جودت هوشيار
كاتب
الحوار المتمدن-العدد: 1949 - 2007 / 6 / 17 - 08:25
المحور:
الصحافة والاعلام
كلمة لا بد منها
ليس من السهل على أى صحفى حر و مستقل العمل فى صحيفة حزبية مؤدلجة أو صحيفة رسمية موجهة تنطق بأسم حزب حاكم فى ظل نظام شمولى او استبدادى ، لا تنشر الا ما يوافق سياسة الحزب من أخبار مشوهة و منحازة و احكام جاهزة و آراء مسبقة ان كانت صحيفة حزبية او تعمل جاهدة لتبييض عمل الحكومة و تجنب كل ما يتسبب بأقلاقها أو يخالف مصالحها و تلميع صورة ( القائد الضرورة ) ان كانت صحيفة حكومية .
و مما يزيد الطين الحذر الشديد للمشرفين على الصحف الحزبية و الحكومية من تناول أى نقد بناء يوجه الى الحزب او الحكومة او التطرق الى موضوعات محرمة و ما أكثرها فى ظل الأنظمة القمعية مثل قضايا الفساد و انتهاك حقوق الأنسان و غياب الحريات العامة و غيرها و ذلك حفاظا على مناصبهم و امتيازاتهم و هم فى العادة ملكيون أكثر من الملك . و الصحفى الشريف فى مثل هذه الصحف يكون امامه خياران كلاهما مر : اما ان يستسلم لمشيئة السلطة و يخسر بذلك نفسه و حرية التعبير عن آرائه و مواقفه او يترك العمل الصحفى و هو مصدر رزقه الوحيد و مهنته المحببة التى كرس حياته من اجلها .
و لكن عندما يشعر النظام الحاكم بأن الأستمرار فى تكميم الأفواه و قمع المعارضة و انتشار الأستياء و التذمر بين أبناء الطبقات المسحوقة يشكل خطرا على استمراره فى الحكم يلجأ الى اعطاء هامش من حرية النقد للصحافة الحكومية و منح امتيازات اصدار صحف جديدة ( مستقلة ) شكلا و ممولة و موجهة من قبل الحكومة فعلا ، و ذلك لأمتصاص الغضب الشعبى فى الداخل و تجميل صورة النظام فى الخارج .
ولدينا مثل صارح على ذلك ، حبث لجأ النظام الصدامى فى أعوامه الأخيرة الى اصدار عدد من الصحف الأسبوعية التى تتطرق الى موضوعات محرمة او تتناول بالنقد أعمال و قرارات مسؤولين حكوميين من الصف الثالث ( درجة مدير عام فما دون ) .
وهكذا كان الوضع فى روسيا فى فترة ما بعد ( ذوبان الجليد ) حيث اظطرت السلطة السوفيتية تحت الضغط الشعبى و اشتداد عود حركة المنشقيين الى اعطاء هامش من حرية التعبير الى الصحف الثقافية على وجه الخصوص ، لأن المثقفين السوفييت كانوا فى طليعة من كان يتصدى للنظام الشمولى السوفييتى . و الفرق الجوهرى هنا بين الصحافة ( الأهلية ) الصدامية الغبية و بين الصحافة الروسية الرصينة الذكية ، ان العاملين فى صحف صدام كانوا من المرتزفة الذين دجنهم النظام الفاشى ، اما العاملون فى عدد من الصحف السوفيتية الواسعة الأنتشار ، فقد كانوا من الكتاب و الصحفيين المتعطشين الى الحرية و المتطلعين الى مستقبل افضل لشعبهم .
كان هؤلاء الكتاب الروس من الذكاء بحيث يصعب و ضعهم فى خانة ( المعارضين ) للنظام القائم و من المهارة المهنية بحيث تعجز معها الرقابة الحكومية الصارمة عن ايجاد مآخذ على المفالات و التحقيقات المنشورة فى صحفهم .
و سنتطرق فى الفقرات اللاحقة لتجربة صحفية ناجحة و فريدة ، ربما لا تتكرر فى اى مكان أو زمان آخر و لكنها زاخرة بالدروس و العبر.
فألى الصحفيين العراقيين و العرب الأحرار الذين أرغمتهم الظروف على العمل فى الصحافة الحزبية و الحكومية فى بلادنا أهدى هذا المقال .
*****************************
صحيفة روسية أسهمت فى صنع الأحداث و تغيير الواقع
لا تكتسب الصحيفة – أى صحيفة – أهميتها و نفوذها من سعة انتشارها و حضورها فى الساحة الأعلامية فحسب ، وانما أيضا و ربما فى المقام الأول من مدى تأثيرها فى اتجاهات الرأى العام و تعبيرها عما يشغل اذهان القراء من قضايا تمس حياتهم و مستقبلهم و مدى اسهامها فى تغيير الواقع نحو الأفضل .
و انطلاقا من هذه الحقائق ، يمكننا القول ان الدور الذى صحيفة " ليتراتورنايا غازيتا " أى " الصحيفة الأدبية " الروسية فى التحولات الجذرية التى شهدها المجتمع الروسى خلال العقود الثلاثة الماضية ، لا نظير له فى تأريخ الصحافة العا لمية .
