرا يتسم, بسبب امور مثل اوامر ترامب الاخيرة بخصوص الهجرة, بمستوى عال جدا من التوتر ومُصاحبْ بغضب عارم على الصعيد العالمي. ومع ذلك، فان كل هذا الغضب هو غضب ضئيل جدا مقارنة بغضب جونز في مجال شجبه لعرض اعمال فنية تعود الى الحقبة السوفيتية (4).

تهدئ الصحيفة من روع غصب جونز بقولها:
"اهدأ عزيزي, انها لوحات رسم فقط!"

وتؤكد الصحيفة بحق ان شجب جونز, مقاسا حتى بمعايير مشكوك فيها من النقد الفني البرجوازي الصغير، وكأنه خطبة عصماء متسخة بالبصاق موجهةً ضد معرض الأكاديمية الملكية للفنون للفن الروسي في الفترة 1917-1932. انها من قبيل الهستيريا التي تقبع على حدود الكوميديا.

وتضيف الصحيفة ان الفترة المظفرة في أعقاب عام 1917 كانت مفعمة بروح التفاؤل الثقافي الكبير. قبل عام 1917، كان الفن والثقافة حصرا على النخبة فقط، والكثير من الاعمال الفنية كانت حبيسه قاعات كبرى لا يتسنى لاوسع الجمهور مشاهدتها والاستمتاع بها. لقد كانت هذه القاعات بمثابة "معسكرات الاعتقال الكامنة في العقل". وفي الوقت نفسه، كان حضور الحفلات الموسيقية لموسيقيين كبار مثل مودست موسورجسكاي أو بيتر تشايكوفسكي كان يمكن لها ان تكلف العامل كامل راتبه الشهري.

بعد ثورة أكتوبر، وضع البلاشفة حدا فوريا لاحتكار البرجوازية والأرستقراطية للفنون. وانفتحت الأبواب المُذهبة لمعارض روسيا للجماهير، وعُرض الفن الروسي المُتميز بغناه للعمال والفلاحين لأول مرة, وذلك بعد مصادرة الكثير من الاعمال الفنية التي كانت مقتنيات شخصية.

وفي الوقت نفسه، شجعت الثورة فنانين راديكاليين لخلق أسلوب يناسب العالم الجديد، ويرفع الحدود الفاصلة بين الفنون المختلفة مثل الرسم، السينما، الموسيقى، الشعر, والهندسة المعمارية. كما تميزت الفترة الأولى من الثورة بظهور عمالقة المسرح السياسي مثل سيرجي آيزنشتاين (مخرج سينمائي)، الكسندر سكريابين (ملحن وعازف بيانو), وفلاديمير تاتلين (معماري).

ما يمكن ان نستنتجه هنا هو ان مساواة بوبر للشيوعية بالفاشية هي قراءة خاطئة ومبتسرة للشيوعية وللتاريخ ولا يمكن تقبل محتواها او منهجها.

يتبع
------
المصادر
1. Epistemological Anarchism of Paul Karl
Feyerabend and Medical Education
http://www.scielo.br/pdf/rbem/v37n1/06.pdf
2. Karl Popper and Negative Utilitarianism
https://www.utilitarianism.com/karl-popper.html
3. We cannot celebrate revolutionary Russian art – it is brutal propaganda
Jonathan Jones
https://www.theguardian.com/artanddesign/jonathanjonesblog/2017/feb/01/revolutionary-russian-art-brutal-propaganda-royal-academy
4. In Defence of Soviet Art: A Reply to Jonathan Jones
https://www.marxist.com/in-defence-of-soviet-art-a-reply-to-jonathan-jones.htm