نظرية الحزب لدى مهدي عامل


هشام غصيب
الحوار المتمدن - العدد: 5525 - 2017 / 5 / 19 - 09:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

مقدمة (مهدي عامل: فيلسوف الثورة العربية):



من الصعب أن نجد في الفكر العربي الحديث مفكراً تنطبق عليه لفظة “فيلسوف” أو “منظر” كما تنطبق على الشهيد مهدي عامل. فدرجة الإحكام والتماسك التي نجدها في كتابات مهدي عامل لا نجد مثيلاً لها في الفكر العربي الحديث برمته. بل إن البناء النظري المحكم الذي نجده في كتابات مهدي، وبخاصة في كتابه “مقدّمات نظرية”، ليذكرنا بما نجده في أعمال عمالقة الرياضيات والفيزياء، أمثال إقليدس ونيوتن وآينشتاين. فهو يسخر جملة من المفهومات المبتكرة، مثل: علاقة التحديد، علاقة السيطرة، حقول الصراع الطبقي، الحركة الانتباذية، الحركة الانجذابية، الترابط التراكبي، الترابط الانصهاري، الممارسات الاقتصادية والآيديولوجية والنظرية والسياسية للصراع الطبقي، الزمن التكويني والزمن البنيوي وزمن القطع، أجهزة الدولة الآيديولوجية، التميز والتكونن – أقول إنه يسخر هذه المفهومات المبتكرة في بناء أنموذج تحليلي نقدي للواقع، يوحد به مبادىء المادية التاريخية في بناء منطقي محكم ويحل التناقضات الظاهرية بينها، ويحفر به قلب الواقع المحلي والعالمي، وينقد به المواقف الأخرى، أي يستعمله أداة فعالة في ممارسة الصراع الطبقي. إنه ينطلق من أرقى ما توصل إليه العقل النظري الماركسي في عصره، أعني أنطولوجيا ألتوسير، لا من أجل تأكيده وإعادة إنتاجه، وإنما من أجل نقده وتمييزه وتطويعه أداة في حقل عياني محدد للصراع الطبقي. وبالفعل، فإن مهدي عامل يفلح في تفكيك أنطولوجيا ألتوسير ويعيد تركيبها على أساس أولوية الصراع الطبقي والفعل الطبقي، مزيلا ما يعلق في ألتوسير من عناصر الفتشية البنيوية. لكن فعل بناء أنموذجه الأنطولوجي هو فعل نقدي في أساسه: نقد للمادية الجدلية في صورها التقليدية، ونقد للمدارس الماركسية الرئيسية (ألتوسير، بولانتساس، ماو، الفوضويون، ستالين، سارتر، الشيوعية العربية التقليدية). وهدف مهدي في ذلك كله هو فهم الصراع اللبناني والعربي بوصفه صراعاً طبقيا، وليس بوصفه صراعاً طائفيا أو عشائريا أو قبليا أو مناطقيا أو إثنيا، كما يبدو على السطح. وقد اعتبر مهدي مجابهة هذا التحدي ضروريا، وإلا انتفت الماركسية، أو على الأقل، انتفت كونيتها، ومن ثم، علميتها، وانتقى دور الشيوعيين في الصراع، وفقد الأخير معناه التاريخي. فإما التخلي عن الماركسية باعتبارها فلسفة غربية تعبر عن خصوصية الغرب، وإما مجابهة هذا التحدي الكبير. وأزعم أن مهدي أفلح في مجابهة هذا التحدي بفتح مسار وأعد أمام التقدميين للانخراط بفاعلية في الصراع الاجتماعي القائم في أقطار الوطن العربي. لذلك، فإن مهدي يستحق بجدارة أن يسمى فيلسوف الثورة العربية بامتياز.



واللافت للنظر في كتابات مهدي هذا الترابط المحكم بين مفهوماته المبتكرة وأفكاره المتسلسلة. ولعل مقارنة سريعة مع محمد أركون كفيلة بجلاء ذلك. فأركون يتميز أيضاً بقدرته على ابتكار المفهومات. لكن قارئه ينهار عناء وهو يبحث عبثا عن رابط يربط فيض مفهوماته وأفكاره المبتكرة معاً. أما في حال مهدي، فإن القارىء ينهار عناء من فرط التركيز اللازم للقبض على البناء المحكم والبقاء في حيزه وفضائه. إذ يجد القارىء نفسه ملزماً باليقظة التامة في أثناء قراءة مهدي حتى لا تفوته كلمة واحدة، الأمر الذي قد يفوّت عليه استيعاب البناء بكامله. لذلك، نرى أنه، في الوقت الذي تظل فيه مفهومات أركون المبتكرة ضبابية وغائمة وملتبسة المعنى، حتى بعد أن يفرغ القارىء من قراءة آلاف الصفحات من كتاباته الغزيرة، فإن مفهومات مهدي يتحدد معناها منذ البداية ويزداد تميزاً وبروزاً إذ يمضي المرء في قراءته. وفيما يزداد القارىء تشوشاً إذ يقرأ أركون، فإن ذهنه يزداد انتظاماً وترتيبا ووضوحاً إذ يقرأ مهدي، وإن كان ذلك يتم أحياناً على حساب رؤية الواقع والقبض عليه. فالإحكام النظري المفرط قد يخنق الفكر والرؤية والإحساس بنبض الواقع أحياناً.



