فلسفة الثورة: من فويرباخ إلى ماركس


هشام غصيب
الحوار المتمدن - العدد: 3866 - 2012 / 9 / 30 - 17:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

شكل كارل ماركس ذروة مسيرة فكرية قديمة وتدشينا لمسيرة فكرية جديدة: ذروة مشروع التنوير الذي بدأته البرجوازية الغربية الثورية، وتدشينا لحقبة جديدة على أساس الفكر العلماني التام العلمنة. ذلك أن مسيرة علمنة الفكر توجت بالمادية الجدلية والمادية التاريخية، اللتين أرستا قاعدة جديدة لانطلاقة فكرية ثقافية جديدة، لحقبة دبّت الحماس في قلوب كادحي العالم وما زالت، ودبّت الرعب(وما زالت) في قلوب القوى الطبقية، التي تنتمي وتحن إلى الماضي، وقلوب مثقفي هذه القوى. قارن مثلاً التفاؤل والحماس، اللذين تضج بهما كتابات إنغلز بصدد الحقبة الجديدة، بالرعب واليأس والقلق التي يعبّر عنها الروائي الروسي، فيدور دستويفسكي، في رواياته الرئيسية بصدد هذه الحقبة. ولا عجب. فهي حقبة صعود بالنسبة إلى القوى الديموقراطية الشعبية (بعض النظر عن الانتكاسات المؤقتة)، لكنها حقبة تراجع وانحسار وانحطاط بالنسبة إلى البرجوازية (برغم انتصاراتها الظاهرية).


كيف مثل ماركس ذروة مشروع التنوير؟ وكيف دشن حقبة جديدة في تاريخ الفكر؟

أعتقد أن الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في ملاحظات لماركس وضعها عام 1845، ونشرها إنغلز بعد وفاة ماركس تحت عنوان “أطروحات حول فويرباخ”. وهي ملاحظات مكثفة جداً لا تتعدى في مجملها الصفحتين. ومع ذلك، فهي في أهميتها الفكرية تفوق المجلدات. وهي جملة من التبصرات الساطعة التي تنطلق كالشرارة معلنة بدء حقبة حضارية جديدة وروحية إنسانية جديدة. إنها تعبير صارخ عن لحظة ولادة جديدة، ولادة رؤية كونية جديدة قادرة على تملك الجماهير وصنع التاريخ عبر فعلها الثوري. إنها تصور جديد للإنسان الحقيقي (بلحمه ودمه) وخصوصيته وإمكاناته الهائلة. إنها تتويج لروح النهضة، التي سبق أن عبّر عنها شيكسبير في مسرحياته وميكلانجلو في نحوته، تلك الروح التي تعلن انحيازها للإنسان بتعظيم شأنه والاحتفال بقدراته.

