أهمية الفلسفة في انتاج المعرفة، مقتطفات من كتاب جدل الوعي العلمي


هشام غصيب
الحوار المتمدن - العدد: 4803 - 2015 / 5 / 11 - 00:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
المفكر الماركسي الأردني، الدكتور هشام غصيب
مقتطفات من كتابه، جدل الوعي العلمي

أهمية الفلسفة في انتاج المعرفة

تعاني الفلسفة في الوطن العربي من تخلف شديد على عدة صعد، التعليمية منها والابداعية والبحثية. فالانتاج الفلسفي متعثر. وهو ان وجد لا يتعدى التعليق على أعمال الأقدمين أو المحدثين الأوروبيين وعرض أفكارهم لأغراض أكاديمية بحتة. وهو الى ذلك بعيد عن حياة الناس وهمومهم يقع على سطح المجتمع ولا يغور البتة في باطنه المتشعب. وقد يضم بعض المهتمين أن هذا التخلف ليس سوى انعكاس طبيعي لتخلف القاعدة الاجتماعية الاقتصادية في المجتمع العربي، وأنه أمر لا مفر منه في هذا الوضع. الا أن هذه النظرة الميكانيكية لا تصمد أمام وقائع التاريخ بعامة وتاريخ الفكر بخاصة. فالتخلف التقاني للقاعدة الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع الاغريقي القديم لم يمنع ذلك المجتمع من افراز أعظم نهضة فلسفية شهدها تاريخ ماق بل الرأسمالية، ان لم يكن التاريخ برمته. كذلك فان التخلف الاقتصادي الاجتماعي الطابع، الذي كان سائداً في المجتمع الألماني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والنصف الأول من القرن التاسع عشر بالنسبة اغلى ما كان سائداً انذاك في بريطانيا وفرنسا لم يمنع ألمانيا من انجاب فولف وكانت وفيخته وشيلنغ وهيغل وشوبنهاور، ولا من احتلال مركز الصدارة على صعيد الفكر لفلسفي في تلك الفترة.
اذاً، فان التخلف الفلسفي في الوطن العربي اليوم، ليس مجرد انعكاس ميكانيكي لسمة التخلف في المجتمع العربي المعاصر، وانما له اسبابه، النابعة من خصوصية تركيبته الاجتماعية وخصوصية تبعيته للغرب الرأسمالي، وتحديداً، فان هذا التخلف، يتعلق بنيوياً بطبيعة كل من الدولة والبناء الطبقي في الوطن العربي، بالاضافة الى كثافة الامبريالية الثقافية والاعلامية الموجهة صوبه. فهذه العوامل تعمد الى تحويل الانتلجنسيا العربية الى مجرد كمبرادور فكري وظيفته نقل انساق فكرية مصطنعة من الغرب الى الوطن العربي من أجل تعميق التبعية وادامتها، وتعمد الى الحيلولة دون ظهور انتلجنسيا خلاقة، منتجة للفكر وقادرة على قيادة الأمة على درب النهوض الحضاري.
وقد لا يرى نفر من الناس في هذا التخلف ما يثير القلق العام. اذ قد يرى اولئك الناس أن الفلسفة تمثل ترفاً فكرياً بعيداً بطبعه التجريدي عن هموم الناس بالمجتمع، ولذلك فلا ضير من تخلفها ولا ضرار، خصوصاً في هذه المرحلة من تاريخنا، حيث تعز لقمة العيش لدى الملايين من ابناء أمتنا.
بيد أن هذه النظرة، برغم واقعيتها الظاهرية وعفويتها، تنبع من تصور ايديولوجي معين تعمل على اخفاؤه وستر عوراته، وهو تصور صنمي فيتيشي لاتاريخي ينزع الى اهمال البعد الذاتي لقوى الانتاج والشروط الفكرية لتطور المجتمعات والترابط الجدلي بين مستويات المجتمع وأركانه. وبالتحديد، فان اصحاب هذه النظر لا يدركون العلاقة الزثيقة بين الفلسفة وبين قوى الانتاج والتوزيع، على الأقل فيما يتعلق بالمجتمعات الحديثة التي شكلت النظرة الأوروبية نقطة انطلاقها. فقد نشأت الفلسفة في العصر الحديث تعبيراً عن نشوء قوى انتاج جديدة صاعدة تحمل في باطنها بذور حقبة جديدة وانطلاقة لانهائية لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل. ومن هذا المنظور، فان نشوء الفلسفة الحديثة كان في حد ذاته حدثاً تقدمياً بغض النظر عن طبيعة مضمون الفلسفات الناشئة.

وبالتحديد، فقد تزامن نشوء الفلسفة الحديثة مع نشوء العلم الحديث الذي اضحى قوةً رئيسية من قوى الانتاج في المجتمعات الحديثة، ولم يكن هذا التزامن صدفةً بالطبع، فهناك علاقة جدلية عميقة بين الفلسفة والعلم، حيث أنهما ينتميان الى الصعيد الاجتماعي ذاته والى السيرورة التاريخية ذاتها، بحيث أن الواحد منهما يوفر شروطاً اساسية لنشوء الاخر. فالفلسفة، اذاً، ترتبط مع قوى الانتاج بصورة وثيقة عن طريق ارتباطها الوثيق مع العلم.
