كلام عن الجيش في العمليات الثورية الراهنة


ارا خاجادور
الحوار المتمدن - العدد: 3627 - 2012 / 2 / 3 - 18:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كان العام المنصرم عام البلاد العربية بإمتياز، حيث النهوض الثوري الواسع من أجل الحرية والكرامة والخبز، ومنطقي أن يُثير فعل بهذه الخطورة والأهمية والسعة وجهات نظر متضاربة: مؤيدة ومعادية، واثقة ومتشككة، متحمسة وخاملة، هذا الى جانب كل المتناقضات الأخرى المعروفة. نقبل كل وجهات النظر بإحترام كوجهات نظر من حقها التعبير عن الذات وحسب، وربما تُشكل تلك الآراء محاولات على طريق الإغناء وتعميق المضمون، ولكن في كل الأحوال نعتقد بإن محاولات تسفيه الشعوب من خلال الإدعاء بأن الدوائر الغربية هي المحرك للأعمال الثورية الراهنة في البلاد العربية فهذا ما لا يُمكن القبول به، لأن مثل ذلك القول هو نوع من الإجحاف المفرط.

إن العوامل الداخلية هي المحرك الأساسي في الإحتجاجات الجماهيرية الراهنة، وهذا القول لا ينطوي على أي تجاهل للعوامل الخارجية، الإقليمية منها والدولية. إن ما يحصل اليوم وما حصل بالأمس القريب يؤكد حقيقة أن الجماهير هي التي بادرت الى تحريك الوضع الثوري وبطريقة تختلف عن الإنقلابات العسكرية التي تمس تغييراتها ونتائجها القشرة العليا في السلطة وحسب، ويجري التبديل بعد البيان الأول فوراً، وقد يتبع الإنقلاب العسكري تقدم أو تراجع إجتماعي بقدر معين. إن الذي يحصل اليوم ثورة شعبية متواصلة تفرض تصوراتها تباعاً، ويسودها منطق وتأثير موازين القوى المحلية والدولية معاً.

لا يبدو دور الأحزاب، اليسارية منها والقومية، التي وصلت الى السلطة سابقاً أو لم تصل، فاعلاً وأساسياً، حيث فشلت في توطين برامجها، ناهيك عن شأن تطبيقها، وأضاعت الكثير من الفرص، أو تعوقت عن الفعل في إنتظار الفرص السانحة، ولا نستثني حالات سيادة الإحساس بالتعب والجهل بحقيقة أن الشعوب لا تنتظر الأحزاب خاصة حين يتجاوز الظلم حدود الإحتمال.
هيمنت الأحزاب الإسلامية على نتائج الأوضاع القائمة في عدد من الدول العربية المهمة تحت تأثير عوامل لا حصر لها، منها: أنهم كانوا هدفاً رئيسياً ومباشراً لقمع الأنظمة القمعية السابقة، خاصة في البلدان التي إنتصر فيها الحراك الجماهيري الواسع. وبديهي أن التعرض للظلم تحت ظل ظروف غير متكافئة يرفع ذهن أوساط واسعة من الجماهير الكادحة الى طلب الرجاء من السماء، وعلى الأخص حين تغيب إمكانات الأرض. لا ضير من تسجيل حقيقة تفيد بأن الإسلاميين إنبثوا وسط الجماهير الكادحة حين غاب عنها بعض الوطنيين والتقدميين الذين إستطابوا النوم بين الأحلام والكتب في أحسن الأحوال، وفى بعض الحالات بين متع الإمتيازات الواطئة عبر مساومات مذلة وأكثر من ذلك في أسوء الأحوال. وربما كان الإسلاميون أسرع منا في تبني شعاراتنا في النضال المطلبي الجماهيري، وزادوا عليها في تقديم الخدمات المباشرة للناس من خلال جمعياتهم الخيرية وغيرها، وهنا لا نتجاهل الأبواب المفتوحة أمامهم على هذا الصعيد، وربما ساعد الإسلاميين أن الذاكرة الجمعية لمعظم العرب ترى في الماضي السحقيق ما هو أفضل ألف مرة من الحاضر. كما أن الإسلاميين نجحوا في تبني المشرق من الماضي وغاب اليسار عن ميدان قراءة المشرق من ذلك الماضي الى جانب ضعف الصلة بالهموم والمتطلبات اليومية للناس.
لا خشية، على الأقل من المنظور التاريخي، من الدور الضعيف في إداء القوى الوطنية واليسارية الآن، ولا من هيمنت الأحزاب الإسلامية إذا أدرك الوطنيون التقدميون واليساريون الآن وليس بعد فوات الأوان مهمات المستقبل، على الأقل بصدد المسألة الرئيسية، حيث سيكون ميدان الصراع الإجتماعي متركزاً على الحريات العامة نفسها، وعلى عمق ومضمون الإصلاحات الإجتماعية. وربما المنتصر اليوم ليس لديه في المستقبل، وحتى القريب منه، ما يستجيب لحاجات المجتمع.
وعلى طريق الحق في إبداء وجهات النظر في الكل أو الجزء أو الأجزاء الأكثر تفصيلاً من الأفعال الثورية الراهنة لاحظنا أن قضية القوات المسلحة أو الجيش بصفة خاصة قد طُرحت بقوة، ولكن الجزء الأكبر من الطروحات كان ينم عن عاطفة طيبة بقدر ما، مثل القول بأن هذا الجيش وطني، وذاك يملك تاريخاً طويلاً في الوقوف الى جانب الشعب... الخ.

