|
الرأس
بديع الآلوسي
الحوار المتمدن-العدد: 3721 - 2012 / 5 / 8 - 19:16
المحور:
الادب والفن
كانا يتحدثان عنها بانفعال لا ينم عن قدر كاف ِ من الحنان أو المحبة ، أمها قالت لم أعد أحتمل جنونها ، إلا أن الأب لم يتفق مع الجدة التي أضافت في نهاية المطاف : حدسي يؤكد أنها ملاك . في خريف عامها الثامن طردت ( ماغيان ) من بيتها ، لحظتئذ أصابها الفزع ،استجمعت قواها كي لا تصرخ ، احمر وجهها غيظا ً ، وأخذت اقصر الطرق نحو بيت جدتها ، هكذا انفصلت عن حياتها المشوبة بالقلق والاكتآب ، وهي تردد : مستحيل ، انهم .... بعد ذلك بثلاثة وثلاثين عاما ً كانت أينما تتجول تتفحص التربة ، هذا الولع توارثته عن جدتها منذ الطفولة ، حينما كانت متعلقة بمضغ طين النهر الأحمر . اليوم توقفت مطولا ً أمام كتل الطين التي تشبه الحجارة ، متيقنة ان الجمال لا يكشف عن نفسه بسهوله . قالت قبل ان يغلبها النعاس : آه يا إلهي ، الرأس يطاردني يجب اللحاق به . ؟ . التمثال الجديد يحاصر وعيها ومزاجها ، أرادت له كمالا ً يشفي غليلها . عند تلك التلة يقبع بيت جدتها ،هنالك قد زفت ، كان فألا ً سيئا ً ، حيث لم يدم الزواج إلا ثلاثة أشهر ، طبيعتها العنود مع نفسها ومع الآخرين وهوسها بالطين جعل زوجها ان يهجر البيت ولم يعد . ما أن تتذكر شظف العيش التي هي به الآن ، حتى تحس كان مخالب تنهشها ، لكنها لم تشعر بالندم أبدا ً، حيث تعتقد إن روح جدتها ستطرد عنها الحيف والشر . في سنين مراهقتها كانت الجدة تقاسمها نداءات طموحها ، هي التي علمتها ان تنظر إلى الأشياء بحس ذهني يقظ يبتعد عن كل ما هو روتيني ورتيب ، وكانت تقول لها دائما ً : يا ملاكي إن لك جرسا ً داخليا ًيهبك القدرة على ترويض الطين . حينها كانت ماغيان لم تفهم لماذا جدتها تصلي مع ولادة إي منحوته جديدة لها . لكن الحال لم يدم طويلا ً ..انتهى الحنان بموت الجدة المفاجئ ،حينذاك كانت ماغيان في الثامنة عشرة من عمرها . هذا المساء قررت أن تتنفس هواء النهر ، هنالك التقت بجمهرة من الشباب المتمردين ، ، استمتعت بأغانيهم ، ، كانوا يرقصون بلذة ،خفق قلبها ، انتابتها دعابة السخرية ،وكأنها تكتشف للمرة الأولى إنها لا تستطيع تغيير العالم مهما ابتكرت . وهي تنصت وتتجاذب اطراف الحديث مع عازف الكيتار ، الذي تتراقص على وجهه أشعة النار ، خيل لها إنها تعرفه منذ زمن بعيد جدا ً. لم تستوعب أول الأمر أثر نغماته ، لكن كلماته ظلت ترن في ذهنها :يجب أن يكون للتمثال روحا ً . انطلقت عائدة صوب غرفتها ، تحتدم في ذهنها البهجة ، والألم ، أصبحت مخيلتها تطير وتحوم حول الرأس . كانت نظراتها مرتبكة ، طيلة مكوثها لم تبرح النظر بتوجس الى كتلة الطين التي بدأت تقاوم ، النشوة دفعتها إلى مزيد من الضحك ، لم تعد تعرف ماذا يجري لها ، اختلست النظر الى صورة جدتها قالت لها : ـ يا ...يا ... ماذا افعل ، يجب أن أحرره من زنزانات الطين . يجب ان تكون له روح لا تشبه الأرواح الأخرى . في تلك اللحظات انبعثت في روحها تيارات الحماس ، اشتاقت الى مضغ الطين عسى ان تنقطع دورات الهلع والشك والحيرة . وقعت عيناها على كتاب جدتها المزكرش ، ما أن فتحته حتى سمعت صوتا ً يناديها بهمس عذب : ـ أعرف ما تقصدين ، لكن ماهية المنحوتة يجب ان تعكس رؤيتنا عن العالم . ـ لكنه حبيس واشعر إني غير قادرة على تحريره . تناهى صوت جدتها مداعبا ً ـ انه نائم يا ملاكي ينتظر ان تيقظيه وتقبليه . هذه الكلمات المشاكسة جعلتها تبتسم بعد ذلك التجهم المقرون بالندم ، وكأنها أبصرت انعكاس ما في مخيلتها على كتلة الطين . أخذت قهوتها بانتعاش وأمعنت بذلك الخاطر اللذيذ وهي تردد وتضحك : ـ إذن هو نائم وليس حبيسا ً ! ؟ . قضت ثلاث ساعات وهي تتصفح ما في حوزتها من صور لمنحوتات فنانين كبار ، كادت تختنق من فرط ما تعاني من اندهاش . حاصر قلبها الهم من جديد ، التفتت الى صورة جدتها ، بحيرة قالت لها : ـ هل من قاعدة ؟ ، نعم ، أعرف ليس من أحد يمد لي العون . ابتسمت الجدة كعادتها : ليس من قاعدة يا ماغيان ، أنت ِ القاعدة . في اليوم التالي كانت أكثر شجاعة استجمعت شتات روحها وبدأت ، ، عادت بمغامرتها من نقطة الصفر ، وبينما هي في لجة دراسة التمثال مقطعا ً مقطعا ً اكتشفت أن هواجسها تتحد شيئا ً فشيئا ً . كل ما مر الوقت تنتابها لذة طافحة بالخصب ، في خلوتها لم تعد تسمع سوى : ليست ثمة قاعدة أنا القاعدة .افترشت التخطيطات ، وجدت إنها كثيرة الشبه بملامحها وتفوح منها رائحة الذكريات مع جدتها . وحين أوشكت يقتظها ورغبتها التي لا تقبل التأجيل على تحفزت ، تركت كل مشاغلها ، وانهالت تضرب كتلة الطين باحثة ً عن مبتغاها . أجابت بلهجة متحيرة : نعم يا جدتي ، اعرف جيدا ًأن أي فقاعة في الطين تعني الكارثة . في الأيام الأخيرة مع جدتها ، كانت تسألها : ـ هل تحقيق الذات يقترن برضى الآخرين ؟ أجابتها : ربما ...ولكن ...
لا تذكر ماذا قالت بعد ذلك ، لكنها كانت تقرأ في عيني جدتها الوجل من ان تحطم حفيدتها كل التماثيل في لحظة إرباك او ندم او إحباط كما فعلت يوم طردت . التمثال بدأ ينتصب ، أصابعها النحيلة تتعامل مع كتلة الطين بعشق نادر وشهي . ، بعدها ماغيان استقبلت بعض التحويرات بحذر ، وهي تتفحصه بنظرة حانية ، زاد ارتباك أصابعها ، ولم تجد تفسيرا ً لذلك . بلهجة لا تخلو من السخرية قالت له : أنت تمثال عنيد أكثر مني . التمثال المنتصب على الطاولة الصغيرة كان يتيح لها ان تبتعد وتقترب وتدور حوله ، وحين تهاجمها الرغبة ألمباغته تتقدم كنمرة وتعيد تشكيل الطين بثقة . في هدأت الليل اختارت التخطيط رقم ثلاثة كنموذج لتنفيذ الرأس ،علقته على الحائط وأحرقت بلا أسف كل التخطيطات السبعة عشر . أجل ، أنها مسرورة بما أنجزت إلى حد الآن ،و تتطلع إلى ذلك الجسد الذي يتمطى وكأنه يريد ان يحلق إلى السماء . بتحديها وإصرارها النادرين صارت تنعم بالصفاء تدريجيا ً ، كإن عشقها للطين بدأ يتجلى ، تعجبت كيف أن هتاف جدتها تحول الى حرارة باذخة . اتجهت منهكة نحو التمثال وغطت الرأس ،كانت تبحث عن جمال الجسد اولا ً. قالت لجدتها بحسرة : ـ اعترف لك ،انه لا يمتلك الى حد الآن روحا ً . ساورها إحساس انه جميل لكنها لم تقتنع وترى إنه لا يتلاءم مع الرأس ، راحت تعيد المحاولات ، تمنت ان تنقذ الجسد بأي ثمن كان . اكتشفت أخيرا ً إن هيئته لا تبعث في نفسها تلك اللذة السرية التي ارتقى اليها الرأس . طبعا ً بتجربتها الذاتية كانت تحلل قرب وبعد التمثال من المثال . في نهاية المطاف شعرت بالخذلان ، وهي ترى مهاراتها لا تساوي شيئا ً أمام عظمة ما تريد . كادت لا تصدق أن الأمل تبدد كوهج يتلاشى ، ثم واصلت صمتها منتبهة ً الى روعة الرأس الذي مع آخر اللمسات صار ينبض بالحياة ، وبدت هيئته قريبة من وجهها قبل ان تفارق جدتها . لم تمكث طويلا ً ، نهضت مقررة ً معالجة أمر ذلك الجسد ، ساورتها رجفة ، تجاوزت حالة الرضي ، وبينما