والذي حدث تاريخياً في هذا المقام هو أن قوى الانتاج الجديدة الصاعدة التي تفجرت في عصر النهضة الأوروبية عمدت الى خلق مناخ فكري جديد اتسم بتعددية فكرية ملحوظة، اذ قامت باحياء ما كان مطموساً من التراث الفكري الاغريقي-العربي، بكل تراثه وتشعباته، وعمدت الى تطويره في محاولتها الفكاك من قيود الاقطاع وكسر هذه القيود. بذلك، ارست هذه القوى القواعد الأيديولوجية لشنوء العلم الذي كانت في حاجة ماسة اليه في توسعها الانتاجي والتجاري. ثم انه، ما أن نشأ العلم وبدأ يتطور، رغماً عن الأجهزة الأيديولوجية لقوى الاقطاع المهيمنة، حتى بدأ الفلاسفة يقلبون الممارسات الفلسفية الموروثة رأساً على عقب استجابةً لتحدي العلم. اذ وجدوا لزاماً عليهم تثوير أدواتهم المعرفية بصورة جذرية حتى يتسنى لهم فهم ظاهرة العلم واستنباط اسسها الفلسفية واستيعاب عقلانيتها وروحيتها واستنتاج نتائجها الفكرية والاجتماعية الخطيرة. هكذا تفجرت الثورة العلمية والثورة الفلسفية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقد كان على قوى الانتاج الجديدة الصاعدة تحقيق هذه الثورة المعرفية ببعديها الفلسفي والعلمي حتى يتسنى لها كسر قيود الاقطاع وتنظيم الانتاج المادي على اس جديدة متمددة، فما كان بامكان هذه القوى الصاعدة تحقيق الثورة الصناعية والثورات السياسية التي ضمنت استمرارها وتطورها وهيمنتها في المجتمع لولا هذه الثورة المعرفية.
والحق، أن هذا التحليل التاريخي يشير بجلاء الى أن للفلسفة وظيفتين اجتماعيتين اساسيتين ترتبطان معاً عبر الكل الاجتماعي: وظيفة معرفية انتاجية تربط الفلسفة بالقاعدة الانتاجية عبر العلم، ووظيفة أيديولوجية تتمثل في تطوير اسس نظرية لأشكال جديدة من الوعي الاجتماعي تعكس صراعات معينة وتعبر عن حاجات اجتماعية معينة. فالفلسفة اذاً، ليست ترفاً يتلهى به نفر من المفكرين القابعين في أبراجهم العاجية، وانما هي شرط اساسي من شروط فاعلية قوى الانتاج المادي وتطورها.

والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هنا هو: أين نقف نحن العرب من مسألة الفلسفة بوصفها مسألة اساسية من مسائل النهوض الحضاري في العصر الحديث؟
يمكن تلخيص الوضع الحالي للأمة العربية بالقول أننا دخلنا العصر الحديث اقتصادياً من دون أن ندخله حضارياً. فقد أدخلنا الاستعمار الغربي عنوةً في النظام الرأسمالي العالمي، فانتقلنا اقتصادياً من مرحلة ما قبل الرأسمالية، الى نوع من الرأسمالية المحيطية من دون أن نحقق اي من المهمات الحضارية الكبرى التي حققتها اوروبا حتى يتسنى لها أن تنتقل من عصر الاقطاع الى الحقبة الحديثة. فنحن، بدخولنا في النظام الرأسمالي العالمي، لم نعاني نهضةً ثقافية على غرار النهضة الأوروبية ولم نعان ثورةً علمية ولا ثورةً فلسفية ولا اصلاحياً دينياً جماهيرياً ولا ثورةً زراعية ولا ثورة صناعية ولا ثورات اجتماعية سياسية في اتجاه بناء الدولة الحديثة. وعليه، فان هذه المهمات (الثورات) ما زالت تنتظر من يحققها من قوى اجتماعية صاعدة في الوطن العربي، وكما رأينا، فان احياء الفلسفة يعد في طليعة هذه المهمات.
وهنا، قد يقول قائل: ولماذا احياء الفلسفة، وهي حية نابضة في بيئتنا؟ فانك لا تكاد تجد جامعة واحدة في الوطن العربي تخلو من قسم للفلسفة.
بيد أن الممارسة الأكاديمية للفلسفة في الوطن العربي اليوم في واقعها وفي جلها ممارسة كمبرادورية تسعى الى نقل (مجرد النقل) ما يساهم في اعادة انتاج التبعية للمراكز الرأسمالية الكبرى، سواءاً أكان هذا النقل من ماضينا الغابر ام من المراكز الرأسمالية نفسها. اما الممارسة الفلسفية التي نعنيها ونعد انشاءها مهمةً اساسيةً من مهمات النهوض الحضاري العربي، فهي عملية الخلق الفلسفي النابعة من معاناة حضارية لقوى اجتماعية صاعدة تصبو الى التقدم والانطلاق، سواءاً أتمت في داخل الحرم الأكاديمي أم في خارجه. انها ليست مجرد دراسة لما أنجزه غيرنا من فلسفات، وانما هي خلق للأسس النظرية لأشكال جديدة من الوعي تحتاج اليها القوى الصاعدة في نهوضها وتعبر بها عن حيويتها واستقلالها. هذه هي الفلسفة التي يستلزمها نهوضنا، وهذه هي الفلسفة التي تنقصنا بالفعل والتي تسعى القوى المهيمنة الى منع نشوئها، حتى ولو فعلت ذلك بحد السيف (كما فعلت مع حسين مروة ومهدي عامل) هذه هي الفلسفة التي ينبغي أن تشجع نشوءها ونموها القوى الصاعدة الواعية وأن تخطط لهما.