بهذا الصدد نقول لا يوجد جيش في عالم اليوم أو بالأمس القريب أو البعيد منه إلا وهو جزء من النظام الإجتماعي القائم، وهو أحد أدوات القمع الرئيسية بيد النظام المعني بغض النظر عن طبيعة ذلك النظام. تقول الأنظمة كافة بأن الجيش هو جهاز لحماية البلاد من أي عدوان خارجي، وهو في الواقع الغالب ينحصر دوره في حماية النظام، وإنه جزء أساسي منه. هذه حقيقة راسخة فحتى الحروب مع الدول الأخرى هي في الغالب تكون أحد وسائل حفظ النظام نفسه، نستثني من هذا التقدير حالات الرد على عدوان خارجي يهدف الإحتلال.

إن المبالغة في الثقة بالجيوش هي مجرد حالة من حالات حسن الظن والنية الطيبة، وقد يتم الوصول إليها بسبب حالة من سوء التقدير أو إنعدام الحيلة أو لأهداف أخرى. إن المبالغة على هذا الصعيد هي حالة لا تقل خطراً عن عدم قيام القوى الثورية بخلق تنظيمات لها داخل الجيش والقوات المسلحة بصفة عامة. وهذا التنظيم قد أكدنا عليه غير مرة بأن لا يأخذ شكل التنظيمات الإعتيادية كإتحاد الطلبة أو النقابات العمالية أو الجمعيات الفلاحية أو التنظيمات الإدارية على سبيل المثال.

لما كان موضوعنا الحالى عن القوات المسلحة نقول الى جانب كل ما تقدم، هنالك زاوية نظر واقعية أخرى تفيد بأن أفراد الجيوش؛ أفراداً وقادة هم من أبناء الشعب، وهم على صلات متنوعة بمجتمعاتهم، ومهما يكون الضبط العسكري شديداً لا يستطيع تحقيق العزل الكامل للعسكريين عن أهاليهم، وإن أعداداً من أفراد القوات المسلحة يتأثرون بأصدقائهم وذويهم، وإن الجسم الأعظم من القوات المسلحة يعاني من الفقر والإحساس بالإضطهاد العام والفردي، والمهم أن هذا الكيان شديد التأثير بمجرى التطورات السياسية والعسكرية، وهذه الوشائج يجب على القوى الثورية أن تستثمرها بجدارة، حيث لا يُمكن للتنظيم الثوري أن يكون بدون تنظيم في صفوف القوات المسلحة، إن تنظيم العسكريين في تنظيمات تؤمن بحق الشعب في الحرية والكرامة والعيش الإنساني يدعو الى المزيد من تنظيم أفراد الجيش، وفي ذلك حماية للثورة، وتقليل لدم المسفوك، وتعجيل في الظفر.