هي تبحث عن جواب ،انغمست تداعب الوجه بلمسات متتابعة . همس الرأس في ذاكرتها ، إرتبك فرحا ً : أنت وفية للمثال يا ..... استدرجها الصمت وهي تحملق مطولا ً بالجسد الذي ابى ان يتحد بالرأس الذي صار أهلا ً للبقاء . لكن في الساعات الأخيرة من الليل ، أدركت لوحدها إن الرأس بدأت عيناه تتنفسان وتتحديان العالم . كاد ان يغلبها النوم ، لكن صوت جدتها أيقظها : عليك بالشناطة . هذه ألمباغته اجبرنها ان تعيد حساباتها ، انتابها إحساس يشبه الخدش ، وهي تقرر ان تضحي بالجسد ، وتقدمت بلا تردد ووضعت الخيط في العنق كالشناطة وفصلت الرأس ووضعته على الطاولة الأخرى . لم يحدث إلا نادرا ً أن تعالج الأمر بهذه القسوة التي لا تنم عن حب . تعجبت وهي تسمع الجدة تودعها سرا ً جديدا ً : ـ ستجدين التمثال الأمثل في الزمن القادم . هذا الصوت أفرحها ، أشعرها أنها كسرت القاعدة أو ربما اتجهت الى منطق الاختزال رغم الفشل .ألقت بنفسها على السرير لتتمثل ذلك الشعور مأخوذة بذلك الارتياح غير المتوقع، قالت لها جدتها بحب حقيقة غفلتها: لا تهتمي يا ملاكي ، وَهم كبير هو الكمال . صمتَت ، وكأنها لا تجد ما تقوله ، احتضنت الرأس وتنهدت بوجع لم تفهم لماذا كل الاحتمالات التي اقترحتها لم تفض الى بعث الروح بذلك الجسد ، وكأن سوء الطالع كان لها بالمرصاد ، أصلحت جلستها وحضنت الرأس خوفا ً من أن يتألم وقالت للجدة بثقة : : ـ أجل ، هذا مولودي الذي حلمنا به معا ً فجأة ً ، تقدمت بخطى مغرورة ، قربت الرأس من نظارات جدتها ، ، التي بدأت تبحث عن مفردات تفصح بها عن إعجابها ، لكنها لم تهتد ٍ وظلت فاغرة الفم مسحورة ً منذهلة . حينها توقف الزمن للحظات وعاد الى غرائبيته ....... 12 / 12 / 2011
#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صباح أسمر
-
هواجس : اللومانتية 2011
-
الأركان الضرورية للإبداع
-
طريق التغييرالى(( اين))
-
وجهات نظر عن ......
-
مرايا الإبداع وترويض اللوحة
-
عاشقة الفلامنكو
-
قصة قصيرة / الروزنامة الملعونة
-
قصص قصيرة جدا ً/ إعتراف
-
رسائل اليبرالي الجميل
-
وكان ماكان ..وقصص أ ٌخرى قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة جدا ً : من يصمت يحصد .....
-
قصة قصيرة : مسيرة راجلة
-
قصة قصيرة : ما قاله لها عن ....
-
قصص قصيرة جدا ً : اين / يوم ليس كباقي الأيام
-
سيدة الدوائر
-
احذروا الحب وقصص اخرى قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة :نحن من قتلنا الرفاعي
-
قصص قصيرة جدا ً / بلا ميعاد / ماعاد كما
-
قصص قصيرة جدا ً : منعطف / هل ....
المزيد.....
-
الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا
...
-
تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر
...
-
كيف تحمي أعمالك الفنية من الذكاء الاصطناعي
-
المخرج الأمريكي كوبولا يطمح إلى الظفر بسعفة ذهبية ثالثة عبر
...
-
دور النشر العربية بالمهجر.. حضور ثقافي وحضاري في العالم
-
شاومينج بيغشش .. تسريب امتحان اللغة العربية الصف الثالث الاع
...
-
مترو موسكو يقيم حفل باليه بمناسبة الذكرى الـ89 لتأسيسه (فيدي
...
-
وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاما
-
بسررعة.. شاومينج ينشر إجابة امتحان اللغة العربية الشهادة الا
...
-
بكين تستقبل بوتين بأغنية -أمسيات موسكو- السوفيتية (فيديو)
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|