واللافت للنظر أيضا هو الطريقة التي يبني بها مهدي أنموذجه الأنطولوجي الاجتماعي. فهو لا يبنيه بالطريقة التحليلية الديكارتية لبنة لبنة، وإنما بالطريقة التركيبية التحميضية ذات الحركة اللولبية التصاعدية. ويوحي مهدي للوهلة الأولى بالتكرار. لكنه في الواقع ليس تكراراً، وإنما زيادة في التحديد والتمييز. فهو يبحث باستمرار عن صيغ تعبيرية جديدة لتصوير أنموذجه وتوضيح معالمه. فهو يعود باستمرار إلى الموضوعات التي يتناولها، لكنه لا يكرر نفسه. إذ يضيف ظلالاً جديدة في كل مرة يعود فيها إلى موضوعاته. فهو لا يكرر نفسه بقدر ما يكرر محاولاته لتحديد نظامه الأنطولوجي، الذي يقاوم التحديد ولغة التحديد باستمرار. وتذكرنا طريقة مهدي في بناء صورة أنموذجه الأنطولوجي بتحميض فيلم، حيث يبرز الكل منذ البداية، لكنه يزداد وضوحاً وتحديداً وتفصيلاً إذ تسير عملية التحميض قدماً. وبالمثل، فإن مهدي عامل يكشف عن جانب من أنموذجه في كل دورة أو محاولة، لكن شعوره بأن أنموذجه أغنى من لغته وتعبيره وكلماته يدفعه إلى تكرار المحاولة من أجل القبض على مزيد من جوانب الأنموذج. ذلك أن مهدي يشعر باستمرار بعجز اللغة عن القبض على الجوهر النظري للواقع، فيلجأ إلى هذه الطريقة اللولبية التصاعدية من أجل الاقتراب من هذا الجوهر، ومن ثم هضم الجوهر الطبقي للصراع الاجتماعي المتنوع الأوجه في لبنان والأقطار العربية الأخرى.




أنطولوجيا الوجود الاجتماعي لدى مهدي عامل:


ينتمي مهدي عامل بصورة ما إلى المدرسة الألتوسيرية. لكنه انتماء خلاّق، حيث إنه ليس معنيا بشرح فلسفتها والتبشير بها، بقدر ما هو معني بتطوير أنساقها ومفهوماتها أداة لفهم الواقع العربي في سياق تغييره ثوريا. فلئن “حسب” مهدي على التيار الألتوسيري، فإنه لم يكن تابعاً له أو كاهنا من كهانه، وإنما كان ركنا مبدعاً من أركانه يساهم أساسيا في تطويره وبنائه، جنبا إلى جنب مع أقطاب هذا التيار، أمثال: نيكوس بولانتساس وإيتيان باليبار وبيير ماشيري. فهو لم يكن مجرّد معرّب أو مترجم لمفردات الألتوسيرية وأفكارها، وإنما كان مشاركاً رئيسيا في بنائها بطريقته المبتكرة الخاصة. بل يمكن القول إنه لجأ إلى الألتوسيرية بصفتها الشكل الأكثر تطوراً وعمقاً لماركسية عصره، ومن أجل استعمالها أداة ناجعة في حلّ المشكلات النظرية الكبيرة التي تعترض سبيل الصراع الطبقي في الوطن العربي بعامة، ولبنان بخاصة. لذلك كان عليه أن يعيد إنتاج الأنطولوجيا الألتوسيرية بطريقة جديدة مبتكرة، انطلاقاً من واقع الصراع الطبقي العربي واللبناني، بما ينسجم ومواءمتها لهذا الصراع وفاعليتها فيه. فكان إنتاجه النظري بالفعل تكوننا وتميزاً للنظرية الماركسية، حسب تعبير مهدي المأثور. وتتضح أصالة مهدي من أي مقارنة جدية بينه من جهة وبين ألتوسير وبولانتساس وباليبار من جهة أخرى. فبرغم تشابه الألفاظ والمصطلحات، إلا أن المعنى والروابط والروحية مختلفة تماماً. فتكاد لا تجد لفظة من الألفاظ التي يستعملها مهدي، كتلك المذكورة في مقدّمة هذا البحث، لم يرد ذكرها في ألتوسير وبولانتساس. لكنها تكتسب معنى مختلفاً وأكثر وضوحاً وتحديداً لدى مهدي. وهي مبعثرة بعض الشىء في كتابات ألتوسير وبولانتساس، لكنها تتجمع لدى مهدي في نظام محكم الترابط يظهر مغازيها ويضفي عليها روحية ثورية جديدة. وعليه، فإن مهدي ماركسي مجدد بالفعل، ينبع إبداعه من قلب الحدث الثوري النضالي. لذلك نرى أن الطابع الأكاديمي النظرياتي Theoreticist ، الذي يشوب كتابات ألتوسير وبولانتساس، يكاد يختفي تماماً في كتابات مهدي، لتحل محله إلحاحية ثورية عملية تكاد تكون مؤلمة في سطوعها. وقد يبدو هذا القول باعثا للدهشة لدى بعض الشيوعيين، حيث إن الفكرة الشائعة لدى أولئك هي أن مهدي مغرق في التجريد والتنظير والفلسفة، ومن ثم بعيد عن هموم الناس والعمل السياسي المباشر. ولعل استشهاده عام 1986 جاء دحضا عمليا دمويا لهذه الفكرة المغلوطة. فالقارىء الجدي لمهدي يلحظ من دون عناء أن مهدي يحاول جاهداً بتنظيره المحكم أن يتملك ناصية الممارسة الطبقية الثورية وأن يغوص في عمق أعماقها صوب تملك شروطها وبناها وأطرها، وذلك كله من أجل التحكم في آلياتها وسيرورتها وإدارة الصراع الطبقي بتبصر واقتدار. فتنظيره المحكم هو جزء لا يتجزأ وجوهري من انخراطه الكامل في الصراع الطبقي الوطني، وتعبير دقيق عن عمق التزامه وجدية انخراطه في هذا الصراع. لذلك قد يكون من الأدق نعته بمهندس الثورة العربية، بدلاً من فيلسوفها.



