عبد الإله السباهي
الحوار المتمدن-العدد: 3506 - 2011 / 10 / 4 - 00:41
المحور:
الادب والفن
شجرة التفاح الأحمر
كل حيٍَ على كوكبنا العجيب هذا يسعى لأن يعيش أكثر’ ولا أدري ما هي الحكمة وراء هذا التشبث اللحوح بالحياة!
من هو السعيد عليها؟ هل الذي يعيش أياما أكثر، أم الذي يتمتع بمباهجها أكثر’ ولماذا يكون البقاء وطول العمر دائما على حساب السعادة؟
كيف وزعت أعمار الأحياء على أرضنا هذه, لا تقل لي حكمة (رب العالمين) فالكلام مردود من البداية، إنها فوضى وليست حكمة، ولا أظنه عشوائيا إلى هذا الحدَ! و وفق أي نظام تم هذا التباين؟
لماذا تموت الزهور الرائعة الجمال وهي في ربيع عمرها، ويظل السنديان يتمتع بضوء الشمس لمئات السنين؟
لماذا يعيش الفيل مثلا أكثر من الأسد؟ ولماذا تعمر السلحفاة لمئات السنين، بينما تموت الضفدعة على عجل؟
ما هو الشيء المهم في حياتنا هذه’ هل هو السعادة, المتعة؟ العطاء أم العيش أكثر؟
كل تلك الأسئلة التي لم أجد لها جوابا شافا، وقد توالت على فكري المشغول دائما بأمور أخرى وأنا أتطلع إلى شجرة تفاح عجوز اعترضت طريقي صدفة فأدمنت التردد إليها والوقوف أمامها متطلعا كالعاشق.
لا أكشف سرا لو قلت لكم إن كل تلك الأسئلة بعيدة إهتماماتي، ولم أجد فيها غير فلسفة فارغة، فأنا رجل عملي أحاول أن أقضي ما قسم لي من أيام بطريقة سهلة وممتعة ودون تعقيد.
كنت أجد حرارة الصيف عقوبة أو قل ضريبة يجب أن ندفعها ولو على مضض لنعيش بعدها أشهر الربيع والخريف الرائعة بسعادة في ظلال غابات النخيل’،في عراق غدا مقفرا اليوم حتى من القصب.
وهنا في صقيع دول الشمال’ أرقب الشمس كما يرقب الصائم هلال العيد. فتأتي الشمس على استحياء، وتقضي نهارها بدلال بين غيوم تلعب معنا لعبة التخفي (الختيَلة), فتنقضي أيام الصيف ونحن لا نشعر بها، أو قل نعيشها بقلق، ووجل خوفا من أن تنقضي فيأتي هادم اللذات ربّ الدار ذلك الثلج الذي يلف كل شيئا من حولنا وكأنه كفن المندائي .
كنت أقضي الساعات المشمسة متجولا على دراجتي الهوائية بين الحقول والغابات، والتي تحيط بمدينتنا من كل صوب. وما أجملها من طبيعة هنا في الدنمارك عندما تكون الشمس مشرقة ولكن يا حسرة!
على بعد بضعة كيلومترات من مدينة (نيفو) شمال (شيلاند) يمتد بساط أصفر من زهور الخردل كل صيف فيترك البصر يمتد في العمق مع هذا اللون الساحر إلى ما لا نهاية’ تتطفل الزهور البرية الملونة أحيانا فتحيط هذا البساط الأصفر الساحر فتحيله إلى سجادة إيرانية لم ينسج مثلها بعد.
كنيسة المدينة ذات الطراز المعماري المميز تقع في نهاية حقل الخردل هذا، وبالقرب منها يجري جدول صغير, والجداول هنا صغيرة جدا هذا إن وجدت, فالدانمرك أرض منبسطة لا جبال فيها ولا جداول تلعب فيها الريح دون رادع.
لي سنين عدة وأنا أعيش هنا في وطني الجديد وأنا أحاول معرفة لون تربة هذا الوطن, ولكن دون جدوى, فالأرض خضراء (مزّرقة) الخضرة صيفا, و بيضاء كالحليب شتاء، ولكنني أحببته.
في طريقي في نزهتي اليومية إلى الكنيسة، والتي لم أدخلها يوما عدى مرة واحدة، وكنت أسأل فيها عن طرق الدفن المتبعة هنا وشروطها، فعلى المرء أن يؤمن (مستقبله)، وكانت النتيجة أن القبور هنا تأجر لمدة عشرين عاما، وإذا لم يدفع أحفادك أجور الصيانة وتجديد العقد سيزاح قبرك، ولن يأتيك زائر بعدها وإن أتاك فلن يهتدي لعظامك!
كنت قد جعلت من تلك الكنيسة الحد الفاصل في تجوالي اليومي, فبعد أن أجتاز حظيرة صغيرة للأغنام لم أرى لها مالكا ولا مرة، ولم أعرف أين تعيش تلك الأغنام في الشتاء, وأنا أسير باتجاه الشارع المؤدي إلى البحر، تصادفني شجرة تفاح بري قديمة, وكأنها أيقونة فرت من الكنيسة لكثر التراتيل فيها، وكأنها عاشت في مكانها هذا منذ الأزل. جذع الشجرة، والذي غدا كأضلاعي تغور بينها اليد هو كل الشجرة, فأورقها والتي باتت تشبه شعر رأسي الأصلع تفرقت هنا وهناك بين أغصان لم تمتد طويلا. أما ثمارها فهي تأتي فرادا، فلا تتركها الديدان سالمة، وقبل أن تنضج تكون قد نخرتها الدودة من كل الجهات, ولكن على الرغم من ذلك يظل طعم تلك الثمار القانية الحمرة لذيذا مميزا لا تجد مثيلا له في السوق مطلقا.
عندما يحل الشتاء، وتتساقط أوراق تلك الشجرة تبدو وكأنها كومة من الحطب, وفي كل مرة أتخيلها قد ماتت، ولكنها ومع أول نسائم الصيف تعاود الحياة من جديد فتزهر وتثمر متصورة إن الأسواق سوف تقفر من التفاح إن هي لم تجود بثمارها.
كنت أجلس أحيانا ساعات إمامها, أتأملها وأتأمل حالي، وأقارن بينها وبيني. أوراقها أكثر من شعر رأسي بدون جدال, وروحي غدت عجفاء كضلوع تلك الشجرة، وحتى الثمر نحاول كلانا الجودة به بإصرار، وكأن الحياة ستتوقف بدون عطائنا.نتصور ذلك، ولكننا صادقين بدون مكابرة.
في السنين الأخيرة هرمت (شجرتي) إلى الحد الذي أصبحت أخشى عليها من الريح أن تقتلعها، فتركت عادة زيارتها السنوية، كي لا أصاب بخيبة الأمل حينما لا أجدها، فقد ربطت مصيري بها وكأنها قدوتي في الكفاح والتشبث بالحياة!
كان ذلك منذ سنين فلم تعد مفاصلي تقوى على ركوب الدراجة، واكتفيت بالتطلع من خلال النافذة إلى زهور الخردل’ ولا أدري ما تخفي خلفها، وماذا حل اليوم برفيقة دربي شجرة التفاح الأحمر.
عبد الإله السباهي
#عبد_الإله_السباهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