اغتراب العقل المطلق: نقد فويرباخ لهيغل


هشام غصيب
الحوار المتمدن - العدد: 3993 - 2013 / 2 / 4 - 09:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

وصل دين العقل أوجه في هيغل، كما أسلفنا في مقالات سابقة. وكان هذا الدين الجديد شكلاً معلمنا بعض الشيء لفلسفة العصور الوسطى الدينية الطابع، بمعنى أن بناءه كان جزءاً مهما من عملية العلمنة التي شهدها المجتمع الغربي منذ مطلع الحقبة الحديثة(الرأسمالية). لكن الفلاسفة الماديين لاحظوا أن دين العقل هذا شكل علمنة ناقصة منقوصة، وأنه لم يأخذ مداه الكامل النهائي، فظل لاهوتيا دينيا في كثير من عناصره. واعتبر الفيلسوف الألماني المادي، لودفيغ فويرباخ، دين العقل الهيغلي آخر شكل من أشكال الاغتراب الديني اللاهوتي، برغم حداثته. ففي سياق علمنة العقلانية التقليدية، وإيصال هذه العملية إلى نهايتها المنطقية، أعاد هيغل إنتاج الدين واللاهوت بصورة جديدة أكثر قدرة على التأثير والصمود. وعزا فويرباخ هذا النقص في عملية العلمنة إلى النهج المثالي الذي اتبعه العقلانيون البرجوازيون(ديكارت، سبينوزا، لايبنتز، فولف، كانط، فخته، هيغل). فالنهج المثالي بحمل الروح الديني في أحشائه، الأمر الذي يجعله قاصراً بوصفه أداة للعلمنة. وعليه، فقد نادى فويرباخ باتباع النهج المادي في الفكر والفلسفة. فهو النهج الطبيعي لإنجاز العلمنة. وباتباع هذا النهج أنزل، أو بالأخرى أعاد، فويرباخ عقل هيغل المطلق من سماء الاغتراب إلى عالم الإنسان بعيانيته وماديته.

لقد ابتدأ فلاسفة العقل، في بنائهم العقل الحديث، من الذات البشرية والذهن البشري. لكنهم، في سياق تأكيد العقل والعقلي وتعظيم العقل وتمجيده، فصموا العقل عن البشر، ورفعوه فوقهم وفوق حياتهم البيولوجية والاجتماعية، وأحلوه محل الذات الإلهية في الأديان التقليدية، فأعادوا إنتاج الاغتراب الديني واللاهوتي، الذي بنوا دين العقل أصلاً من أجل التغلب عليه. وتناسوا في ذلك كله أن العقل يرتبط عضويا بالإنسان بلحمه ودمه، وأنه قدرة جوهرية من قدرات هذا الكائن البيولوجي الاجتماعي، وليس جوهراً للطبيعة والتاريخ، إلا بمقدار قدرة الإنسان على أنسنة بيئته الطبيعة. هذا ما أغفله العقلانيون المثاليون بفضل منهجهم المثالي. لذلك، رأي فويرباخ أن المهمة الكبرى التي تنتظره هي إعادة عقل هيغل المطلق إلى أصله البشري، وإعادة تأويله بما ينسجم مع كونه وظيفة وقدرة جوهرية للإنسان بوصفه كائنا ماديا طبيعيا. بذلك، وبذلك فقط، تصبح العقلانية منسجمة مع ذاتها، وتكتمل عملية العلمنة والتغلب على الاغتراب الديني اللاهوتي، الذي ابتلي به الغرب في العصور الوسطى. إن العقلانية، وفق فويرباخ، تظل ناقصة منقوصة ما ظلت مثالية المنهج والطابع. فهي لا تكتمل ولا تتماسك منطقيا إلا بالمادية. فالمادية مقرونة بدين العقل هي التي تظهر محورية العقل في حياة الإنسان، أي الجوهر العقلي للإنسان، ومن ثم قدرته على تغيير واقعه ونفسه بما ينسجم مع حاجاته ورغباته وآماله وطموحه. وعليه، فإنها هي التي تحقق حلم الحقبة الحديثة، كما عبر عنه منذ بداية البداية بيكون ومكيافيلي وهوبز وديكارت. إن الحداثة ومشروع التنوير لا يصلان أوجهما ولا يتحققان فعلا في المثالي هيغل، وإنما في مادية ما بعد هيغل.

