أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سلام عبود - حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة الصباح العراقية















المزيد.....

حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة الصباح العراقية


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1937 - 2007 / 6 / 5 - 11:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قرأت بإمعان ومتعة مقالة السيد خضير ميري "الناجون من العنف", المنشورة في صحيفتكم, وأود منكم التكرم بنشر ملاحظاتي عليها, لمزيد من الفائدة الثقافية.
بدءا أود أن أعرب عن سروري لظهور المقالة, فقد تأخر زمنها كثيرا. فمنذ صدوركتاب "ثقافة العنف", ورغم أنه "يمثل العنف الأكبر الذي كانت الديكتاتورية تعمل عليه", لم يكتب السيد ميري عنه سوى عبارات غامضة, مبتسرة, وجلة, حذرة, كان يرسلها,من حين الى آخر, كمن يرسل النبل وهو يتخفى خلف غيمة من الغبار. لكنه اليوم, بعد أربع سنوات على سقوط الصنم, يستجمع جرأته ويعرب عن أفكاره كاملة, صريحة, واضحة الأغراض. لا أعرف لماذا الآن! ربما تكون غيمة الغبار في طريقها الى الانقشاع! بيد أني سعيد بهذه الانعطافة ,لأنها تفصح تماما عن المقاصد, وتمنح الجنيّ فرصة مؤاتية للخروج من القمقم, وتمنح الجدل فرصة للابتعاد عن التفاصيل الصغيرة والنبال الخفية, والدخول في مناقشة الأغراض الأساسية للثقافة على حقيقتها, بما في ذلك المحتوى الايديولوجي والمعرفي وطبيعته الجوهرية وأثره الإجتماعي وصلته بالتاريخ والإنسان وقيم الخير والحق والحرية والجمال. هنا يكون الحفر الاركولوجي مفيدا جدا ولا يخلو من الاكتشافات, لذلك سأحصره في مقالة السيد ميري الأخيرة, محاولا ايجاد حجج وعلل لأفكاري من خلال المقالة نفسها, فهي وثيقة عقلية مهمة وجادة, قد تؤشر أو تشي بانعطافة جديدة محتملة ينتظر البعض حدوثها في الواقع السياسي العراقي القريب. وفي هذا القول أثبت أول تأكيد لي للتدليل على وجود وشائج غير مرئية, مريبة, تربط الثقافة بالسياسة, لا يراها بيسر عابرو الطرق الثقافية المتسرعون.
على الرغم من وضوح مقاصد ميري واكتمال أفكاره, إلا أن قراءة مقالته لم تكن يسيرة. ولا يعود الأمر الى تناقضاتها ونزعتها التبريرية وقدريتها وحجم الفتق في منطقها وحججها, ولا الى مراميها الأخلاقية والسياسية الخطيرة فحسب, بل لأسباب فنية بحته تتعلق بصياغة الأفكار وطرق عرض وترتيب وبناء المحاججات أيضا. رحلة قراءتي لمقالة ميري أشبهت عملية تجوال في أروقة مشفى للأمراض العقلية, لتزاحم الأفكار وكثرة الفجوات والاسقاطات والطفرات والدهاليز الرو حية المتعلقة بترتيب الحجج وبناء المنطق اللغوي والعقلي والتاريخي.
الأفكار الأساسية التي استخلصتها من المقالة يمكن حصرها بست نقاط. أولا: لا توجد ثقافة عنف في العراق ولم يكن لهذه الثقافة وجود إلا عند الديكتاتور. ثانيا: مواجهة ثقافة الديكتاتورية انتهاز فرص. ثالثا: السكوت أوالمشاركة في ثقافة القمع والعسكرة وجهة نظر شخصية قابلة للتغيّر. رابعا: ثقافة القمع موجودة في بقاع عربية كثيرة, لماذا نخص ثقافة قمعنا وحدها بالنقد؟ خامسا: لماذا نلتفت الى الخلف ونحن أبناء الماضي الحضاري والحاضر المشرق والمستقبل البّسام؟ سادسا وأخيرا: لماذا نصر على ثقافة الإلغاء؟
1- سأبدأ من النقطة الأخيرة: عقلية الإلغاء, والتي هي مكون أساسي من مكونات الثقافة القمعية, ثقافة الحزب الواحد والعسكرة والعنف. يقول ميري في الفقرة الأولى من مقالته: كتاب ثقافة العنف "... تناولته أقلام عراقية عديدة ما بين متذمر منه وعاتب عليه وما بين مراجع له ومنقح لأكثر فقراته تجنيا على اسماء ادبية ابداعية مهمة"