إن النقطة الأساسية الني تمحور حولها نقد ماركس لفويرباخ هو أن الإنسان في جوهوه فاعلية عقلانية خلاقة تخلق ذاتها عبر خلق بيئتها، وتخلق بيئتها عبر خلق ذاتها، في جدل متصاعد لا يعرف حدّاً من حيث المبدأ. ذلك أن فويرباخ نظر إلى الإنسان فقط بوصفه كائنا قادراً على التأمل والرغبة والشعور(الحب)، ونظر إلى العالم المحسوس على أنه مجرد معطى يجابه الوعي ويطبع نفسه عليه. فالفاعل هنا هو الطبيعة. أما الإنسان، فإنه مجرد مفعول فيه يتلقى الانطباعات المفروضة عليه فرضاً، فلا يتاح له حيالها سوى تأملها والشعور بصددها. فالفاعلية الوحيدة التي يعترف بها فويرباخ هي الفاعلية النظرية، فاعلية التأمل. أما الفاعلية العملية الموجهة نظريا، الفاعلية الخلاقة الثورية، فيغفلها فويرباخ كليا. بل إن فويرباخ يعمد إلى إجراء نوع من الفصل التعسفي بين جانبين من الفاعلية البشرية الخلاقة: الجانب العملي والجانب النظري، بدلاً من أن ينظر إليها في وحدتهما الجدلية. والنتيجة أنه يحقّر الجانب العملي ويختزله إلى نوع من الوظيفة البيولوجية أو الروتينية الخالية من العقلانية والخلق. لذلك نراه يقصر الطابع الإنساني على الجانب النظري. أما ماركس، فهو يعتبر الفاعلية العقلانية الخلاقة، فاعلية الإنتاج والثورة، كلاّ واحداً موحداً في الأساس، والجوهر الحقيقي للإنسان. فالإنسان يتميز بقدرته على تصور الممكن، وليس فقط الكائن، وعلى الممارسة الهادفة إلى تغيير الكائن إلى الممكن المتصور، أي تحويل الممكن المتصور إلى واقع، إلى كائن. بذلك يدخل العقل في التغيير. وبذلك يخلق الإنسان بيئته على شاكلته ومثاله، مغيراً نفسه في هذا السياق. وليس التاريخ البشري سوى هذه السيرورة، سيرورة خلق الإنسان لذاته في سياق خلقه بيئيه الطبيعية. إنه ليس عقلاً مطلقا مغلقا يتطور بفضل تناقضاته الداخلية، كما تصور هيغل. كما إنه ليس حركة طبيعية عشوائية تتم وفق قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، كما تصور الروائي الروسي، ليو تولستوي، في رائعته “الحرب والسلام”. كلا ! إنه سيرورة خلق الإنسان لذاته عبر خلقه بيئته. فالإنسان، في جوهره، ثورة خلاّقة تقلب العالم المحسوس رأسا على عقب. هذا ما أدركه ماركس وهذا ما لم يدركه فويرباخ، برغم ما يجمعهما من رؤية مادية. لكن من الواضح أن مادية فويرباخ هي مادية سكونية ميكانيكية غير قادرة على استيعاب ظاهرة الإنسان، وأن مادية ماركس هي مادية جدلية تاريخية قادرة على استيعاب الإنسان في تاريخيته. إن فويرباخ عجز عن تخطي مادية القرن الثامن عشر، التي بنيت على أساس فيزياء ديكارت ونيوتن، لأنه عجز عن استيعاب هيغل نقديا. أما ماركس، فقد أجرى نقداً ماديا عميقاً وشاملا لهيغل في كتاباته الفلسفية المبكرة، الأمر الذي قاده إلى تخطي مادية القرن الثامن عشر صوب مادية إنسانوية جدلية قادرة على استيعاب المجتمع البشري والتاريخ.


هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ففي حين نظر فويرباخ إلى البشر على أنهم كومة من الأفراد الذين يشتركون في جوهر واحد (طبيعة واحدة) يتكرر في كل فرد، وكأن أفراد المجتمع هم ذرات لايبنتز الروحية (مونادات الفيلسوف الألماني لايبنتز)، فإن ماركس اعتبر جوهر الإنسان مجمل علاقاته الاجتماعية، أي اعتبره مجمل الفاعليات العقلانية الخلاقة التي تقوم بينها علائق اجتماعية موضوعية موروثة. إن الأفراد ينشأون ويتطورون وينمون ثم يشيخون ويموتون ضمن بناء من العلائق الاجتماعية الموضوعية الموروثة القائمة بينهم. وهذا البناء هو الذي ينظم ممارساتهم، التي تعمل بدورها على تغييره وتطويره. إن الإنسان ليس مجرد فرد تجريدي معزول ومكون مسبقا بمعزل عن الأفراد الآخرين وعن بيئته الإنسانية. إنه فاعلية اجتماعية خلاقة يشارك فيها الأفراد جميعا ضمن شبكة من العلائق الاجتماعية الموضوعية الموروثة. هذا بالضبط هو إنسان ماركس الخلاق الثوري. إن الجوهر الإنساني لدى فويرباخ هو عمومية صماء تتكرر بصورة مملة في كل فرد بشري بمعزل عن الآخرين. كما إن فويرباخ يستنبط هذا الجوهر من الدين باعتبار الدين تعبيراً مغتربا عنه. لكنه لا يخضع ما يستنبطه إلى نقد مادي صارم، الأمر الذي يقوده إلى نظرته الانعزالية السكونية للإنسان. لذلك يغفل فويرباخ حقيقة أن الشعور الديني، الذي يعتبره معطى أوليا، هو ناتج اجتماعي، وأن الفرد التجريدي المعزول الذي يحلله ينتمي إلى نمط معين من المجتمعات، هو النمط البرجوازي الرأسمالي. ذلك أن أعلى نقطة تصل إليها مادية فويرباخ، التي يسميها ماركس المادية التأملية، والتي لا تستوعب الإنسان بوصفه فاعلية خلاقة، هي تصورها للمجتمع المدني، أي المجتمع الرأسمالي المكون من ذرات استهلاكية قائمة في ذاتها.