المغزى التاريخي لتثقيف العلمي في الوطن العربي
أ- أزمة اللغة العربية في العصر الحديث
قلنا أن واحدة من المهمات الأساسية للثورة الانسانوية ابان عصر النهضة الأوروبية كانت احياء لغة الجماهير الأوروبية حضارياً، أي رفعها الى مستوى الخلق الحضاري. وبالمثل، فان هذه ايضاً هي مهمة اساسية من مهمات حركة النهوض العربي، ولكن ما الذي نعنيه برفع اللغة العربية الى مستوى الخلق الحضاري في عصرنا الحالي.
من الواضح أنه، لما كان محور الخلق الحضاري ومصدر حركته في العصر الحديث هو العلم من دون منازع، بات من الضروري اذا اردنا رفع لغة جماهيرنا الى مستوى حضارة العصر، أن نفجر طاقات تعبيرية جديدة ونصنع قوالب جديدة فيها قادرة على استيعاب دقة الفكر العلمي ومواكبته والتعبير عن انساق فكره المتطور باستمرار، وهذه بالضبط، هي احدى الوظائف الرئيسية للتثقيف العلمي وتعريب الفكر العلمي.
فالحق انه ثمة انفصام خطير اليوم بين الوجدان الحضاري العربي المتمثل في اللغة العربية وبين الفكر الحديث. ومصدر هذا الانفصام هو تدهور ما كنا نتقنه في الماضي من مهارات خاصة، ومن ضمنها مهارة الاستعمال المعبر والدقيق للغتنا الأم، ذلك الانحطاط الذي أورثنا اياه الطغيان العثماني ثم سطوة رأس المال الغربي الذي زامن ذلك وعقبه.
لقد ضمرت اللغة العربية في مجتمعنا العربي الراهن الى مجرد وسيلة هزيلة للتعامل اليومي الروتيني بين الأفراد، فباتت هيكلاً من هياكل التخلف، وأداة من أدوات تجديد التخلف، لا أكثر. فقد تم اختزال الصرح اللغوي العملاق الذي بناه أجدادنا فانقلب مجموعة من الكليشيهات الفارغة التي تعكس واقع تجمد بيروقراطياتنا المتخلفة. فلم تعد اللغة العربية قالباً للتعبير والتواصل الحضاريين، ولا اطاراً للفكر العلمي الحي. وهذا الانحطاط في التعبير الفكري العربي، أعني العجز عن استعمال لغتنا الأم استعمالاً معبراً دقيقاً، يولد انفصاماً خطيراً في نفس المثقف العربي من جهة، وانفصاماً اخر بينه وبين مجتمعه (القاعدة التحتية) من جهة اخرى. فهو حين ينتج حضارياً ويشارك في عملية الخلق الحضاري العالمي، لا يفعل ذلك بصفته مواطناً عربياً بحق ينتمي الى حضارة عربية مميزة. انه في الوقع يمارس الحضارة بصفته أوروبياً، أعني ضمن أطر أوروبية مميزة عبر مضامين لغوية أوروبية محددة. ذلك أن المهارات الحضارية ذلك أن المهارات الحضارية ذات الأصول العربية التي ورثها المثقف العربي ضامرة ومتصلبة ومتخلفة، ومن ضمنها القوالب اللغوية الفكرية، لهي أضيق من أن تستوعب الفكر العالمي الحديث، وبخاصةً الفكر العلمي. فالحق ان طبيعة مجتمعه ومؤسسات هذا المجتمع العاجزة عن تحديث التراث العربي الفكري لهي عاجزة أيضاً عن تأهيله تأهيلاً حقيقياً يتناسب ومقتضيات الحياة المعاصرة. فالصفوة المفكرة في مجتمعنا العربي لا تنتمي الى عالم العروبة الممزق بقدر ما تنتمي الى العالم الأوروبي النامي بحق. لذا، فان عصارة ابداعها قلما تمس شرايين أمتنا المنكوبة. فالحق أن لغتنا، ومن ثم وجودنا القومي، قد تحولا الى مسخ بيروقراطي مقيت.
اذاً، فان احياء اللغة العربية حضارياً وردم الهوة العميقة التي تفصل العلمي والمثقف العربي عن مجتمعهى هما أحد أبعاد المغزى التاريخي للتثقيف العلمي. فالتثقيف العلمي هو، أولاً، فعل حضاري يسهم مساهمة أساسية في تحديث اللغة العربية، ومن ثم الثقافة العربية، واخراجهما من أزمتهما التاريخية، وهو، ثانياً، جسر يصل العلمي العربي بواقعه ومجتمعه الظامئ الى التقدم.

ب- منطويات الثورة العلمية
من العبث بطبيعة الحال، أن نطالب بثورة علمية جديدة، على غرار الثورة الغاليلية، في الوطن العربي. فلسنا مطالبين بمحاكاة تاريخ أوروبا الحديثة، وكأن التقدم والتنمية لا يتمان الا عبر الخط الخاص الذي سارت عليه أوروبا الحديثة.
