كلمة بصدد السياسة فن الممكن


ارا خاجادور
الحوار المتمدن - العدد: 2473 - 2008 / 11 / 22 - 09:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نلاحظ هذه الأيام إستخداماً عاصفاً لعبارة سليمة هي ـ السياسة فن الممكن ـ التي إستخدمها قادة القوى الإشتراكية العالمية في مطلع القرن الماضي، وترددت أصداؤها في أوساط حركة التحرر الوطني تارة لعرض صورة الحال وأخرى للتبرير الإنتهازي أيضاً، وقبل هذا وذاك جاءت هذه الحكمة في الأقوال الشعبية، وفي الكتب السماوية؛ بالنص المباشر أو في بالمعنى العام. نريد الآن التوقف عند حالة معينة من الإستخدام الواسع حالياً لهذه الحكمة الصائبة، والتي لا إعتراض عليها وفق إعتقادنا، نتوقف عند ما نراه يمثل محاولة لتحويل الحكمة الى إبتذال، أو إستخدام كلمة الحق لخدمة الباطل، أو وضع الشيء في غير موضعه المناسب.

إن المناسبة التي إنبرت فيها أقلام السوء هي مناسبة توقيع الحكومة التي نصبها الإحتلال على المعاهدة الأمريكية ـ العراقية، وإحالتها الى "البرلمان" ليبصم عليها، أو لا يبصم حسب مخطط الألاعيب الغبية لآخر نفس في إدارة العدوان، وهي أي المعاهدة مجرد طبعة جديدة لمعاهدة بورتسموث الإسترقاقية، أو صورة ثانية مشوهة لها، وهي طبعاً أكثر بغياً وظلاماً، وهي في ذات الوقت أغلى ثمناً للشعبين العراقي والأمريكي معاً، ولا أستثني طبعاً شعوب المنطقة والعالم أجمع من دفع الأثمان المادية والمعنوية من جراء مقدمات هذا الهدف العدواني الطامع، هذا فضلاً عن خطرها على الإستقرار الدولي ومصالح الشعوب.

وقد يسأل من هو ليس على معرفة بموقفنا من القضايا الوطنية عن موقفنا من المعاهدة البائسة نفسها، نقول: إن موقفنا من الإحتلال العدوني واضح وضوح الشمس في ربيع العراق، وهو بإيجاز: إننا لم نرفض الإحتلال ونقاومه فقط، وإنما رفضنا ونرفض كل ما أنتجه من قرارات وقوانين وتشريعات ودستور وإنتخابات ومجالس نواب وحكومات وأية إتفاقيات ومعاهدات، ولن نقبل بأية معاهدة أو إتفاقية ما لم تكن مع ممثلي الشعب الحقيقيين، وقلنا للغزاة من اليوم الأول للإحتلال الغاشم إن العار سوف يلحق بكم، وعندما طُرح التفاوض أو غيره قلنا، توجد نقطة واحدة للمفاوضات هي الإنسحاب من أرضنا.

ونعود الى إنتهازية "فن الممكن" المطروحة من جانب خدم الإحتلال وكتابه ومرتزقته وأحزابه ومنظمات مجتمعه المدني وكل أصناف الرذيلة المتبقية، التي ترى "فن الممكن" بأربعة ملايين مشرد، وأكثر من مليون أرملة، وفي إغراق السجون بالضحايا، وتعذيب النساء والأطفال والإغتصاب والجريمة المنظمة وسرقة المال العام وتغذية كل عناصر التخلف من كل أنواع التعصبات القومية والمذهبية والدينية الى كراهية وإحتقار الوطنية العراقية، وسلب حقوق الناس ولا نقول حقوق الكادحين والفقراء من عمال وفلاحين ومشردي المدن صغيرها وكبيرها فقط، ومن زاخو والى الفاو.

لماذا نقول هنا إن فن ممكنهم إكذوبة بصدد المعاهدة الحالية، نقول ذلك لأن هذه المعاهد تأتي وتُصنع بين عناصر طرف واحد، هو الإحتلال وعملاؤه والمتواطؤن معه، وليس بين طرفين. إن كل معاهد توقع بين المحتل أي محتل والحكومة التي يخلقها بذراعه العسكري معاهدة باطلة من حكومة باطلة، ولا يمكن لشعب العراق أن يحترم أو يثق أو يبارك معاهدة لا توقع مع الأطراف التي دافعت عن السيادة الوطنية للشعب العراقي من مواطنين نظيفي اليد والضمير والتاريخ والعطاء والعمل والأخلاق، إن معاهدة اليوم تُمثل إتفاق مصالح غير مشرف بين الإحتلال والمتواطئين معه، ومع من تدفعهم إيران لمصالح آنية ضيقة وغير مجدية لإرتكاب هذه الخيانة السافرة والقبيحة.