وبالطبع، فإن فويرباخ لم يبغِ أن يحطم دين العقل أو يلغيه أو يرفضه، كما أراد مفكرو البرجوازية أن يفعلوا منذ ثورات 1848،وإنما أراد أن يعلمنه ويعيده إلى مجال الحياة البشرية في عيانيتها وماديتها، ومن ثم أراد الحفاظ عليه والاستفادة منه فعليا في صراع المجتمع والحياة وبنائهما. إذ اعتقد فويرباخ أن صورة هيغل للعقل المطلق هي في حقيقتها وصف خيالي مغترب لواقع فعلي هو الطبيعة البشرية. لقد عبّر هيغل عن جوهر الإنسان وطبيعته بدقة وعمق كبيرين، ولكن بلغة مغتربة مثالية شبه لاهوتية. إذاً، فإن مهمة فويرباخ هي ترجمة تبصرات هيغل النافذة بصدد الطبيعة البشرية إلى لغة مادية واقعية طبيعية تمكن الإنسان من معرفة نفسه على حقيقتها، ومن ثم تمكنه من تدبّر أموره في عالمه المعقد. إن مهمته تتمثل في قلب عقل هيغل على قدميه وترجمته إلى معرفة بصدد طبيعة الإنسان. ففي كتابه الرئيسي، “جوهر المسيحية”، تصور فويرباخ مهمته الفلسفية على أنها بيان أن التعارض بين الإلهي والإنساني هو تعارض وهمي، وأنه في أساسه تعارض بين الطبيعة الإنسانية بعامة والفرد البشري، ومن ثم أن موضوع الدين المسيحي ومضمونه إنساني بشري في حقيقته. إن المطلوب هو معرفة الإنسان في جوهره، ثم اشتقاق الدين واللاهوت، بما في ذلك دين العقل الفلسفي، من هذه المعرفة. هذا هو المشروع المادي المعرفي الذي وضعه فويرباخ نصب عينيه.

إن أهمية فويرباخ تكمن في أنه اكتشف الإلهي في الإنساني، بمعنى أرجع الإلهي إلى حيث ينتمي، أي إلى الإنساني، واكتشف صورة الإنسان في النظم الدينية، وبخاصة في دين العقل الهيغلي. وأساس هذه الصورة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك فرديته ومحدوديته من جهة، ويدرك طبيعته العامة بوصفه نوعاً من جهة أخرى، في آن واحد، كما إنه يدرك الواحدة في علاقتها بالأخرى. وبهذا الإدراك يتخطى الإنسان محدوديته وحدوده، بعكس الكائنات الأخرى. فهو، بإدراكه طبيعته العامة بصفته نوعاً، يدرك اللانهائي، لأن هذه الطبيعة لانهائية. ويقول فويرباخ في هذا الصدد: “إن الدين ليس ظهور اللانهائي في المحدود، كما اعتقد هيغل. بل، إنه اكتشاف المحدود لطبيعته اللانهائية. إن الذات الإلهية هي أول شكل تكتشف به الروح الإنسانية طبيعتها الجوهرية”.

وقد سخر فويرباخ في عملية تفكيك هيغل والدين وإعادة تركيبهما على أسس مادية طبيعية مفهومات النظام الهيغلي وأساليبه وطرائقه الفكرية، وبصورة خاصة مفهوم الاغتراب لدى هيغل. ويعني الاغتراب بصورة عامة العملية الآتية. تحت ظروف معينة، فإن ما تنتجه الذات يغترب عنها، بمعنى يبدو وكأنه غريب عنها ولا يمت بصلة إليها. إذ تنسى الذات أن الآخر الذي يجابهها هو أصلاً من إنتاجها، وتعتقد أنه كائن مستقل يقع خارجها، بل وفوقها. والأكثر من ذلك أنها تعتقد أنها تابعة إليه، وربما ينبع وجودها منه، فتصبح عبداً لما أنتجته هي في المقام الأول، تنصاع إليه وتطيع تعليماته وقوانينه. إذاك تنقلب العلاقة بين الخالق والمخلوق رأساً على عقب وينشأ وضع مغترب يفقد فيه الإنسان حريته وكرامته. وقد استعمل هيغل هذا المفهوم بهذا المعنى من أجل وصف سيرورة تطور العقل المطلق، أي الكل العقلي المطلق والمغلق الذي يشمل الوجود الفعلي والممكن برمته. واعتبر هيغل عملية التموضع (التجسيد) عملية اغترابية في جوهرها، ولم يربط الاغتراب بشرائط التموضع، حيث إنه لم يعترف بوجود شيء خارج العقل المطلق. ورأى هيغل أن العقل الكلي لا يعرف ذاته إلا بتجسيدها نقيضاً له، وهذا النقيض هو الطبيعة. فالطبيعة وفق هيغل هي العقل الكلي مغتربا عن ذاته. لذا يشعر العقل في هذه المرحلة من تطوره أنه يجابه في الطبيعة آخر غريبا عنه ولا يمت بصلة إليه. بل، إنه يشعر أنه يستمد وجوده وبقاءه من هذا الآخر، الذي خلقه هو نفسه، فتنعكس علاقة الخلق ويغدو الخالق مقيداً ومستعبداً من قبل المخلوق. لكن العقل الكلي يستعيد حريته عبر التاريخ البشري في سلسلة من التطورات والثورات. هذا باختصار هو تصور هيغل لمفهوم الاغتراب.