كلا! لكنا مطالبون بتحقيق المهمات الحضارية التي حققتها الثورة العلمية في أوروبا.
وتتلخص هذه المهمات في الاتي:
1- تحرير الانتاج المعرفي، وبخاصةً الانتاج العلمي، من هيمنة مراكز السلطة الأيديولوجية على اختلاف أنواعها. وبعبارة اخرى، فالمطلوب هو لسعي نحو منح مؤسساتنا العلمية والمعرفية استقلالاً ذاتياً يقيها من تزمت الفئات التقليدية ومن التقلبات السياسية والاجتماعية. وهذا ما لم يحدث حتى الان في جل الاقطار العربية، ان لم يكن كلها. وفي حال التثقيف العلمي، فان ذلك يعني فك القيود الأيديولوجية عن التعبير العلمي، وطرح الأفكار العلمية على حقيقتها وبكل ما تنطوي عليه من حقائق، مهما كانت قاسية ومناقضة للاعتقاد السائد.
2- وضع العلم في مركز الصدارة على صعيد الفكر والمعرفة، بمعنى اكسابه بصفة المرجع النهائي والحكم الفيصل في المسائل الأساسية في نظر جميع الفئات والهيئات، سواءاً أكانت رسميةً أم شعبية.
3- خلق جماعات علمية قومية ضمن اطار الجماعة العلمية العالمية، تنتج المعرفة العلمية عبر مؤسسات ولغة وطرائق وطرق نظرية ومعتقدات وقيم ومناظرات وأساليب ومقاييس مشتركة. بذلك تغدو المهمة الثانية المذكورة أعلاه مكافئة للقول بأن الثورة العلمية بوأت الجماعة الجماعة العلمية الأوروبية مركز الصدارة والهيمنة بين الجماعات الفكرية قاطبةً. ولكن ما السبيل الى بناء جماعة علمية عربية جديرة بهذا الاسم؟... لا بد أنه ثمة شروط اجتماعية مادية معقدة ينبغي توافرها حتى يتسنى بناء مثل هذه لجماعة. لكنه من المؤكد أن التثقيف العلمي المكثف والمنظم هو الخطوة الأولى على درب تشكيل هذه الجماعة. فهو المحور الأول الذي يلتف حوله العلميون العرب في جماعة محددة المعالم.

ج- الثورة الفلسفية العلمية
تظل الثورة العلمية قاصرة غير متجذرة، ومن ثم غير قابلة للاستمرار التاريخي، أولاً ما ظلت بمنأى عن قطاعات الشعب، وثانياً ما لم تمس الخطاب الثقافي للأمة المعنية بنارها النقدية الحارقة. ولقد رأينا كيف تجسدت هذه الثورة فلسفياً في بيئة أوروبا القرن الثامن عشر على صورة الفلسفية المادية وفلسفة التنوير. وكان هذا التجسد ضرورياً لتحرير الخطاب الثقافي الأوروبي من لغة الاقطاع ومخلفاته ورواسبه الثقافية. ثم ان هذا التحرر كان خطوةً اساسيةً على درب حوز الطبقات الصاعدة على استقلالها الثقافي والسياسي.
فهل حقق هذه العرب المهمة بصدد الخطاب الثقافي العربي المعاصر؟
للوهلة الأولى، يبدو الخطاب العربي المعاصر وكأنه بالفعل خطاب عصري يمثل منطق العصر الحديث، ربما لما هناك من اختلافات كبيرة بين اساليب الكتابة الحديثة في الوطن العربي وبين الأساليب التقليدية في الحضارة العربية الاسلامية. لكن قليلاً من التمحيص كفيلاً باقناعنا بأن بعض النصوص القديمة (مثلاً: ابن الهيثم، اين النفيس، الرازي، البيروني، ابن رشد، ابن خلدون) أقرب في جوهرها الى روح عصرنا من جل كتاباتنا العربية المعاصرة، الأمر الذي يشير الى أن الخطاب العربي المعاصر ما زال ينتمي الى عصور ما قبل الثورة العلمية وارهاصاتها.
ههنا دور اساسي لعملية التثقيف العلمي في الوطن العربي، فهي وسيلة اساسية من وسائل تحديث الخطاب العربي المعاصر وتحريره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط. اذ ينبغي ممارسة التفكير العلمي باللغة العربية وبدلالات حضارية عربية، بما يضمن قلب مفهومات المثقف العربي النمطي رأساً على عقب.

د- تثقيف الجماهير والتنمية الاجتماعية
يدل التاريخ الحديث (منذ عصر النهضة الأوروبية) على أن حجم العطاء المطلوب للانتقال من عصور ما قبل الرأسمالية الى العصر الحديث يستلزم مشاركة جماهير الشعب في جميع قطاعاته مشاركةً فعالة في عملية التنمية. فالتقدم المنشود لا يمكن أن تحرزه الصفوة وحدها يمعزل عن جماهير الشعب. لكنه ليس في مقدور الجماهير المشاركة في هذه العملية الحضارية الضرورية ما لم تهيأ لذلك مادياً ومعنوياً. وفي المقام الأول، فانه ينبغي تحديث ادراك الجماهير وأنساق سلوكها، بمعنى صوغها وفق منطق العلم، في مقدمة وسائل هذا التحديث، الى جانب محو الأمية واصلاح الأجهزة التربوية في الوطن العربي. فمسألة التحديث والتنمية الاجتماعية ليست مسألة استيراد هذا الجهاز أو تلك الفكرة، ولا هي تكمن في زيادة عدد حملة شهادة الدكتوراة، وانما تكمن في المقام الأول في صنع الانسان العربي العقلاني القادر على استخدام منطق العلم في حياته اليومية.