تأسست " ليتراتورنايا غازيتا " فى عام 1926 كصحيفة تمثل الأدب السوفييتى الوليد ، ثم اصبحت الصحيفة المركزية الناطقة بأسم " اتحاد الكتاب السوفييت " بعد تأسيس الأتحاد المذكور فى عام 1934 . و قد ظلت طوال أكثر من ربع قرن محدودة التأثير و النفوذ فى ظل الرقابة الأيديولوجية المتزمتة .
و بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى انعقد فى اكتوبرعام 1956 و خطاب خروشوف الشهير فى هذا المؤتمر حول الجرائم الدموية للعهد الستالينى ، وفى أجواء الأنفتاح النسبى فى فترة ما عرف ب( ذوبان الجليد ) حدث تحول مهم فى سياسة الجريدة و توجهاتها و طرأ تغيير كبير فى تحريرها و اخراجها . وصدر أول عدد من الصحيفة فى عهدها الجديد مع بداية عام 1957.
لقد اراد المخططون الآيديولوجيون فى قيادة الحزب آنذاك ايجاد ( صمام أمان ) لتصريف بخار الغليان الذى طال احتباسه و مخاطبة المثقف الذكى و المستقل التفكير الذى تنتابه الشكوك حول مصداقية الصحافة الرسمية و ما تنشره حول الأنجازات المتتالية فى شتى الميادين . و لكن الواقع أرحب دائما مما يفكر فيه المخططون، فقد تحولت الصحيفة تدريجيا الى منتدى فكرى للمثقفين الروس و اصبحت صفحاتها ميدانا للحوار الفكرى الخصب بين هؤلاء المثقفين و أخذت تنشر نتاجات الكتاب المستقلين فكريا الذين لم تكن السلطة تنظر اليهم بعين الأرتياح و تتناول بالنقد و التحليل ما تحجم الصحافة الرسمية عن الخوض فيه أو التطرق اليه و تثير قضايا تتحاشاها تلك الصحافة و تنظر الى ما وراء الأفق من فوق رؤوس الرقباء الذين لم يكن يفارقهم التفاؤل الحزبى السطحى .
و استطاعت " ليتراتورنايا غازيتا " بمعالجاتها الذكية و لغتها غير المباشرة الحفاظ على خط التوازن الدقيق بين المسموح و الممنوع و خاضت مغامرة معقدة و جريئة فى آن معا و انتصرت على الرقابة فى نهاية المطاف .
و رغم ان ( ليتراتورنايا غازيتا ) ظلت صحيفة سوفيتيت تنطق بأسم اتحاد الكتاب السوفييت و لم تكن قادرة أن لا تكون كذلك و بصرف النظر عن اسمها ، الا أنها أصبحت من الناحية العملية لسان حال المثقفين الروس بكل جدارة . و يمكن القول أن هذه الصحيفة هيأت الأجواء للتغييرات التى حدثت فى الأتحاد السوفييتى فى ما بعد و نعنى بذلك " البريسترويكا " و ما أعقبها من تحولات جذرية و الأنتقال من النظام الشمولى على النمط السوفييتى الى الرأسمالية الليبرالية .
و بعد انهيار الأتحاد السوفييتى و ظهور صحف منافسة كثيرة و تردى الوضع الأقتصادى فى البلاد و انحياز " ليتراتورنايا غازيتا " الكامل الى التيار الليبرالى، تقلص توزيعها من خمسة ملايين الى اقل من ربع مليون نسخة .
وكان هذا نتيجة حتمية ، ليس لأن القارىء العادى لم يكن قادرا على شراء الخبز ،ناهيك عن اقتناء الصحيفة ، بل لأن " ليتراتورنايا غازيتا " أنساقت كثيرا و أوغلت فى التأييد المطلق للنخبة الحاكمة الجديدة التى رفعت شعارات الديمقراطية الليبرالية و الأقتصاد الحر ، فى وقت كان الفساد الأدارى يستشرى فى أجهزة الدولة. و يعانى فيه المواطنون من ضنك العيش نتيجة لتراجع الأنتاج الصناعى و الزراعى و ارتفاع أسعار السلع الضرورية و الخدمات .
و قد اعترف - رئيس تحرير الصحيفة – فى مقاله الأفتتاحى لمناسبة مرور ( 50 ) عاما على صدور الصحيفة بشكلها الجديد ، بأن هيئة تحرير الصحيفة لم تلحظ على الفور أنحراف الليبراليين و لم تفتح صفحاتها – كما كان الأمر فى أواخر العهد السوفييتى – للآراء الأخرى ووعد بتصحيح هذا الخطأ الفادح و ذلك بجعل الصحيفة مفتوحة من جديد لكل المثقفين ، جامعا على صفحاتها كتابا من شتى الأتجاهات و التيارات السياسية و الأيديولوجية و الأدبية و الفنية و معبرة عن كل تعقيدات المرحلة الراهنة التى يمر بها المجتمع الروسى .
و أردف قائلا : ان حرية الكلمة لا تعنى ، حرية فرض رأى معين على الآخرين ، بل اتاحة الفرصة لكل انسان أن يعبر عن رأيه الخاص حول كل ما يجرى حوله و له مساس مباشر بحياته و مستقبله و على " ليتراتورنايا غازيتا " أن تكون محاورا ذكيا لكل مفكر و مثقف و من دون هذا الحوارتظل الصحيفة مجرد أوراق ميتة لا قيمة لها على الأطلاق .
#جودت_هوشيار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