لاشك في أن هنالك فوارق جوهرية بين التخطيط لعمل حاسم ضد أي نظام عبر الجيش بدعم وتخطيط من قيادة الحركة الثورية في المجتمع، وبين أن تنطلق الجماهير في فعل ثوري ثم يستدعى الجيش من قبل النظام أو تحت ضغط التطورات. وهذه قضية واسعة للغاية، وهنالك عشرات النماذج المختلفة، مثل قيام الجيش بالضربة الرئيسية في ثورة الشعب، أو إنطلاق الجماهير ثم إلتحاق الجيش بالثورة في وقت لاحق ... الخ.

شهدنا في الثورات العربية ردود فعل مختلفة للجيوش والقوات المسلحة بصفة عامة. بديهي أن قوات الشرطة ووزارت الداخلية تختلف عن الجيش في الأقل بالعنوان الرئيسي والدور اليومي ونوعية التدريب ونوعية التسليح وما يترتب على ذلك في التصرف الفعلي.

في تونس لم يتدخل الجيش في الثورة بل أكد حمايتها وتأمين الأمن العام، ولم يقترب من السلطة لاحقاً، ويعود ذلك الى جملة أسباب منها أن مؤسسات المجتمع المدني أكثر عمقاً في المجتمع التونسي خاصة المنظمات الإجتماعية والنقابات، وإن سلوك بن على كان مختلف عن بقية الدكتاتوريين من الحكام العرب، حيث همش بن علي دور الجيش لصالح مؤسسات القمع الأخرى مثل الشرطة والأمن.

في مصر الوضع مختلف بعض الشيء حيث يوجد تاريخ عريق للجيش في التدخل بالحياة السياسية بل قيادة تلك الحياة لعقود طويلة، وإن نظام مبارك سعى الى زج الجيش في ضرب الثورة بعد أن أدرك ضعف إمكانات وزارة الداخلية في إجهاض الثورة، وما زال دور الجيش المصري غامضاً بعض الشيء، وهو يتراوح بين نزوة أخذ السلطة أو جزء أساسي منها، وبين التأكيد على إعادتها الى الشعب. وهذه نقطة تحسمها مسألة ميزان القوى خلال الأشهر القادمة. ولا بد من التأكيد في هذا المقام أن العملية الثورية في مصر والبلاد العربية الأخرى مستمرة ومتواصلة، وتشهد عمليات تبادل تأثير واسعة، وهي تهم بشكل عضوي المصالح الحيوية للشعب المصري وللعرب وللقوى الكبرى العالمية ذات النفوذ التي لا يُمكن تجاهل تأثيرها على أي حال.

من حق القوى الثورية أن تحذر من جميع أشكال المناورات السياسية الصادرة من قيادة الجيش أو من القوى الإجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية الأخرى. ومما يشدد الحذر بصدد بعض النقاط التي تبدو غامضة في موقف الجيش المصري، أن نظام مبارك حاول تخريب المؤسسة العسكرية من خلال زج كبار القادة في الأعمال التجارية العسكرية وحتى المدنية في الداخل ومع الخارج، وربط أهم القيادات العسكرية بأشكال غير حذرة أو مقصودة مع المؤسسات العسكرية الغربية، ولا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي اليمن إنقسم الجيش الى قسمين، واحد مع النظام، وآخر مع الشعب تحت وطأة شبكة من العوامل الإجتماعية والتاريخية وحتى الشخصية، ربما هذا الإنقسام حمى الثورة من الضربات القاهرة جداً حد السحق الدموي، ذلك السحق الذي ربما بات متعذراً ولكن ليس بصورة حاسمة أو مطلقة في ظل تطور وسائل الإتصال، وتعمق الوعي التضامن لدى جميع شعوب العالم، حيث من الصعب جداً إحتمال إقامة مجازر على غرار إنقلاب سوهارتو في إندونيسيا، أو إنقلاب شباط 1963 في العراق، أو إنقلاب بينوشيت في تشيلي، ولكن في كل الأحوال لا يُمكن إسقاط المخاطر المحتملة. ومن المعلوم أن شعب اليمن حافظ على الطابع السلمي لثورته على الرغم من إستفزازات نظام علي عبد الله صالح، ومن المعلوم أن شعب لا يعوزه السلاح كما يعرف الجميع.