ماهية التأليف والكتابة العلميين
في البنود السابقة، تحدثنا عن الخصوصية التي تتمتع بها وظيفة التثقيف العلمي في الوطن العربي والتميز الذي يتسم به مغزاه التاريخي الحضاري. والحق انه لا بد ان تنعكس هذه الخصوصية وذلك المغزى على لون الكتابة العلمية المطلوبة في هذه المرحلة، والتي تجسد المهمات الثقافية الملقاة على عاتق العلميين.
وينبغي التنبيه أولاً الى أن لون الكتابة العلمية المطلوبة لا يهدف الى تبسيط الأفكار العلمية وعرضها بطريقة مستساغة (أو ما يسميه الغربيون شعبنة العلم Science popularization) فحسب. فهو لا يهدف الى التعبير عن الفكرة العلمية بدلالة المفهومات اليومية المألوفة بدلاً من المعادلات الرياضية وغيرها من وسائل التعبير العلمي فحسب، وان كان يتضمن ذلك بالضرورة بوصفه الية اساسية من اليات الكتابة العلمية. لكنه يهدف في المقام الأول الى الهدفيين الاتيين المترابطين معاً:
أ- انه يهدف اولاً الى ازالة الحجب السحرية الاغترابية التي تحيط بمفهوم العلم في الوجدان الحضاري العربي، وتبعد من ثم جوهره عن هذا الوجدان الذي هو احوج ما يكون الى هذا الجوهر، وبخاصة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا. فهو يهدف بذلك الى ابراز حقيقة العلم بوصفه نشاطاً اجتماعياً حضارياً مميزاً يمارسه البشر بغية انتاج المعرفة، والى ازالة الوهم السائد في كثير من الأوساط في الوطن العربي بأن العلم هو جملة من المطلقات الأزلية المخزونة خارج المجتمع البشري، والتي تتسرب بين الفينة والفينة الأخرى بقدرة قادر الى هذا المجتمع. فالعلم نشاط اجتماعي مشروط تاريخياً، شأنه في ذلك شأن جميع الأنشطة الحضارية الأخرى، وان كانت العلاقة البنيوية التي تربطه بالتاريخ لها خصوصيتها التي تميزه عن غيره من الأنشطة الحضارية، ومن دون أن ينقص ذلك من موضوعيته وقيمة الحقيقة العلمية.
ب- هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فان هذا اللون من الكتابة يهدف الى ابراز المضمون الفكري وبيان المغزى الحضاري الفلسفي للفكر العلمي، لا من أجل فائدة المختص في العلوم فحسب، وانما ايضاً من اجل فائدة المفكرين وطبقة المثقفين بصورة عامة. فهو يهدف الى ازالة الحجب الفنية والتقانية، التي تغلف هذا المضمون وتحجبه عن أعين المفكرين، وتطمس البعد الانساني الاجتماعي العميق للعلم. ذلك ان بعض رجال العلم يلجأ الى تسخير الأساليب الرياضية والفنية والتقانية، التي تشكل لغة العلم وأداة فعله، لحجب جوهره الفكري المفهومي، وابعاد اثره الثقافي عن القطاعات الفكرية الأخرى، مع أن المضمون الفكري المفهومي للعلم لهو الجوهر النابض او المحور المهيمن للفكر الحديث. فلئن كان في مقدور المفكر المعاصر الاستغناء عن التفصيلات الفنية للعلوم، فليس في مقدوره الاستغناء عن مضمونها الفكري، والا فقد تواصله الحي مع روح العصر وامكانات المستقبل. ذلك أن الكشوفات العلمية في جوهرها الفكري تشكل تحديات مستمرة ومتجددة للتصورات الفكرية السائدة وللتخيل البشري في حد ذاته. فالعلم هو النشاط الحضاري الوحيد الذي يسعى باستمرار الى نقض ذاته، اعني الى نقض ثوابته وهياكله الثابتة. فهو التجسيد الأمثل لروح الثورة الخلاقة في الذات البشرية، وهو الصورة المثلى لمنطق تطور التاريخ الذي يتمثل في الجدل (الدياليكتيك).
بيد أن تحقيق هذين الهدفين يفترض ادراكاً لماهية العلمي ومقوماته، وممارسته بالفعل وفق اصوله. اذ، ثمة غمامة كثيفة من الغموض تحيط بمفهوم التأليف في بلادنا، حتى في أوساط المثقفين، وبخاصةً في مجال الفكر العلمي، ربما لبعد الأخير عن منطق حياتنا وندرة مساهمتنا في صنعه وخلقه. فالحق أن العديد من الناس في الوطن العربي يخلطون في العادة بين عملية التأليف، التي هي عملية ابداعية في المقام الأول، وبين جمع المعلومات الذي لا يشكل سوى بعد واحد من أبعاد التأليف، أو بينها وبين الترجمة، التي تختلف نوعياً عن التأليف، وبين النقل من هنا وهناك، والذي يعد سرقة أدبية في البلدان المتقدمة ولا يلجأ اليه الا من فقد ابسط مقومات الأخلاقية العلمية والأكاديمية.