ولعل محور أنطولوجيا الوجود الاجتماعي لدى مهدي هو الفعل الطبقي، أو الممارسة الطبقية. فهو الرابط والمحرك. وفي العصر الحديث، فإن محور الوجود الاجتماعي هو الممارسة الطبقية البرجوازية والممارسة الطبقية العمالية، برغم تعدد الشرائح والزمر والطبقات، وذلك بحكم علائق الإنتاج الرأسمالية السائدة. ويسود هذا المحور في شتى بقاع المعمورة، حتى في المجتمعات الطرفية، وذلك بفعل الإمبريالية، التي عممت علائق الإنتاج الرأسمالية. وبهذا التركيز على الفعل الطبقي والتأكيد على محوريته يتغلب مهدي على ما يشوب النظام الأنطولوجي الألتوسيري من فتشية واغتراب. إذ فيما يعطي ألتوسير الأولوية للبنية والسيرورة الخالية من الذات ويكسبهما فاعلية خاصة بهما، فإن مصدر كل فاعلية لدى مهدي هو الفعل الطبقي والصراع الطبقي، أي البراكسيس الاجتماعي. ولا ينظر مهدي إلى مستويات الوجود الاجتماعي (السياسي، والنظري، والآيديولوجي، والاقتصادي) بمعزل عن حركة الصراع الطبقي، وإنما يعتبر هذه المستويات أبعاداً للفعل الطبقي. فالممارسة الطبقية هي في جوهرها سياسية، لكنها تأخذ أشكالاً متنوعة حسب طبيعة الطبقة الممارسة للصراع الطبقي وعلائق القوى السائدة بين الطبقتين الرئيسيتين. لذلك، يرى مهدي أن المستوى المسيطر دوماً، في أي مرحلة وأي تشكيلة اجتماعية، هو المستوى السياسي، وإلا فقد الصراع الطبقي محوريته، مثلما أن التناقض الاقتصادي بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج هو المحدد الأساسي دوماً. لكن الأخير يحدد في النهاية عبر الصراع الطبقي نفسه، ومن ثم يتحدد به. لكن شكل ظهور السياسي يعتمد على طبيعة الطبقة المسيطرة وعلائق القوى السائدة. إذ تعمد البرجوازية بسيطرتها إلى إزاحة السياسي عن مستواه صوب الاقتصادي والآيديولوجي، ومن ثم إخفائه، أي إظهاره بمظهر الصراع الاقتصادي أو الآيديولوجي جوهريا، ضاربة بذلك عصفورين بحجر واحد. فهي بذلك تطمس التناقض السياسي على مستواه الجوهري وتخفي الطابع السياسي الطبقي للصراع الاقتصادي والصراع الآيديولوجي في آن. وكما يقول مهدي في كتابه “في التناقض”: “إن نزع الطابع السياسي عن الصراع الطبقي هو الطابع السياسي الخاص بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة. حين يظهر الصراع الطبقي في شكله الرئيسي كصراع آيديولوجي أو اقتصادي، أي حين يكون المظهر الرئيسي في التناقض السياسي مظهراً غير سياسي، يمكننا القول إن الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة في تطور صراع الطبقات الاجتماعية أي القوة السياسية التي تدفع البنية الاجتماعية إلى البقاء في تطورها داخل الإطار البنيوي الثابت لعلاقات الإنتاج القائمة.”*.

* مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني: (1) في التناقض، (2) في الإنتاج الكولونيالي، دار الفارابي، بيروت (الطبعة الثالثة، 1980)، ص. (49).


إن من مصلحة الطبقة المسيطرة إظهار الصراع الطبقي وكأنه صراع بين أفراد، أو بين طوائف، أو بين أمم، أو بين جماعات إثنية، أو بين تجمعات اقتصادية. فهي بذلك تخفي الجوهر السياسي الطبقي لهذه الصراعات. لذلك يصف مهدي حركة الممارسة السياسية للبرجوازية بأنها في أساسها حركة انتباذية تبعد الصراع الطبقي عن مستواه السياسي صوب المستويات الأخرى لكي تخفي جوهره السياسي وتقلب العلاقات القائمة بين أشكاله ومظاهره. أما الطبقة النقيض، أي الطبقة العاملة، فإنها تسعى بممارستها الطبقية إلى إعادة الصراع الطبقي إلى مستواه الجوهري السياسي، ومن ثم إظهار الجوهر الطبقي للصراعات الاقتصادية والآيديولوجية والسياسية قاطبة. لذلك يسمي مهدي حركة ممارستها الطبقية حركة انجذابية، لأنها تجذب التناقضات الاجتماعية قاطبة صوب محورها السياسي من أجل صهرها جميعاً في نقطة قطع واحدة تشكل مركز الحقل السياسي للصراع الطبقي. ويرى مهدي أن البناء الاجتماعي لا يتحدد بذاته، وإنما بحركة الصراع الطبقي، وذلك بعكس ألتوسير وبولانتساس اللذين يميلان إلى اعتبار البناء الاجتماعي واقعاً موضوعيا قائماً بذاته وسابقاً للممارسة والفعل. ففي ظل الممارسة الطبقية السياسية للبرجوازية وفي ظل سيطرتها تظهر مستويات الوجود الاجتماعي وتترابط معاً بصورة تراكبية. يقول مهدي: “في إطار الحركة الانتباذية للصراع الطبقي، تترابط هذه المستويات بشكل تراكيبي هو تنضيد لها”*. ويقول: “وهذه المستويات، في إطار الحركة الانتباذية للصراع الطبقي، تترابط بشكل تراكبي ينضدها، أي بشكل يظهر فيه كل منها في استقلاله النسبي، أو قل، للدقة، في استقلاله عن الآخر، في نسبته إليه.




•مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (127).



معنى هذا أن لسيطرة الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة داخل الحقل السياسي للصراع الطبقي أثراً محدداً، ليس لشكل الحركة المحورية لهذا الصراع، أي لعلاقة التفاوت بين مختلف حقوله وحسب، بل لشكل ترابط هذه المستويات البنيوية نفسها داخل البنية الاجتماعية”*. وهكذا، تظهر هذه المستويات قائمة في ذاتها، مستقلة عن حركة الصراع الطبقي “الذي يولدها في شكلها هذا بفعل سيطرة الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة داخل الحقل السياسي”**. أما في إطار الحركة الانصهارية، المرتبطة بالسيطرة الطبقية للطبقة العاملة في الحقل السياسي، فيكون الترابط بين مستويات الوجود الاجتماعي انصهاريا، بمعنى “أن التناقض السياسي، في هذا الإطار، يتحدد كمركز انصهار لمختلف التناقضات البنيوية التي تفقد بذلك تنضيدها، وتصب كلها في مركز انصهارها السياسي”***. عند ذاك، أي عندما تنتزع الطبقة العاملة السيطرة في الحقل السياسي، تظهر التناقضات الاجتماعية قاطبة على حقيقتها بصفتها أشكالاً من التناقض الطبقي السياسي الرئيسي، ويبرز حلها على حقيقته السياسية. وعلى سبيل المثال، فإن حل التناقض الأساسي بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج لا يتم على الصعيد الاقتصادي، وإنما بحل التناقض السياسي بانتزاع الطبقة العاملة السيطرة السياسية من الطبقة البرجوازية واستخدام هذه السيطرة من أجل تغيير علائق الملكية، ومن ثم القاعدة الاقتصادية، وفق متطلبات قوى الإنتاج المتفجرة. وهكذا، فإن مهدي عامل يؤكد محورية الصراع الطبقي ليس فقط في تحريك تناقضات المجتمع، وإنما في ترابط مستوياته وبناه. فهو الذي يربط القاعدة




* مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (131).

** مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (131 – 132).

*** مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (155).



بالبناء الفوقي ويربط مستويات المجتمع وبناه ببعضها وفق حركته وعلائقه. بل إن هذه الروابط ليست أكثر من صورته الظاهرة، تتغير بتغير علائقه الداخلية على الصعيد السياسي.


ما هو السياسي:



يقول مهدي عامل في كتابه “في الدولة الطائفية”: “نفهم هذه الضرورة، في وجه منها، إذا علمنا أن السياسي هو هو الصراع الطبقي، وأنه ليس الدولة، وليس الحقوقي، ولا المؤسسي، إلا من وجهة نظر الطبقة البرجوازية المسيطرة…”*.



ويمثل هذا الاقتباس عصارة موقف مهدي من التناقض السياسي وجهاز الدولة البرجوازية. فالسياسي ليس مماثلاً لجهاز الدولة، ولا للبناء الحقوقي والمؤسسي، وإنما هو في أساسه وشموله الصراع الطبقي نفسه. وهو يبدو مماثلاً لهذا الجهاز فقط من منظور الطبقة البرجوازية المسيطرة، وفي ظل سيطرتها وسيطرة ممارستها الطبقية. ففي سياق الحركة الانتباذية للصراع الطبقي النابعة من سيطرة الممارسة الطبقية البرجوازية، يظهر جهاز الدولة قائماً في ذاته ومستقلا استقلالاً ذاتيا عن حركة الصراع الطبقي، وتظهر علائقه الداخلية على صورة علائق خارجية عرضية. ويشكل هذا الأثر للوهم الآيديولوجي، الذي تولده الممارسة الآيديولوجية للطبقة المسيطرة، أساساً لاعتبار جهاز الدولة الموضوع الشرعي لعلم خاص، هو علم السياسة. لكن الأخير لا يتعدّى كونه آيديولوجيا هدفها ترسيخ وهم استقلالية هذا




* مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت (الطبعة الثانية،

1989)، ص. (215 – 216).


الجهاز وإخفاء جوهره الطبقي. بيد أن هذا الجوهر لا يظهر بالفعل إلا في سياق تنامي الحركة الانجذابية للصراع الطبقي المصاحبة لسيطرة الطبقة النقيض. عند ذاك يظهر جهاز الدولة على حقيقته بصفته الأداة الرئيسية لسيطرة الطبقة البرجوازية في المجتمعات الرأسمالية. إن جهاز الدولة البرجوازية هو ضامن السيطرة الطبقية البرجوازية. من ثم، فإن تدمير هذا الجهاز هو شرط ضروري لإنهاء سيطرة البرجوازية واستبدال السيطرة العمالية بها. هذه المقولة اللينينية تبع بصورة منطقية من التصور العاملي للتناقض السياسي وأدواته.