وعلى الرغم من المكانة التي يحظى بها الفكر والسلوك والقيم العشائرية في اليمن، فإن اليمن تحتضن خزيناً من الفكر التحرري أيضاً، يوجد في اليمن فكر يساري ثوري ضارب الجذور في عدن وتعز والحديدة وصنعاء وكل المحافظات والمناطق الأخرى. وفي نهاية المطاف سوف تؤدي المساومات الى نتيجة غير حاسمة ولكنها لصالح الثورة قطعاً.

لا أحد يُعلم الثورات، ولكن قد يكون من المفيد الإشارة الى بعض التطبيقات العملية، حيث ظل الثوار في اليمن يهددون بالتوجه الى القصر الجمهوري دون تحقيق ذلك على أرض الواقع حتى الساعة، ولكن لو كان هنالك تنظيم سابق داخل الجيش لكان أكثر فائدة، حيث يكون التوجه الى القصر فعلياً، ومن ثم يأتي دور التنظيم العسكري للثورة بتوجه الضربة الحاسمة لرأس النظام وقواه الأساسية سلماً أو بسلاح، ولا نظن أن عامل الوقت قليل الأهمية على الأقل في إطار الإقتصاد بالتضحيات التي يُمكن تجنبها.

وكان لدينا نموذج آخر في ليبيا فقد نجح النظام في دفع الثوار الى السلاح، وهو بذلك سعى الى تدمير بريق وإرادة الثورة وتضيق الخيارات عليها، إن اللجوء الى السلاح قبل كسر معادلة التفوق الحكومي يحمل الكثير من المخاطر على الثورة نفسها وعلى المستقبل. ولكن في كل الأحول ما أن يُعلن الشعب تمرده على النظام يفقد النظام مبررات وجوده أصلاً قبل حسم المعركة بقوة السلاح أو بقوة الإحتجاج. وقد يكون اللجوء الى السلاح آخر محاولات الطغاة لفتح أبواب البلاد أمام التدخلات الخارجية، ذلك التدخل إذا ما وقع فإنه يكون في أحسن الأحول نوعاً من النفاق السياسي تحت تأثير عوامل ضاغطة داخل دول التدخل نفسها وداخل البلد المستهدف. وفي هذا المقام نؤكد على مسألتين أساسيتين: الأولى؛ أن الطغاة هم جسر الطامعين الأجانب للتدخل. والنقطة الثانية؛ هي الدعوة للعمل على إعتماد كل وسائل النضال المشروعة من أبسطها الى أعلاها ودون عبادة وسيلة واحدة دون غيرها، والعمل على جعل وسائل الكفاح تتكامل مع بعضها البعض.

وفي سوريا صمدت التحركات الجماهيرية قرابة عام شبه سلمية، ولكن النظام زج القوات المسلحة منذ اللحظة الأولى، وإستدعى الى جانب ذلك التلويح بشبح الفتنة والتقسيم، وهي لغة معلومة تُعلن عن نفسها أكثر من مساعي التستر عما يكمن خلفها. وقد تواصل القتل على أمل تحقيق حالة من الظفر بجزء من الشعب إذا إستحالة إمكانية نيل رضا غالبية الشعب، وهذا الأمر من أخطر الأسلحة بيد الحاكمين المستبدين بحياة وكرامة وأرزاق الناس، ولكنه سلاح يقضي على الحاكم قبل المحكوم.

إن عنف الدكتاتوريات هو الذي يدفع موضوعياً القوى الثورية الى ممارسة العنف المضاد دفاعاً عن النفس والعائلة والكرامة وعن الحياة نفسها، وهذا الرد الإضطراري على العنف الرجعي الحكومي ليس إختراعاً عربياً.
إن زج الجيش للإصطدام بالمدنيين السلميين الهائجين يحمل في طياته عوامل كثيرة ضد أي نظام يضطر الى مثل هذا المنهج المحفوف بالمخاطر، فالجيوش في الغالب تتصرف كقوة إحتلال غاشمة حتى لو كانت معاركها داخل أوطانها وضد شعبها، وهذا ما أكدته تجارب لا حصر لها في الماضي والحاضر.