ولقد ارتأين ان ابسط هنا الخطوات الأساسية في عملية التأليف كما مارسها ويمارسها بعض العلميين العرب، وذلك تجسيداً أو تلخيصاً لخبرة اولئك في هذا المجال:
1- ان التأليف لا ينبع من العدم بطبيعة الحال. فهو ينبع من الحيرة التي ترافق أي دراسة جادة لموضوع ما. فاذا انتفت الحيرة الفكرية في ذات المرء، انتفت امكانية التأليف ذاته. بل ان دراسة الموضوع لا تشكل دراسةً بالمعنى الصحيح ما لم يرافقها فكرلا وتفكير متواصلان وما لم تثر في ذات المرء الدارس الحيرة اما بصدد الترابط بين الأفكار والحقائق الدروسة واما بصدد ما تشير اليه هذه الأفكار من منطويات ومكامن وتناقضات. فالانشغال الحقيقي بالموضوع وما يرافق ذلك من حيرة فكرية اصيلة يشكلان التربة الأساسية للتأليف والدراسة الجادة. فلا يمكن استيعاب المادة المدروسة استيعاباً حقيقياً الا بتسليط نور الفكر عليها والذي تشكل الحيرة اليته الأساسية. بعد ذاك يأتي التأليف تجسيداً للحيرة ورداً عن الأسئلة النابعة منها.
2- ان التأليف انتاج (فكري)، ولا يتم الانتاج الا بوسائل انتاج، بيد أن استعمال وسائل الانتاج على المستوى المعني لا يتم عفوياً ولا تلقائياً، وانما يستلزم تدريباً مكيناً على استعمالها واكتساب مهارات معينة بصددها. من ثم، فان التأليف يتسلزم اتقان استعمال ادوات انتاج المعرفة والفكر في الموضوع المعني (العمليات الرياضية والمنطقية والمفهومية، والمنهجية الفكرية الملائمة للموضوع)..
3- وبطبيعة الحال، فان التأليف يستلزم استعمال أدوات التعبير السليم والدقيق، ورشاقة فكرية مميزة.
4- بيد أن الانتاج لا يستلزم ادوات انتاج فحسب، اذ انه يستلزم ايضاً مادةً خاماً. وفي حال التأليف فان المادة الخام لهي المعرفة المتراكمة سابقاً والأفكار والحقائق والتكهنات المطروحة في الكتب والدوريات والمجلات ووسائل الاعلام المختلفة (سينما، تلفزيون، راديو، وسائل سمعية وبصرية أخرى)، بالاضافة الى ممارسات المؤلف العلمية والنظرية والحياتية اليومية. بذلك، فان الاطلاع المتواصل، الواسع والعميق، لهو شرط جذري من شروط التأليف.
5- كذلك، فان الانتاج يستلزم ممارسةً ونشاطاً منهجياً متواصلاً بعد توافر الشروط الأخرى، بمعنى انه يستلزم تطبيق أدوات الانتاج الفكرية الكذورة على المادة الخام تطبيقاً ابداعياً بغية استيعاب الموضوع المعني استيعاباً عميقاً وسبر أغواره، ثم تنظيم أركانه والتعبير عنها بدقة.
6- ضرورة الحوار المتواصل مع الذات ومع الغير بوصف الحوار وسيلةً اساسية من وسائل استنطاق الموضوع.
7- توافر الرغبة الجامحة لدى المؤلف في اشراك الغير في المعرفة التي انتجها بفضل جهده الطويل والمتواصل في الميدان المعني، بمعنى رغبته في التفاعل فكرياً مع مجتمعه.
8- ادراك المؤلف ان الشروع في الكتابة النهائية ليس مجرد نتيجة ميكانيكية روتينية للنشاط المذكور في البنود السابقة، وانما هو تلخيص مكثف للعمليات والشروط المذكورة أعلاه جميعاً، بمعنى أنه يرتبط ارتباطاً جدلياً بعملية تعميق الاستيعاب من حيث انه وسيلة من وسائل استنطاق الموضوع واستيعابه. وبعبارة أخرى، فان الكتابة النهائية اياها لهي بمثابة عملية استكشاف وكشف من حيث انها تكشف النقاب عن علاقات كامنة ومشكلات فكرية ما كان في مقدور المؤلف الكشف عنها قبل الشروع في الكتابة.
فالتأليف اذاً عملية ابداعية تتضمن البحث والدراسة والتفكير المركز في ان. فهو ليس نقلاً من هنا وهناك، وليس تجميعاً (بريئاً) للمعلومات. انه خلق وانتاج، أعني تحويل مادة خام الى صورة منظمة متناسقة.

معوقات التثقيف العلمي في الوطن العربي
لعل اصدق مؤشر على المحنة التي يواجهها التثقيف العلمي في الوطن العربي يتمثل في حالة غياب الاستقرار والاستمرار التي تعاني منها جل المجلات العلمية العربية. اذ يكاد المرء لا يصادف اي مجلة علمية عربية يستمر صدورها بانتظام الى أمد معقول يتخطى العامين أو الثلاثة. وحتى تلك التي تستمر سنوات، تظل في تدهور متواصل من حيث النوعية، حتى تفقد صبغتها العلمية الحقيقية وحيويتها الفكرية وروح التجديد، وتتحول الى ضرب من الاثارة الروتينية الرخيصة. اضف الى ذلك، تدني نوع المنشورات العلمية التي تصدر في الوطن العربي، سواءاً أكانت كتباً أم مجلات، وكل ذلك، انما يدل على جدية المعوقات التي تواجه هذه العملية الضرورية حضارياً.