وبالطبع، فإن هناك أدوات أخرى، غير جهاز الدولة، تستعملها البرجوازية في ممارسة الصراع الطبقي، وفي مقدّمتها الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وما يسمى الأجهزة الآيديولوجية، كالمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية. بيد أن هذه الأدوات تنتمي في جوهرها إلى جهاز الدولة وتستمد معناها ووظائفها من هذا الجهاز. إنها موجودة من أجل خدمة هذا الجهاز. لذلك أسماها ألتوسير وبولانتساس، ومهدي أيضاً، أجهزة الدولة الآيديولوجية. وبالطبع، فإن هذه الأجهزة تظهر، في ظل الحركة الانتباذية للصراع الطبقي والسيطرة البرجوازية، مستقلة عن حركة الصراع الطبقي وقائمة في ذاتها بوصفها أركانا جوهرية للمجتمع البشري في صوره كافة. ولا يظهرها على حقيقتها بوصفها أدوات للمارسة الطبقية البرجوازية سوى الحركة الانجذابية، التي تتميز بها الممارسة الطبقية العمالية في سياق انتزاع السيطرة السياسية من الطبقة الحاكمة. عند ذاك تظهر هذه الأجهزة بارتباطها العضوي بجهاز الدولة والممارسة الطبقية البرجوازية.



ولكن، ما هي بالضبط علاقة الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة بجهاز الدولة البرجوازية؟

الأحزاب البرجوازية بين الهيمنة والسيطرة:



يميز مهدي عامل بين مفهومي الهيمنة والسيطرة ويتخذ هذا التمييز أساساً لتحديد المغزى السياسي للأحزاب البرجوازية وعلاقتها الداخلية بجهاز الدولة. إذ إنه يعتبر الحزب البرجوازي أداة الهيمنة الطبقية، في الوقت الذي يعتبر فيه جهاز الدولة أداة السيطرة الطبقية. ولنوضح هذه المقولة.



يرى مهدي أن كل طرف من طرفي التناقض السياسي الرئيسي، أعني التحالف البرجوازي والتحالف العمالي، يتشكل من مجموعة من الفئات الطبقية. ويعود تعدد الأحزاب البرجوازية إلى هذه الظاهرة، حيث إن كل فئة من هذه الفئات يمثلها حزب برجوازي. ويستلزم تماسك التحالف البرجوازي وممارسته لسيطرة البرجوازية بإزاء الطبقات الأخرى والمجتمع بوصفه كلاً أن تكون هناك فئة مهيمنة على الفئات الأخرى المشكلة للتحالف البرجوازي. ويميز مهدي في هذا السياق ما بين سلطة الدولة وجهاز الدولة. فكما يقول مهدي: “فبإمكاننا القول إذن، بشكل عام، إن سلطة الدولة في خدمة الفئة أو الطبقة المهيمنة التي تمتلكها، أما جهاز الدولة فأداة سياسية في خدمة الطبقة المسيطرة أو التحالف الطبقي المسيطر، أي إنه الأداة التي بها يتم الإبقاء على علاقة السيطرة الطبقية في إطارها البنيوي القائم. فدوره إذن يقوم في الأساس على منع أي تغيير في علاقة السيطرة الطبقية هذه”*.



إن وظيفة جهاز الدولة البرجوازية يتمثل في تأمين شروط ديمومة سيطرة الطبقة البرجوازية. ومن ذلك تنبع محوريته لهذه الطبقة واستقلالها النسبي، لا عن الطبقة البرجوازية بوصفها كلا، وإنما عن كل من الفئات المشكلة للتحالف


* مهدي عامل، مقدمات نظرية، مرجع سابق، ص. (66).



البرجوازي. فهو ليس في خدمة فئة معينة، ولا حتى الفئة المهيمنة، من التحالف البرجوازي، وإنما في خدمة الطبقة بوصفها كلاً وسيطرتها الطبقية. بل إنه يعطي لنفسه الحق، تحت ظروف معينة، في أن يقمع بعض فئات التحالف البرجوازي، إذا رأى في ذلك ضرورة للإبقاء على سيطرة التحالف أو الطبقة بوصفه كلاً. ولكن حتى يفعل ذلك ويؤدي دوره تماماً، فلا بد أن يتمتع باستقلال ذاتي عن كل من هذه الفئات. فكونه أداة الممارسة الطبقية للطبقة البرجوازية المسيطرة يحتم عليه أن يكون كذلك.



وبصورة عامة، فإن الفئة المهيمنة في الطبقة المسيطرة “تكتشف” هيمنتها وتؤكدها وتمارسها عبر اللعبة الديموقراطية. لذلك يرى مهدي أن الديموقراطية الليبرالية هي الشكل الطبيعي لدكتاتورية البرجوازية، وأن اللعبة الديموقراطية الليبرالية تتم ضمن إطار هذه الدكتاتورية. إذ يقول: “معنى هذا أن الديموقراطية هي الشكل الطبيعي الذي تمارس فيه الطبقة المسيطرة دكتاتوريتها الطبقية على الطبقات الكادحة. إن السيطرة الطبقية للطبقة المسيطرة لا تكون إلا بفرض دكتاتورية هذه الطبقة على بقية الطبقات الاجتماعية. في ظل هذه الدكتاتورية الطبقية بالذات، وليس بمعزل عنها، تتحدد الديموقراطية كالشكل الطبيعي للمارسة السياسية للطبقة المسيطرة. فالديموقراطية هنا إذن ليست لكل الطبقات الاجتماعية، بل للفئات الطبقية المسيطرة أو للتحالف الطبقي المسيطر. وبتعبير آخر، إن الديموقراطية هنا هي الشكل الطبيعي لتطوير علاقة الهيمنة الطبقية داخل علاقة السيطرة الطبقية، أي داخل الدكتاتورية الطبقية للطبقة المسيطرة، وليست شكل تطور علاقة السيطرة الطبقية”*.