ومن المعلوم أن التلويح أو التخويف من وقوع الفتنة هي في الغالب تلعب دور صافرة إنطلاق تلك الهواجس المتعمدة أو غير المتعمدة للفتنة الحقيقية، خاصة عند إطلاق وصف المناطق الساخنة على مناطق ذات لون معين من التركيبة الإجتماعية. إن من يريد أن يحعل التخويف من الفتنة درعاً له في مواجهته مع الشعب أو حتى مواجهة جزء منه، يتحول ذلك الدرع بسرعة الى سيف يقطع يد الحاكم على العكس مما توهم أنه أحد مصادر قوته.

قد لا يطول الزمن حتى تنكشف حجج الحكام، وتبدأ عمليات التفسخ في مفاصل الجيش نفسه، وذلك يتمثل في البدء بالرماية بعيداً عن الأهداف، أو التهرب من الخدمة العسكرية، والتمرد الجزئي، ومن ثمة بدء الهجوم المضاد من خلال الإلتحاق بالثورة بعد أن تتحول الإحتجاجات الى عملية ثورية متواصلة وليس مجرد هبة مؤقتة.

نعم الطائفية أمضى سلاح بيد الطغاة المحليين والغزاة الغرباء على حد السواء، هذا خاصة في الحالات التي يُمكن أن نطلق عليها صفة "التعادلية الطائفية"، وربما خير دليل على ذلك ما إنتهت أو وصلت إلية عمليات الحراك الإجتماعي المشروع في البحرين/ ساحة اللؤلوة والعراق/ ساحة التحرير. ومن أبرز عوامل إنتعاش الطائفية هي الحالة التي تشهد فيها البلاد تراجعاً للقوى الثورية والوطنية، ومن المعلوم أنه حين تضعف الوطنية يتم اللجوء لحماية الذات غير الواعية بعمق عبر تكوينات ما قبل الوطنية: العشيرة، الطائفة، المدينة ... الخ. وعند فقدان الأمل في الأرض يتم اللجوء الى السماء كما أسلفنا. وهذه الحالة الأخيرة، أي اللجوء الى السماء والى سلاح الطائفية ونظيراتها، لا علاقة لها بالحالات الطبيعية للمعتقدات الدينية أو المذهبية في إطارها المعتقدي.

وبصدد الإستعانة بالأجنبي القوي فقد حرّمنا ونحرّم اليوم اللجوء الى هذه الحالة لأنها تنطوي على مخاطر جمة، وتدل على عدم هضم تجارب التاريخ.

ما تقدم أي "التحريم" هو المبدأ العام، ولكن حتى في مثل هذه الحالة هنالك فواق جوهرية بين من يأتي على ظهر دبابة أجنبية كصنيعة ضعيفة لا حول لها ولا قوة سوى قوة المحتل الذي سوف يأهل خدمه على قيادة شؤون بلد ما، وبين شعب يثور ويحصل خلال ثورته على دعم ما في لحظة معينة، يُكون الداعم فيها بحاجة ماسة لتبيض صفحاته أمام شعبه أولاً، أو لتبرير فواصل وفصول من سلوكه الإجرامي في الغالب، ومن أجل الظهور بمظهر الإنساني الداعم للشعوب، أو من أجل الحفاظ على تماسك جبهته الداخلية وتحالفه الدولي وما الى ذلك من الأسباب والعوامل الكثيرة التي لا يتسع المقام هنا لعرضها، ولكن نقول على سبيل المثال فقط بأن حلف شمال الأطلسي "الناتو" منذ إنهيار حلف وارشو يبحث عن مبررات حتى ولو كانت واهية ليؤكد من خلالها مشروعية بقائه أمام شعوب الدول الأعضاء فيه.

وداخلياً فإن الإعتماد على طائفة دون كل الشعب أو الإعتماد على عائلة أو قرية أو منطقة حالة تمثل تجسيداً حياً لقصر النظر ولإنعدم الشرف الوطني والفكري. قد يُمكن الإعتماد على صلة الدم في بعض المهمات المحدود جداً مثل الحماية الفردية وليس لقيادة دولة، فمثل هذا الإعتماد المحدود قد يكون أمراً مشروعاً لحد ما أو قابلاً للنقاش.