وبالنظر الى تجربتنا في الأردن في هذا المجال، والتي يمكن أن نعتبرها نمطية في الوطن العربي، فاننا نحصر المعوقات الأساسية للتثقيف العلمي في الوطن العربي في الحواجز الاتية:
1- حاجز العقلية الشرقية البيروقراطية (التابعة حضارياً والطفيلية اجتماعياً) التي تسود كثيراً من الأوساط الرسمية والخاصة في الوطن العربي، والتي تكره في طبعها التجديد والتعبير العقلاني الحيوي الحر، وتمقت التجريد العقلاني، فلا تقدر ولا تحترم سوى الملموس المباشر (فهي تنزع مثلاً الى اختزال العلم الى مجرد مجموعة من الأجهزة التقانية الصماء). فهي قلما تحيد عن سلم الأولويات الذي ورثته عن عصور الاستعمار، والذي لا يعكس هموم الوطن والمواطنين بقدر ما يعكس متطلبات التجارة الدولية. لذا، فان التثقيف العلمي لا يدخل ضمن سلم لولوياتها، ولا يصيبه من ثم سوى الفتات من ميزانيات القطاعين العام والخاص. فهي لا تدرك مدى اهمية محو الأمية العلمية في حل المشكلات العامة ورفع مستوى الانتاج وتعميق روح الانتماء الوطني.
2- حاجز الأمية المستشرية في صفوف الجماهير العربية، والتي يمثل محوها شرطاً اساسياً من شروط الانتاج الدائم المنتظم للثقافة العلمية وتعميمها. لكن هذا الحاجز لا يكتفي بالحيلولة دون تثقيف الجماهير علمياً، وانما يوفر ايضاً تبريراً للسياسيات التي تغفل دور التثقيف العلمي في التنمية الحضارية، على صعيدي القطاعين العام والخاص كليهما.
3- حاجز الأمية الثقافية والتحيزات الأكاديمية المستشرية بين حملة الشهادات العليا، وبخصاة شهادة الدكتوراة في الوطن العربي. اذ تتسم هذه الفئة في كثير من أقطار المشرق العربي بضعف في المهارات الثقافية الأساسية لا يتناسب البتة مع ما تحتله شهاداتهم من مكانة مرموقة في المجتمع. ونعني بالمهارات الأساسية تلك التي يفترضها اي نشاط حضاري عصري، مثل مهارة التفكير العقلاني المنظم، ومهارة التعبير الدقيق باللغة الأم، ومهارة القاء المحاضرات المعبرة، ومحارة تحصيل المعلومات والاستفادة منها، وما الى ذلك. لكن المشكلة هي أن امية هذه الفئة تتعدى في كثير من الأحيان المهارات الأساسية لتشمل ايضاً موضوعات تخصصهم. اذ نرى كثيراً منهم تقتصر معرفتهم في موضوع تخصصهم على مجموعة من الحيل والأحابيل البحصية التي تعلموها من اساتذتهم الغربيين في أثناء دراستهم العليا، فلا تتعدى ذلك الى المضمون الفكري لموضوع تخصصهم الا فيما ندر.
كذلك، فان تلك الفئة، تعمد الى اسقاط عجزها عن استخدام لغتها الأم في التعبير عن جوهر لغتها ذاته، ومن ثم تخال لغتها عاجزة في حد ذاتها على الارتقاء الى مستوى الفكر العلمي الحديث. فقد غدت هذه الفئة تجسيداً فوقياً لتشرذم المواطن العربي وتمزق الذات الحضارية العربية، وتجردت في أغلبها من اي شعور بالانتماء الى الجماهير العربية، ومن اي احساس بالمسؤولية الاجتماعية والتاريخية. فشغل افرادها الشغل هو تلقط الفتات من على موائد مختبرات الغرب، وعقوله ليتسنى لها تسلق سلم الترقيات الجامعية. فهم يعتبرون كل نشاط، عدا ما يعينهم على تسلق هذا السلم، مضيعة للوقت ولا يليق بمؤهلهم الأكاديمي.
والنتيجة، أن هذه الفئة لا تكاد تساهم البتة في عملية التثقيف العلمي، مع انها ينبغي ان تكون محور هذه العملية.