إن الديموقراطية إذاً هي الحالة الطبيعية لدكتاتورية البرجوازية، لأنها الطريقة المثلى لممارسة الفئة المهينة هيمنتها في داخل طبقتها عبر تملكها سلطة الدولة من



* مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (68).

أجل إدارة جهاز الدولة بما يعيد إنتاج سيطرة الطبقة المسيطرة بوصفها كلا. كما إن الأحزاب البرجوازية الممثلة للفئات الطبقية تمارس اللعبة الديموقراطية بصفتها أدوات هيمنة طبقية مرتبطة في جوهرها بالجهاز الذي يؤمن للطبقة المسيطرة سيطرتها الطبقية، أعني جهاز الدولة. أما إذا تأزم الوضع بإخفاق الفئة المهيمنة في فرض هيمنتها على الفئات الأخرى في داخل الطبقة المسيطرة بما يحقق هذه السيطرة، فإن جهاز الدولة، المناط به الحفاظ على هذه السيطرة، يتدخل بصورة مباشرة، ويتراجع دور الأحزاب لصالحه، فيعمل على تعليق الديموقراطية الليبرالية لصالح فرض هيمنة الفئة المهيمنة بالقوة والقمع الفاشستي المباشر، بما يضمن تجديد سيطرة الطبقة البرجوازية بوصفها كلاً. فلما كانت العلاقة الجدلية بين الهيمنة والسيطرة تقضي بممارسة الفئة المهيمنة هيمنتها حتى يتسنى للطبقة أن تمارس سيطرتها، ولما كان جهاز الدولة معنيا أساساً بتجديد سيطرة الطبقة البرجوازية في شمولها، كان لا بدّ لجهاز الدولة من التدخل فاشستيا وتصفية الديموقراطية الليبرالية، مؤقتا على الأقل، إذا تعرّضت الطبقة المسيطرة إلى أزمة هيمنة. وبخلاف ذلك، فإن الأحزاب البرجوازية تقوم بأداء دورها الطبيعي بتمثيل فئاتها في نظام الهيمنة الطبقية اللازم لضمان السيطرة الطبقية.



أما أحزاب الطبقة البرجوازية الصغيرة، فهي من صنف آخر يختلف وظائفيا بصورة أساسية عن أحزاب البرجوازية المسيطرة. والنقطة الجوهرية هنا هي أن البرجوازية الصغيرة طبقة غير مهيمنة في أساسها، بمعنى أنها لا تحمل في باطنها وتركيبتها الداخلية نمط إنتاج خاصاً بها، كما هو الحال لدى البرجوازية والبروليتاريا. لذلك، فإن آفاق توليها السلطة السياسية في المراكز الرأسمالية مسدودة تماماً. لكن وصولها إلى السلطة وسيطرتها الطبقية واردة تماماً في الأطراف الكولونيالية، برغم فضائحية هذه الإمكانية. ولئن كانت هذه الأحزاب تتمتع بنوع من الاستقلالية والفاعلية والثورية، في مرحلة ما قبل توليها السلطة، فإنها تفقد استقلالها وفاعليتها لحظة وصولها إلى السلطة، وتندمج في جهاز الدولة تماماً. وكنتيجة لذلك، فإن حكمها يتميز بنمو ديناصوري لجهاز الدولة وجهاز الحزب بصفته جزءاً لا يتجزأ من جهاز الدولة، وبتهميش دور الحزب تماماً بالنسبة إلى جهاز الدولة، وبممارسة القمع المباشر بصورة متواصلة. ويعزو مهدي ذلك كله إلى كون البرجوازية الصغيرة طبقة غير مهيمنة. ويقول مهدي في هذا الصدد: “ولا غرابة في الأمر، فعجزها هذا نتيجة منطقية مباشرة لاستحالة كينونتها طبقة مهيمنة. الحزب أداة الهيمنة الطبقية، إن استحال وجود هذه، استحال وجود الحزب، أو بطل فعله، فإن وجد برغم ذلك، كان بالضرورة مسخاً من المهد إلى اللحد، وفي أحسن الحالات قزماً سياسيا وإن عظمت جثته”*.

ولكن ألا ينطبق ما يقوله مهدي هنا على الحزب الشيوعي السوفييتي منذ ثلاثينيات القرن العشرين؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل يعني ذلك أن الحزب الشيوعي السوفييتي لم يكن بعيداً عن البرجوازية الصغيرة؟ أم إنه يعني أن الظاهرة التي يرصدها مهدي لها أسبابها السياسية الخاصة فوق الطبقية؟



كذلك، فإن مهدي يستنتج من كون البرجوازية الصغيرة طبقة غير مهيمنة أن هناك تناقضاً بنيويا بين حكم هذه الطبقة وبين الديموقراطية في شتى صورها. فالديموقراطية، وفق مهدي، هي الآلية السياسية الطبيعية للهيمنة الطبقية. ومن ثم، فهي تستثني بالضرورة الطبقات غير المهيمنة في تركيبها الداخلي.



•مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (72).




حزب البروليتاريا الثوري:



يكمن أساس نظرية مهدي عامل في حزب البروليتاريا الثوري في فكرة أن الأخير يختلف نوعيا عن أحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة من جميع الزوايا. فهو ليس جهازاً كما هو الحال مع الأحزاب الأخرى، وإنما هو التنظيم الثوري للطبقة العاملة. لذلك، فهو ليس ملحقاً بجاز الدولة، كما هو الحال مع الأجهزة الأخرى، بما في ذلك أحزاب البرجوازية، وإنما هو نقيض هذه الأجهزة جميعا يسعى إلى هدم محورها، أعني جهاز الدولة، وخلق جهاز دولة جديد ملحق به يسخره أداة لتصفية قاعدته المتمثلة بالسيطرة الطبقية في حدّ ذاتها. إن جوهر وجوده إذاً هو كونه نقيضا لجهاز الدولة في حدّ ذاته. ففي مرحلة سيطرة البرجوازية، فإنه يدخل في صراع متواصل مع جهاز الدولة البرجوازية، وما يتبعه من أجهزة أخرى. وأول ما يفعله حين يتغلب على السيطرة الطبقية البرجوازية هو تحطيمه جهاز الدولة البرجوازية وبناء جهاز دولة عمالية. ولكن، لئن كانت الأحزاب البرجوازية أجهزة تابعة بالضرورة إلى جهاز الدولة، فإن الحزب العمالي الثوري يظل مستقلا حتى عن جهاز دولته، بل ويلحق هذا الجهاز به أداة لتصفية السيطرة الطبقية في حدّ ذاتها وتصفيته معها. إنه بالتأكيد يتعايش مع جهاز دولته، لكنه يظل في نوع من التناقض والتوتر معه.



ولدينا ملاحظتان في هذا الصدد. إذ نلحظ هنا نوعاً من النقد الموجه إلى بعض الأحزاب الشيوعية وللأنظمة الشيوعية قاطبة. ففي هذه الأخيرة، حصل نوع من الاندماج بين جهاز الدولة والحزب الشيوعي الحاكم، بل وتحول هذا الأخير إلى جهاز بيروقراطي تابع إلى جهاز الدولة. وحتى الأحزاب الشيوعية في البلدان البرجوازية تحولت إلى أجهزة بيروقراطية فوق الطبقات العاملة التي تمثلها. وكما يقول مهدي: “وفي هذا، أي في تكون الحزب الثوري كجهاز، وبالتالي في تبعيته لجهاز الدولة، خطر على تطور الحركة الثورية نفسها للطبقة العاملة، سواء كانت في السلطة أو خارجها”*.



إن في هذه الفكرة العاملية نقداً جذريا لواقع الأحزاب الشيوعية والأنظمة الشيوعية. وإنه من المؤسف أن مهدي لم يطور هذه الفكرة العميقة في نقد مباشر وعياني للأنظمة الشيوعية وأحزاب شيوعية بعينها، ربما لانشغاله بالصراع الطبقي الدائر رحاه في لبنان والأقطار العربية. وأزعم أنه لو قدر له أن يعيش حتى عام 1989 أو 1991، لما اندهش كثيراً لانهيار الأنظمة الشيوعية الأوروبية وتراجع كثير من الأحزاب الشيوعية عن أهدافها الثورية. فلم يكن هذا الحدث المروع خارج الفضاء النقدي لنظامه النظري، بل إن احتماليته قائمة في قلب هذا النظام، كما يشير تصوره للحزب الثوري وعلاقته بجهاز الدولة.



أما الملاحظة الثانية، فهي أن تصوره للحزب الثوري على أنه التنظيم الثوري للطبقة العاملة مثير للدهشة وغريب، بل ويتناقض بعض الشيء مع تجربة أكتوبر وتصور لينين للأمر. إنه ليستوقف القارىء المطل على هذه التجربة والمتعمق في فكر لينين. فأين دور مجالس العمال والفلاحين والجنود، أي السوفيييتات، في التنظيم الثوري للجماهير؟ ألم يعتبرها لينين نواة الدولة السوفييتية والتعبير الدقيق عن دكتاتورية البروليتاريا، أو الديموقراطية العمالية؟ وألم يعتبرها الدولة اللادولة الآيلة بطبعها إلى الضمور فالتلاشي؟ ألم يكن شعار لينين قبيل ثورة أكتوبر: كل السلطة للسوفييتات؟ وهل يترك مهدي للسوفييتات أي ركن في نظامه النظري المحكم؟ ما هو سرّ هذا الغياب الكامل للسوفييتات في نظام مهدي؟ هل يعود هذا الغياب إلى بقاء مهدي أسير الشيوعية التقليدية، أسير الستالينية، وعجزه في النهاية عن العودة إلى


* مهدي عامل، المرجع السابق، ص. (75 – 76).