أما فويرباخ، فقد استعمل مفهوم الاغتراب لتفسير نشوء الدين وطبيعته، بما في ذلك دين العقل الهيغلي. إذ اعتبر فويرباخ الذات الإلهية والعقل المطلق الهيغلي شكلاً مغترباً للطبيعة البشرية اللانهائية الجوهر. فالدين، بأشكاله المتنوعة، هو أول مجابهة معرفية للإنسان مع جوهره وطبيعته. إنه شكل من أشكال الإدراك الذاتي، إدراك الإنسان لذاته الجمعية. لكنه إدراك مغترب. ففي الدين، يسقط الإنسان خصائصه الجوهرية العامة على كائن وهمي فوقه وخارجه، ويتوهم أن هذا الكائن هو الخالق وأن الإنسان هو المخلوق. وهو يلصق بهذا الكائن عقلاً لانهائيا ومشيئة لا حدّ لها وعاطفة جارفة، مع أن ما يلصقه به هو قدرات إنسانية تشكل جوهر الإنسانية. وقد وقع هيغل في المطب ذاته عندما افترض وجود عقل كلي مطلق لا يشكل الإنسان والبشرية سوى لحظة من لحظات تطوره مشروطة به ومرتكزة في وجودها إليه. فالعقل الكلي هو أيضاً إسقاط اغترابي للطبيعة الإنسانية، الكامنة في قلب كل فرد. إنه تجسيد اغترابي للخصائص الجوهرية للإنسان. فبدلاً من اعتبارها مشتقة من جوهر الإنسان، فقد خثرها هيغل على صورة عقل كلي مطلق خارج الإنسان واعتبر الإنسان مشتقاً منها، عاكساً بذلك العلاقة بين الخالق والمخلوق. ورأى فويرباخ أنه قد آن الأوان لإنهاء هذا الاغتراب بصوره كافة وإرجاع هذه الخصائص اللانهائية إلى حيث تنتمي فعلاً، أي إلى الإنسان نفسه بصفتها خصائص وقدرات إنسانية تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. آن أوان رد الاعتبار إلى الإنسان، واعتباره كائنا طبيعياً متميزاً وسيداً على نفسه وعلى الطبيعة. إنها عودة واضحة لا لبس فيها إلى مشروع التنوير في شكله الأصلي الأولي، وكما تمظهر على أيدي بيكون وبرونو ومكيافيلي وهوبز. لقد آن أوان التفات الإنسان إلى ذاته وهمومه الفعلية الناجمة عن كونه كائنا طبيعيا يتحلى بقدرات متميزة. إن القضية الجوهرية ليست وجود العقل الكلي (أو الذات الإلهية) أو عدمه، وإنما هي وجود الإنسان أو عدمه. إنها قضية استرداد الإنسان لكرامته وحريته، وخلق واقع يرتقي فيه الإنسان إلى مكانته الحقيقية. بذلك، وبذلك فقط، ينسجم مشروع العلمنة، الذي ابتدأ مع عصر النهضة الأوروبية (بدء الرأسمالية)، مع ذاته. بالمادية، بالنظرة الإنسانوية الطبيعية، بتخطي قمة العقلانية المثالية (هيغل) إلى رحاب مادية تتسع لتبصرات هيغل، يكتمل هذا المشروع.

ولكن، إلى أي مدى كان فويرباخ مادياً منسجماً مع نفسه؟ إلى أي مدى كان تصوره للإنسان مادياً؟ لقد تصور فويرباخ المجتمع البشري على أنه مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في جوهر واحد يتكرر في كل منهم، ويتمظهر في الملكة العقلية والإرادة وملكة الحب. إلى أي مدى كان هذا التصور ماديا؟ من ثم، إلى أي مدى اكتملت عملية العلمنة في فويرباخ؟ هذا ما سنجيب عنه في مقالات قادمة.