4- حاجز ضعف الانتمتاء الوطني لدى نسبة كبيرة من طبقة المثقفين (العمال المفكرين والمشتغلين بالفكر) العرب. والحق أن ظاهرة اللانماء هذه هي سمة عامة من سمات المجتمعات الهامشية الطرفية التي تقع على تخوم الحضارة العالمية، والتي يفترض النظام الاقتصادي العالمي وجودها من حيث أن نمو المراكز الرأسمالية (أميركا الشمالية، اوروباالغربية، اليابان) يستلزم وجود هوامش وأطراف متخلفة كالعديد من دول العالم الثالث. فما هذه الظاهرة في الواقع سوى انعكاس جلي للهيمنة الغربية على مقدرات هذه الدول، ومنها امتنا وشعوبنا المسحوقة. ومن ناحية اخرى، فهي نتيجة حتمية لحالة التشرذم والعزلة والذاتية المرضية التي يعاني منها مواطنو
القطاع (الحديث العصري) في المجتمع العربي. فهذه الحالة تنسي المواطن المصاب بها انه كائن اجتماعي شكلته عمليات وممارسات اجتماعية معقدة ضمن بنية متنامية من العلاقات الاجتماعية الخارجة عن ارادته الفردية، فيقع فريسة للوهم بأنه جوهر ميتافيزيقي (ذرة نفسية) خارج عن المجتمع، لا تربطه رابطة بأخيه الانسان، ومن ثم (لا تقيده) اي واجبات تجاه وطنه ومجتمعه. فهو يحسب أن الامتيازات التي كسبها (انه لا يعترف بوجود حقوق اجتماعية، بطبيعة الحال) انما اقتناها بفضل جهده الفردي الدؤوب ودهائه المنقطع النظير. وهو يمضي في حياة التشرذم تلك، تارةً يلتصق بهذه الفئة، وطوراً بتلك، حسبما تقتضيه مصلحته المادية الضيقة التي لا يحددها هو بطبيعة الحال، وانما تحددها قوى اجتماعية خارجة عن ارادته ويجهلها هو جهلاً تاماً. وفي عالم رأسمالي تهيمن على مقدراته قوى احتكارية ضخمة، فانه من الطبيعي أن يلصق مثقفنا (المشرذم) ذاته بهذه القوى ويغدو في النهاية ذيلاً لها. ولا أخال أحداً يتوقع من مثل هذه الطبقة أن تتبنى قضية وطنية جوهرية كقضية التثقيف العلمي أو ان تساهم في تنفيذ برامجها.
5- حاجز مركب النقص القومي الذي يرزح تحت كاهله العرب، فثمة اعتقاد غدا دفيناً في النفس العربية، وهو أن العربي عاجز بحكم جوهره (الروحي، وربما الفيسيولوجي) عن الابتكار والاتقان، ومن ثم عن البناء الحضاري، وبخاصة البناء الحضاري العلمي الحديث. ولما كانت اللغة العربية خلقاً حضارياً عربياً، لا بل الناتج الأساسي للنشاط الحضاري العربي، فلا بد أن تكون، وفق هذا الاعتقاد، عاجزة عن استيعاب اكبر معلم من معالم الحضارة الحديثة، ألا وهو العلم. وليس منبع هذا الاعتقاد الذي تناقضه وقائع التاريخ جملةً وتفصيلاً، سوى الغرب العنصري. فقد بلغ الخنوع للثقافة الغربية، وبلغت هيمنة تلك الثقافة على نفوسنا حداً جعلنا نتبنى وندغم في صميم وجداننا الحضاري الصورة العرقية التي يتصورنا بها الغرب.
6- حاجز تدني مستوى الكفاءات والمهارات العلمية والفنية، بما في ذلك مهارة الاستعمال الحضاري المعبر والدقيق للغتنا الأم، والمهارات اللازمة في (صناعة) الكتب والمنشورات الأخرى. فالحق أن تيارات الانحطاط المختلفة التي فتكت في حضارتنا منذ مطلع الهيمنة الاقطاعية التركية على بلادنا، وتعاظمت مع التغلغل الاستعماري الغربي الذي زامن تلك الهيمنة وتلاها، قد أدت الى تدهور ما كنا نتقنه من مهارات حضارية وما كنا نملكه من مقومات حضارية راسخة (أو قل تحلل ذاتنا الحضارية التاريخية) من دون أن تتاح لنا الفرصة لتعلم مهارات حضارية حديثة تمكننا من الارتقاء الى مستوى الذات الحضارية الحديثة الأوروبية الأصل والمنشأ (أو قل عجزنا عن تشكيل ذات حضارية متماسكة وانهاء تمزقنا الحضاري في ظل الأوضاع الحضارية الراهنة). وفي حال التثقيف العلمي، فان هذا الوضع يتمظهر في المشكلات الاتية:
أ- ثمة قحط ملحوظ في العلميين القادرين على التأليف العلمي والترجمة العلمية المتقنة.
ب- هناك قحط أشد في المحررين العلميين القادرين على انتاج النصوص العلمية المستوفية شروط النشر العلمي السليمة والمتبعة في العالم المتقدم. وهذا القحط هو المسؤول في المقام الأول عن عدم مصداقية الكتاب العلمي العربي والمجلة العلمية العربية في نظر القارئ العربي.
ج- تدني مستوى الطباعة والاخراج والمونتاج وفرز الألوان والتجليد.
د- تدني مستوى تدقيق بروفات الطباعة، الأمر الذي يتمظهر في النسبة العالية للأخطاء المطبعية في معظم كتبنا ومنشوراتنا العلمية.
7- حاجز واقع تجزئة الوطن العربي الى اقطار متعددة، الأمر الذي يحد من توزيع المنشورات العربية، المنتجة في قطر عربي ما، في طول الوطن العربي وعرضه، ومن ثم يحد من نمو انتاج الثقافة العلمية.
8- حاجز ضعف السوق الداخلي في القطر العربي النمطي، والذي يحد من توزيع الكتاب العربي وايصاله الى قطاع واسع من الشعب، ويعود هذا الضعف الى التبعية الاقتصادية التي تعاني منها معظم الأقطار العربية.