هل ما زال مهدي عامل راهنا؟


هشام غصيب
الحوار المتمدن - العدد: 6243 - 2019 / 5 / 28 - 17:56
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


قد يستهجن بعض القراء هذا السؤال أو حتى مجرد طرحه. لكنه سؤال مشروع. إذ يرى بعض الباحثين أن فكر مهدي عامل ارتكز إلى بعض الافتراضات التي مضت وما عادت قائمة، ومن ثم قد يكون فكر مهدي قد مضى أيضا معها إلى غياهب الماضي. إذ افترض فكر مهدي وجود معسكر اشتراكي يقدم بديلا قويا للرأسمالية، وافترض أيضا راهنية الثورة الاشتراكية وثورات التحرر الوطني. لكن هذين الافتراضين ما عادا قائمين، ومن ثم فإن الفكر المرتكز إليهما ما عاد راهنا.
ولكن، إلى أي مدى ترتكز فاعلية فكر مهدي عامل إلى هذين الافتراضين؟ وإلى أي مدى تلاشى هذان الافتراضان؟ فلنأخذ مفهوم التبعية الذي يحتل موقعا محوريا في فكر مهدي وفكر غيره من منظري التحرر الوطني. بعد إلغاء الاتحاد السوفييتي، راج، بل هيمن، الخطاب الليبرالي الأميركي بمفهوماته المتعلقة بنهاية التاريخ والعولمة والتقدم التكنولوجي ونهاية الفعل الثوري ومجتمع الرفاه والحرية والديموقراطية والسوق الحرة وما إلى ذلك. وخلا هذا الخطاب من أي إشارة إلى مفهوم التبعية، حيث إنه عامل الأقطار جميعا على أنها مماثلة لبعضها بعضا من حيث الجوهر، وأنها لا تتميز عن بعضها بعضا إلا في درجة التزامها بمبادىء السوق الحرة والديموقراطية وحقوق الفرد والتطور التكنولوجي. ومن ثم، فإن على المجتمع الدولي تقع مهمة تفكيك أنظمة حقبة الحرب الباردة والتحرر الوطني وإزالة معوقات حركة الرأسمال العالمي وإخضاع العالم كله إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وانساق الكثيرون، حتى من ضمن اليساريين، وراء هذا الخطاب الليبرالي الضحل. ولكن، هل صحيح أن مفهوم التبعية لم يعد صالحاً في عصر ما بعد الحرب الباردة؟
الشهيد مهدي تكلم عن التبعية البنيوية التي تربط الأقطار التابعة بنيوياً بالسوق العالمية والمراكز الإمبريالية. فهل انحسرت هذه التبعية؟ طبعا، لا. لقد تعمقت وتعززت، أولاً عبر المديونية المتراكمة إلى حد الغثيان، وثانياً عبر إملاءات الصندوق والبنك، والتي صاحبها فتح الفضاء الوطني على مصراعيه أمام الشركات والبنوك العملاقة، وثالثاً عبر إلحاق الجميع بمنظمة التجارة العالمية، ورابعاً عبر الهجمة الإمبريالية المسعورة على السيادة الوطنية، عسكريا واقتصاديا وإعلاميا، وإجبار شعوب الأرض قاطبة على الانصياع لقوى السوق العالمية، وخامساً، عبر لجم قوى الإنتاج وإدخال المجتمعات التابعة في احتراب أهلي لا ينتهي، وسادساً، عبر تحطيم الوعي والعقل وتجهيل الناس عبر النظم التربوية المهترئة ووسائل الإعلام المسيرة رجعيا ودور العبادة الظلامية. من يشك بعد ذلك بضرورة مفهوم التبعية؟
لئن كان مفهوم التبعية البنيوية ضرورياً، بات مفهوم التحرر الوطني، وهو مفهوم أساسي لدى مهدي، ضرورياً أيضا. لكن مفهوم التحرر الوطني لدى مهدي لا يقتصر على المقاومة وتحرير الأرض. كلا! إنه أكثر من ذلك بكثير. إنه ثورة عارمة تقلب الأمور على رأسها. فالتحرر الوطني هو ثورة من أجل نقل المجتمع من نمط الإنتاج الكولونيالي الذي يجسد التبعية محلياً إلى نمط الإنتاج الاشتراكي. إنه ثورة تكسر علائق الإنتاج السائدة صوب نظام الملكية العامة والتخطيط المركزي. وقد نظر الشهيد إلى نمط الإنتاج الكولونيالي على أنه الشكل المنحط الذي تتخذه الرأسمالية بالضرورة في الأطراف والمحيط التابع المتخلف. إنه الشكل الرأسمالي الوحيد الممكن في ظل التبعية البنيوية. وعليه، فإن إمكانية التحول من نمط الإنتاج الكولونيالي صوب نمط الإنتاج الرأسمالي المركزي المتطور معدومة بنيوياً. فآفاق مثل هذا التحول مسدودة تماماً. والتغيير الوحيد الممكن هو التحرر الوطني بوصفه نوعا من الثورة الاشتراكية. فهل هذا المفهوم العاملي يفترض وجود منظومة اشتراكية قوية وراهنية الثورة الاشتراكية عالميا؟ إنه بالتأكيد يفترض ذلك. ولكن، هل هناك بدائل لمثل هذه المنظومة وتلك الراهنية؟ أقول: نعم. هناك بدائل راهنة. فالثورة ما زالت راهنة، برغم هزيمة الحركة الشيوعية العالمية وتراجعها التراجيدي، وذلك بفعل أزمة الرأسمالية العالمية العميقة جداً. وهذا يعني إمكانية نشوء عدة بؤر ثورية على الصعيدين العربي والعالمي في آن واحد. وتراكم هذه البؤر يعزز نجاح بعضها في تخطي طغيان الرأسمال العالمي. الثورة العالمية راهنة بالفعل، وإن كان الطريق ما زال شاقاً جداً. لكن تفاقم أزمة الرأسمالية العالمية، وخصوصاً في الأطراف التابعة، يحتم السير في الطريق الثوري مهما كان شاقاً.
بقي أن نقول إن نظرية مهدي عامل في الدولة السياسية العربية والطائفية ازدادت راهنية في ظل ما حصل مؤخرا في العراق وسوريا واليمن. ولنا وقفة أخرى مع هذه الدرر العاملية الثرة في مقالات قادمة.