في تجاربنا العراقية غير البعيدة أثبتت تلك التجارب بأنه حتى الصلات العائلية لا تقف حاجزاً أمام الإنحياز للشعب حين توجد قوى حقيقية تعبر عن الشعب كله بحق. لقد إنحاز حتى أبناء الوزراء والحكام العراقيين السابقين الى الشعب، وليس الى آبائهم أو أقربائهم في حالات كانت هي الغالبة في فترات الصعود الوطني والثوري، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن رئيس الوزراء السابق أرشد العمري الذي قمعت حكومته إضراب عمال كاورباغي في تموز 1946 في كركوك، ومن المعلوم أهمية تلك المناسبة النضالية وأهمية كركوك التي هي عراق مصغر بكل ما في العراق، فإن ولدي هذا الرجل رئيس وزراء العراق (عصام وعماد) قد شاركا مع أبناء الشعب الأحرار في وثبة كانون الثاني 1948 المجيدة. وجُرح الإثنان معاً، وبقيّ لهما اليوم الذكر الطيب كمناضلين من أبناء الشعب العراقي الواحد. لقد خاب وسوف يخيب كل من لجأ ويلجأ الى مكونات وإنتماءات تعبر عن حالة ما قبل الدولة الوطنية وروح المواطنة والسعي لدولة المواطنه الحقة.

ما يحصل حالياً في البلاد العربية من حراك إجتماعي واسع يُشكل ظاهرة جديدة على الإطلاق، على الأقل في التاريخ الحديث للمنطقة، ويأخذ صفة العملية الإجتماعية الثورية المتواصلة، ويتسم بالشجاعة النادرة وطول النفس الثوري. قد لا توجد لدى الشعب قيادة متمرسة أو تنظيم محكم وباسل ونظيف، وهذا بحد ذاته شيء جديد، ربما لا يُشكل نقيصة كبرى، وقد يُشكل إضافة غنية للتجارب الثورية الكبرى المعروفة، خاصة إذا أمكن للشعب أن يقود نفسه بنفسه، ويكسر جدار المهانة والذل والعوز والخوف، وإن يكون الحراك فعلاً معبراً عن هموم الغالبية العظمى، ويستقطب يومياً طاقات وخبرات وإضافات جديدة، ويخلق قيادات في المعترك الفاعل، لأن هذا الحرك إجتماعي المضمون، وليس مجرد إنتفاضة باسلة ليوم واحد.

ليس هنالك خشية الآن أو لا يوجد مبرر كاف للهلع من فكرة أو واقع أن تهيمن قوى يُمكن أن تكون أقل مما تأمله الشعوب في قياداتها المتولدة، أو في قوى قديمة موجودة على الأرض وهي الأكثر تنظيماً من الآخرين، وإستطاعت إقتناص الفرصة. إن الثورات هي لحظة تاريخية تمد المجتمع بطاقات لا يمكن تفريغها على عجل، علينا العمل من أجل المستقبل، وخلق مقومات الظفر الآن وفي المستقبل، إن الفعل الثوري موجات متلاحقة، ولكنها تتسع الواحدة تلو الأخرى.

مادام الشعب قد كسر حاجز الخوف، فإن الثورات في نهاية المطاف لابد أن تخلق قياداتها. إن وجود وقوة التنظيم شأن لا غنى عنه إذا ما كان الهدف أيصال السفينة الى مرساها النهائي بطريقة أكثر أمناً وثقة بالمستقبل. ومن العوامل الأساسية على هذا الصعيد وجود التنظيم والبرامج وخلق الأدوات والوسائل المناسبة للمهمة الكبيرة، وإستخدام وأحترام كل أساليب الكفاح من أبسطها الى أعلاها، وخلق وحدة رصينة وفعالة بينها، تشحنها قوة وأملاً جبهة من أطراف العمل الوطني النزيه، ولا نستثني من أساليب النضال، بل نضعه في مقام مهم للغاية، وهو إسلوب خلق تنظيم صلب في صفوف القوات المسلحة، خاصة في الأفرع الأساسية: الطيران والدروع والإتصالات، إن ذلك واجباً حقيقياً أمام الثوريين الحقيقيين الذين يعملون ويأملون بمستقبل أفضل...