الفعل الثوري بين العفوية والتدبير


ارا خاجادور
الحوار المتمدن - العدد: 5079 - 2016 / 2 / 19 - 16:09
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إن إحتلال العراق و"العملية السياسية" التي تمخضت عنه فيما بعد قد أوصلا البلاد الى حالة من الفشل الثقيل والجريمة المروعة والتدمير واللصوصية وإنغلاق الأفق، وفرضا وخلقا حالات من الخداع والإبتزاز قلَّ وجودُ نظيرٍ لها. وفي هذا الوضع البائس لم يعد من السهل حتى على بعض المشاركين النشطاء في تلك الجرائم إخفاءها أو حتى التخفيف من صدمة وقعها الشائن وإفرازاتها المؤلمة على الشعب العراقي وعلى نسيجه الإجتماعي ونظامه القيمي العام المتوارث ووجهه الإنساني.

لقد تواصل الإستبداد وتعمقت الوحشية تحت لافتات مهلهة من "ديمقراطية" صنعها الإحتلال، وواصل بيعها دعاة التطرف والطائفية السياسية والإنتهازيون وكل كارهي للعراق وأهله. واليوم إستكملت العملية السياسية ما بدأته جريمة الحصار الإقتصادي التي فُرضت على الشعب العراقي، وتكاملت حلقات تدمير العراق عبر إنعكاسات وتأثيرات الحصار الإقتصادي والغزو والإستبداد المديد المكشوف منه والمقنع بما شلَّ حياة البلاد الإجتماعية والإقتصادية وزعزع أمن وكرامة المواطن ونفسيته.

في أجواء المحن الكبرى الراهنة التي تغطي بلادنا من أقصاها الى أقصاها ينبغي على كل وطني جدي أن يضع نفسه أمام واجب النظر في معالجة الوضع القائم، عليه أن يبحث عن الحلول لوقف شلالات الدم المسفوح مجاناً، وإنتشار مظاهر الكراهية والتسلكات الوحشية المروعة، وسرقة الممتلكات العامة، وغياب الثقة والأمن، وترسخ واقع ونفوذ الإحتلال المزدوج للعراق ومحاولات إعادة هيكلة الإحتلال بوجهه العسكري.

لم يحدثنا التاريخ أن كادحي أي شعب قد حصلوا على حقوقهم بمناشدة حكومة عميلة وفاشلة وطائفية أو أي قوة محتلة. إن السؤال الذي يستحوذ على عقول قطاعات واسعة من الشعب اليوم يدور حول ماذا يخطط الأمريكان لبلادنا؟ ولحد ما دول الإقليم. وهذا السؤال بحد ذاته يعكس حالة عميقة من غياب الثقة بالقوى السياسية القائمة، ويعكس أن واشنطن ظلت المحرك الرئيس للأزمات في بلادنا بقواها الذاتية ومن خلال مَنْ يتملقها محلياً وإقليمياً ودولياً.

إن التظاهرات التي تنطلق في العديد من المدن العراقية وفي العاصمة بغداد تعكس غضب الناس من الأوضاع الفاسدة القائمة في كل جوانب حياة المجتمع. وقد قلنا بصددها منذ البداية إنها حققت منجزاً أساسياً، سواء كان مقصوداً أو نتيجة عرضية لها، تمثل ذلك في التأكيد لكل الذين توهموا بأن تعميق الطائفية السياسية والمذهبية والعرقية سوف يُطمس الصراع الإجتماعي، ويوقف كفاح الناس من أجل حقوقهم العادلة في الحرية والأمن والمساواة والعيش الكريم، وقبل ذلك أشرنا الى ما حققته الطبقة العاملة أو ما تبقى منها خاصة عمال النفط في نضالهم المطلبي العادل.

في الأحوال الطبيعية تُمثل التظاهرات تمريناً ثورياً لمناضلي الشعب، ولكن ذلك التمرين لكي يؤدي الغرض المطلوب منه يستدعي وجود أحزاب راسخة جذورها بين صفوف أبناء الشعب، ولا تتمتع بأي إمتيازات سلطوي تخشى عليها، ووجود طليعة ثورية قادرة على دحر منافقات ومجاملات وجرائم الأحزاب المهيمنة الفاسدة.

ومن جانب آخر فإن الصفة العفوية للتظاهرات الحالية تعكس ضعف وفشل القوى السياسية التي تتصدر الواجهة في مواقعها المختلفة. وما يُثير القلق كثرة المدّعين بأنهم قادة ذلك الفعل الذي يمكن أن يتحول بإتجاهات إيجابية أو سلبية وهو في مراحله الأولية، وفي الوقت نفسه فإن إستمرار عقد الآمال على حكومة طائفية بإمتياز يعكس حسن الظن أو الغفلة السياسية، والأفعال الجماهيرية العفوية إن لم يجري تطويرها في حالة وجود قيادة جدية قادرة على إدارة وقيادة وإجتراح الأفعال ثورية، ولا تميل الى الإستعراض، أو تترك الأهداف غائمة وبدون مشروع إجتماعي سياسي واضح الأهداف قد تتحول ضد ما كانت الجماهير تتوخاه وتتطلع إليه.

ذكرنا في مقالنا السابق حول حركة الأنصار، بأن العمل الثوري لا ينتهي، وإنما يأخذ أشكالاً تناسب الإمكانيات والحالة الموضوعية الملموسة، ولكن في كل الأحوال ينبغي الإستعداد لحالات الإستفزاز أو إستعمال القوة من الجانب الحكومي أو الأطر السياسية المسلحة غير الحكومية التي تدور في فلكه، حيث ستكون الخسارة مفجعة إن لم يُستعد مسبقاً لرد التحدي بالتحدي. وينبغي أن يكون لدى قيادات التظاهرات القرار والعزم على رفع مستوى مطاليب الجماهير بحقوقها، وإلا فالنتيجة معروفة سلفاً، أي ستؤدي الى تعميق حالة الإستكانة والإكتفاء بالتأفف.

تقول كل التجارب السابقة إن التظاهرات إن لم تتقدم حتى ولو بخطوات بسيطة الى أمام فإنها قد تؤدي الى نتائج عكسية تستفيد منها القوى المهيمنة على السلطة، وتستخدمها من أجل خلق حالة من تنفيس الأزمات الملتهبة ليس إلا، وتجعلها مطية لمواصلة مشروعها التدميري من خلال إمتصاص غضب الناس وتصريفه بإتجاهات مختلفة.

إن القلق المشروع على آفاق التظاهرات لا يقف حائلاً دون العمل والأمل، وعلى كل الذين يعلنون قيادتهم للتململ الجماهيري الحالي أن يحققوا خطوة نحو وحدة القوى التي مازالت الوطنية العراقية تنبض في عروقهم، لأنها السلاح الأمضى في الظروف القائمة.

وبغض النظر عن تقويم الحالة الراهنة، وما يحيط بها من مخاوف عليها وعلى ما قد يستثمره آخرون يتربصون بها وبالعفوية النبيلة للجماهير، فمن الواجب الشد على أيادي كل الوطنيين الذين خرجوا للتظاهر مستندين على فطرتهم الثورية العراقية الأصيلة، وهم يأملون في تطوير التظاهرات الى مراحل أعلى بإتجاه المصالح العادلة العليا للشعب العراقي وسلامته وإستقراره ورفاهيته.