لينين لكي يستأنف مسيرته النظرية الثورية انطلاقاً من النبع الصافي، برغم شحنته النقدية الإبداعية العالية؟ أم إنه انحاز في نظرته إلى الحزب الثوري إلى روزا لوكسمبورغ بعيداً عن لينين؟ إذ، أليس الأولى اعتبار السوفييت هو التنظيم الثوري للبروليتاريا، واعتبار الحزب الثوري الموجه للفعل الثوري بوصفه التجسيد الأعلى للوعي العمالي الثوري؟ أليس الحزب الثوري نقطة التقاء النظرية الثورية بالممارسة الثورية، أي بوتقة انصهار المثقف الثوري، صانع النظرية الثورية، بالنخبة العمالية الأكثر وعيا، صانعة الممارسة الثورية؟ ألا يعدّ اعتبار الحزب الثوري التنظيم الثوري للجماهير الشعبية تغييبا للديموقراطية العمالية المتجسدة في السوفييتات وسلطتها، وتعزيزاً لدكتاتورية الحزب الواحد، التي ظلت تعاني منها الأنظمة الشيوعية حتى لحظة اندثارها التراجيدية؟ ألا يؤكد مهدي باستمرار على قانون تفاوت التطور؟ لماذا إذا يتجاهل هذا القانون عندما يتعلق الأمر بوعي الطبقة العاملة؟ ألم يؤكد لينين مراراً وتكراراً على لاتجانس الوعي العمالي النابع من وجود شرائح عمالية متقدمة وأخرى متخلفة، الأمر الذي يسوّغ تنوع أشكال تنظيم الطبقة العاملة وتعددها؟ ألم يوبخ لينين تروتسكي عام 1921 لأن الأخير ظن أن وجود الدولة السوفييتية يغني العمال عن وجود نقابات عمالية مستقلة؟ ومن ثم، ألم يؤكد لينين على ضرورة النقابات والسوفييتات، إضافة إلى الحزب الثوري، لدكتاتورية البروليتاريا؟ أليست هذه الأخيرة بنية سياسية معقدة من الحلقات التنظيمية المتداخلة؟ وأليس قلبها النابض هو المجالس، أي السوفييتات، مثلما أن عقلها الموجه هو الحزب العمالي الثوري؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فإن جهاز الدولة العمالية ليس تابعاً للحزب الثوري بصورة مباشرة، وإنما يتبعه عبر مؤسسات الديموقراطية العمالية، أي عبر السوفييتات. إن هذه الأخيرة هي الجسر وحلقة الوصل بين الحزب وجهاز الدولة. من ثم، فإن الحزب هو جهاز تابع للديموقراطية العمالية، أو، قل إن الحزب والدولة كليهما جهاز تابع لهذه الديموقراطية. إن السوفييت يمثل الطليعة العمالية، أو الوعي التاريخي الأكثر تقدماً للطبقة العاملة. وتكمن مشكلة الديموقراطية العمالية في الإمكانية الماثلة دوماً لوجود هوة وتناقض بين هذه الإرادة وذلك الوعي المتقدم. ومن ذلك ينبع سعي الحزب الثوري، حتى بعد استلام الطبقة العاملة السلطة السياسية، إلى الهيمنة الآيديولوجية في صفوف الجماهير المنظمة، أي إلى صيرورته التنظيم الآيديولوجي لهذه الجماهير. بذلك، فإن الحزب الثوري ليس التنظيم الثوري للطبقة العاملة بقدر ما هو أداة تنظيمها الآيديولوجي. والسؤال الذي يبقي يؤرقنا هو: لماذا أغفل مهدي ذلك كله؟ لماذا أغفل الديموقراطية العمالية في عيانيتها الثورية، برغم إدراكه خطر التكلس البيروقراطي، الأمر الذي ألجأه إلى مفهومات مبهمة ملتبسة كمفهوم الجهاز ومفهوم التنظيم الثوري للطبقة العاملة؟ لقد أدرك مهدي هذا التناقض الممض، فلجأ إلى حل مشوّش يتمثل في اعتبار الحزب الثوري لاحزباً، أي اعتباره نوعاً مبهماً من السوفييتات من دون أن يصرّح بذلك. هل يعود ذلك إلى أنه ظل أسير الستالينية (بعكس باليبار مثلاً في تصوره دكتاتورية البروليتاريا)، الأمر الذي حال دون إعادة اكتشافه اللينينية في نقائها؟ ذلك أن الستالينية أدت الدور الرئيسي في تاريخ الحركة الشيوعية في طمس اللينينية بطمس جوهرها الديموقراطي العمالي. ويبدو أن مهدي، برغم عبقريته التنظيرية وملكته النقدية الخارقة، عجز عن كسر الإسار الستاليني، الذي كبل الحركة الشيوعية، وبخاصة جناحها العربي، طويلا، صوب الجوهر الديموقراطي للينينية، الأمر الذي أدخله في متاهات مفاهيمية يشكو منها نظامه النظري في أكثر من موقع ومستوى. ولنا وقفة أخرى مع هذه المتاهات في دراسات قادمة.


خاتمة:



إن نظرية مهدي عامل في الحزب فيها الكثير من الجوانب المبتكرة وتشكل تحديا مثمراً لدى المنظر السياسي والثوري الماركسي سواء بسواء. وقد حاولنا إضاءة بعض جوانبها الأساسية. لكن هناك جوانب مهمة لم نتطرق إليها. لذلك فإن محاولتنا هذه مجرد اختراق أولي لجهد نظري عظيم لا بدّ من أن يتابع ويناقش بالجدية التي يستحقها في دراسات أخرى. ولا يفي هذه الجهد بعض حقه سوى مؤتمر شامل يتناول فكر مهدي عامل في سياق إعادة بناء حركة التحرر الوطني العربية والحركة الشيوعية العربية.