يقول ماركس إن فويرباخ ينطلق من حقيقة الاغتراب الديني، أي من التقسيم التعسفي للعالم إلى عالمين: العالم الديني والعالم العلماني. ويتمثل إنجازه في إرجاع العالم الديني إلى قاعدته العلمانية. لكن كون القاعدة العلمانية تفصم نفسها عن نفسها وتشكل نفسها بوصفها مملكة مستقلة في السماء لا تفسر إلا بالشروخ والتناقضات الداخلية الكامنة في قلب هذه القاعدة العلمانية نفسها. من ثم، فالمهمة الحقيقية هي فهم هذه القاعدة بتناقضاتها وتثويرها عمليا. فبعد اكتشاف أن العائلة الأرضية هي سرّ العائلة المقدسة، تبرز مهمة تغيير العلائق القائمة في داخل العائلة الأرضية نفسها. إن التغيير الحقيقي لا يأتي نتيجة الإدراك النظري البحت للاغتراب الديني، وإنما نتيجة الفعل الثوري الهادف إلى تغيير الأساس المادي للاغتراب الديني وغيره من أنماط الاغتراب. لقد اكتفى الفلاسفة حتى ماركس بتأمل العالم، بتأويله بصفته معطى وقدراً. بيد أن المطلوب هو تغييره. إنها مهمة جديدة للفلسفة وللمثقفين، تلك التي ينادي بها ماركس. وهي مهمة لا تستلزمها الأخلاق والسياسة وحدهما، وإنما المعرفة أيضاً، وبخاصة المعرفة المتعلقة بعالم الإنسان. فالمعرفة الموضوعة بصدد الإنسان وعالمه لا تنتج إلا بالممارسة الخلاقة، إلا بالجوهر الفعال للإنسان، أي في سياق إزالة اغتراب الإنسان عن نفسه وعالمه، أي في سياق تغيير العالم ثوريا. فإذا نظر المرء إلى البيئة الإنسانية بوصفها طبيعة مادية قائمة في ذاتها ومؤبدة، وتعامل معها معرفيا على هذا الأساس، ودرسها وضعيا كما يدرس عالم الفيزياء الطبيعة الكونية، بحجة الالتزام بالموضوعية والحيادية، كرّس اغتراب موضوعه وساهم في تأبيد العلائق الانسانية المغتربة القائمة، وأغفل جوهرها الإنساني التاريخي، ومن ثم أنتج معرفة وصفية سطحية زائفة بصددها. فالموضوعية الحقة تقضي بأن يكون المرء منخرطاً في صراع بيئته الإنسانية من أجل إنهاء اغترابها وتأكيد جوهرها الإنساني، ليس نظريا فقط على غرار فويرباخ، وإنما عمليا أيضا، أي ثوريا، على غرار ماركس وإنغلز. وهو يصل إلى المعرفة الموضوعية بهذا الانخراط وهذه الممارسة الإنتاجية الثورية، في سياق تغيير موضوع المعرفة ونقده. فالنقد في حال العلوم الإنسانية لا يقتصر على النظرية المعرفية، وإنما يتخطاها إلى موضوعها المعرفي. فالأخير ليس مجرد معطى قائم في ذاته، كما في حال علوم الطبيعة، وإنما هو امتداد للذات العارفة تتضمن معرفته تغيير العلاقة بينه وبين هذه الذات. ومثلما أن التجربة العلمية الدقيقة آلية أساسية من آليات إنتاج المعرفة واختبارها في علوم الطبيعة، فإن الممارسة الثورية هي أيضا آلية أساسية لإنتاج المعرفة واختبارها في العلوم الإنسانية. ولعل بذور هذه الفكرة الماركسية العظيمة موجودة في هيغل، الذي شبه العملية المعرفية بالسباحة. فالسباحة لا تعرف إلا بممارستها. وقد أورد هيغل هذا التشبيه في سياق نقد نظرة كانط السكونية بعض الشيء فيما يتعلق بالمعرفة وإنتاجها.



هكذا أكمل ماركس عملية علمنة الفكر ومشروع التنوير، وهكذا أرسى الأسس الفلسفية للعلوم الإنسانية وللثورة الاجتماعية الشاملة.