إتضح اليوم الخيط الأبيض من الأسود، وفشلت كل أو على الأقل معظم مخططات إلحاق المقاومة الباسلة لشعبنا بكل أنواعها بالإرهاب الذي لا يخدم إلاّ الإحتلال نفسه وخدمه أيضاً، إن المعاهدة الحالية التي يصفون الإقدام عليها بالفن الممكن في السياسة، هي في الواقع تمثل حركة بائسة للغاية لمد عمر الإحتلال. أن المقاومة الوطنية هي التي أرغمت الإحتلال على تقديم كل التنازلات التي أرد المحتل من خلالها إيهام الشعب العراقي، ولكن المقاومة مستمرة حتى الظفر الأخير، وقد وصلت تراجعات المحتل حد الإعلان عن جدول للإنسحاب، ولكن الشعب لن يقبل بأقل من إنسحابه مع بضاعته الفاسدة ـ العملاء الذين إستجلبهم معة ـ إسوة بآلياته وبقية تجهيراته المادية والمعنوية. نعم هنالك حالات عديدة لتوقيع الإتفاقيات والمعاهدات بين الدول، وتكون هذه الدول إما دول ذات سيادة كاملة، ومعترف بها أولاً من قبل شعوبها، ومن قبل المجموعة الدولية، أو أن المعاهدات توقع مع المقاومة التي أجبرت المحتل على الإنسحاب.

ويلاحظ المتابعون لحركة المقاومة الشعبية في العراق تصاعد تلك المقاومة وإتساعها نوعاً وكماً لتشمل الوطن كله، وتنبسط من أعلى أشكالها؛ المقاومة بالسلاح الي تنامي المقاومة العمالية من أجل السيادة والحقوق، وهنا نشدد دعوتنا للعمال للتحالف من فئات الشعب الأخرى الأقرب وبصفة خاصة الطلاب والمثقفين، ولنا في تاريخنا الحديث خير ملهم، وعلى المثقفين تحديداً والأحزاب الوطنية حقاً أن تشدد نضالها مع العمال، وتساعد في إيصال صوتهم الى العالم لأنه من المؤلم حقاً أن تكون مبادرات التضامن مقتصرة على حركات العمال التقدمية الأجنبية.

ينبغي التمييز بين من وافق بريمر على إقتصاد السوق الرأسمالي، ووقع وتعاقد معه وهو يدعي الإشتراكية، أو من ظل ينبح ضد الشيطان الأكبر ثم مارس خدمة هذا الشيطان طواعية وبحماسة قلّ نظيرها وبين ذلك الجندي العراقي الذي إستخدم سلاحة للدفاع عن كرامة سيدة عراقية، وذلك الجندي الذي فعل ذات الشيء دفاعاً عن كرامة الشخصية، وهذه صورة خلاقة لفن الممكن، أقول لقوى الثورة العراقية علينا إستخدام فن الممكن بموضوعية وشرف ومسؤولية وتقدير كل حالة بحدود واقعها، كما تحرص الأم على أبنائها، إن دماء العراقيين غالية، إنها دماء شعب ينفرد به وحش كاسر ومطلق الذراع إلاّ من يد الرفض العراقية التي تقاوم وقلوب أشقائه وشرفاء العالم، لنقلص دائرة أعداء الشعب والسيادة الوطنية الى أضيق دائرة ممكنة، وبأعلى درجات التسامح والموضوعية، وتمثل ظروف الآخر بروح إنسانية، ولكنها في الوقت ذاته حذرة ووثابة.

إن فن الممكن الذي تطرحونه يا خدم الإحتلال هو غربال أعجز من أن يغطي أهدافه الحقيقية، وجاء لإهداف لا تنطلي على من يعرف مصالح شعبه، وهذه ربما آخر بضاعة في جعبتكم لتسويق أنفسكم لأسيادكم البعيدين والقريبين، واعلموا أنكم بدعوتكم الى فن الممكن لن تستطيعوا تسويق المعاهدة وإنما كشفتم حالتكم الهلعة، وعرفنا الكثير من أسرار مآزقكم. إن فن الممكن هو المقاومة وإنتزاع التنازلات، وعدم التنازل عن السيادة الكاملة.

ومن منطلق فن الممكن في السياسة ايضاً فأن القوى الوطنية في الوقت الراهن غير معذورة عن أي مظهر للتفرد أو الإنعزال أو تكليف الأنفس بما ليس في وسعها أو التطرف، أو التعويل على التحالفات خارج صفوف الشعب، أو التوهم بالمساومات غير المنتزعة بإرادة قوى الشعب العراقي، أو التقاعس أزاء توفير مستلزمات وحدة الشعب وفتح الأمل الواقعي والصادق أمامه.