أين عشرات المقالات ومئات الاستشهادات لكتاب عراقيين وعرب يستحقون الاحترام, التي أشادت بالكتاب أو تعاملت معه كمرجع ثقافي أمين ومخلص لمقاومة الشر؟ أليس أولئك أصحاب رأي ثقافي أيضا؟ الجواب على هذا له احتمالان. أولهما أن ميري لم يقرأ ذلك, وهذا يعني أنه لا يقرأ إلا ثقافته وما تنتجه. أو أنه قرأ ذلك وتجاهله, لأن ثقافته لا تسمح له بأن يعترف بوجهة النظر الأخرى. إن الجميع يعرف أن ثقافة العنف موضع خلاف ثقافي وسياسي واجتماعي, لذلك هناك وجهات نظر متباينة حولها. فعلى سبيل المثال أعدم برزان التكريتي وهو على قناعة مطلقة أنه كان ديموقراطيا ورحيما وعادلا! فكل فريق يرى أنه يمثل الحقيقة, لكن المقالة ألغت فريقا كاملا. لا أريد أن أقول إنها احتفظت بملاحظات أنصار ثقافة العنف وحدهم, ولكني أقول إنها أنكرت الآخر إنكارا تاما. وهذا يعني أن ميري لا يرى الآخر حينما يقرأ, ولا يراه حينما يفكر ويكتب وينشر, وحتى حينما يقرأ ما يكتبه! متى يراه إذاً؟ هذا هو خلافي الأول مع تيار ثقافة العنف, وهو خلاف منهجي, ثقافي جوهري, لأنه يتعلق بمحتوى الفكر والعقل واستخدامه كوسيلة قبل تعلقه بالحق والعدالة والخير والجمال والحرية. سادت ثقافة العنف والإلغاء لأكثر من ثلاثة عقود, ثم سقطت, لكنها ما بادت. وهذا دليل آخرعلى أن العنف الثقافي لم يمت بسقوط الصنم. فلم يزل حيا, نشيطا, فاعلا, يجول بجرأة ووقاحة في الأزقة والمقابر وفوق السطور الثقافية.
2- " أنا أشك أصلا بوجود مفهوم لثقافة العنف عندنا, وذلك لأن العنف الذي كان موجودا حقا في الحياة العراقية هوالديكتاتورية و الديكتاتورية لم تنتج ثقافة بالمفهوم البنيوي..." . إذا استبعدنا مؤقتا كلمة بنيوي, التي يسيئ ميري استخدامها, فإننا نعثر على طائفة من المعضلات العقلية والسلوكية. في البدء يظن المرء أن ميري, حاله كحال بعض المثقفين من معارضي الديكتاتورية والعنف, يود مناقشة مصطلح "ثقافة العنف" ومقدار دقته كتعبير. لكن ميري لا يناقش ذلك, بل يناقش حقيقة "وجود" ثقافة عنف ويشك في وجودها. والأهم من هذا أنه ينكر وجودها خارج محيط الديكتاتور, ويعلل ذلك بسببين متناقضين, يقاتل أولهما الآخر, وكلاهما فاسد. السبب الأول: إن هذه الثقافة هي ثقافة الديكتاتورية. دكتاتورية من؟ ألم تكن هذه الديكتاتورية ديكتاتوريتنا؟ يبدو أننا مقبلون على زمن سيباع فيه حتى قبر الديكتاتور علنا! وثانيا أن هذه الثقافة تنتمي الى الإعلام السطحي. وهذا صحيح تماما, ولكن. ألم يكن هذا الإعلام السطحي هو الثقافة الرسمية السائدة لثلاثة عقود ونصف العقد؟ ألم ينخرط فيها ثلاثة ملايين عضو حزبي ونصير وعدة ملايين من المتطوعين قهرا أو طمعا أو إخلاصا؟ ألم يحص كتاب "أدباء أم المعارك" أسماء ثلاثة آلاف وستمائة "مساير" لثقافة النظام السطحية هذه, بمن فيهم السيد خضير ميري؟ أهي جريمة ثقافية, في نظر ميري, أن يكشف النقد سطحية وخواء ورداءة هذه المسايرة العليلة؟ ماذا فعل هذا الإعلام الرديء بعقل الشعب لخمسة وثلاثين عاما؟ لم يفعل شيئا. تبخر. هكذا يقول ميري ببساطة. أما أنا, فأخالفه الرأي وأقول له بثقة مطلقة: نستطيع أن نغلق آذاننا فلا نسمع أنين آلاف القتلى وأهلهم, لكن هذا الأنين سيظل رغما عنّا جرحا اجتماعيا وثقافيا عميق الغور لأجيال قادمة, نستطيع أن نلجم ضمائرنا ونمنعها من البحث عن نتائج ثلاث حروب أعتبر العالم أجمع أولاها أطول وأخرق وأغلى حرب في التاريخ المعاصر, وثانيتها أبلد غزو في التاريخ القومي كله, وثالثتها أفظع وأقسى مواجهة في التاريخ الإنساني كله. وهي حروب لم يدخلها أو يخرج منها أحد, على الإطلاق, سهوا, كما يظن دعاة العسكرة الثابتون والمتغيرون. لم يكن القائد ساهيا أو لاهيا, ولم يؤخذ الضحايا الى قبورهم سهوا, ولم يدخل أو يخرج من تلك الحروب سهوا سوى ذوي الجلود والضمائر السميكة, الذين كانوا يتدفؤون بنيرانها. كانت فعلا إجراميّا منظما. لذلك فهي وفق منهجي ثقافة, والنص المكتوب عنها تعبير أدبي عن هذه الثقافة, و"دراسة المشهد الشعري في أم المعارك" أدلجة لهذه ثقافة, وتأويل النص من قبلي وقبل ميري صراع ثقافي, واستقبال الناس- سلبا وايجابا- لما نكتبه معايشة ثقافية. وكل تلك الشبكة من العلاقات المتبادلة تسمى في علم الاجتماع منظومة ثقافية, أما تعميمها إجتماعيا فيسمى بنية ثقافية. هذا ما أسميته بالحفر الثقافي, وهذا ما ذهبت اليه بوعي تام. فما حدث, لم يكن مجرد إعلام سطحي فج فحسب, لكنه لم يكن سهوا قدريا, أو نزوة عابرة. ما حدث كان كارثة ثقافية واجتماعية ونفسية قلما حدثت لشعب من شعوب البشرية, لن تستطيع كلمات النفاق أن تمنحه حق الوجود, أو أن تزيله من الوجود لكي لا ترى قبحها وإذلالها الشخصي مجسدا فيه. ما حدث كان عسكرة منظمة للحياة, كان أسلوبا لإدارة المجتمع والوطن خضعت له "مرغمة" عدة أجيال, وحفر في وجدان الشعب جراحا عميقة. إن ثقافة العنف ليست نصوصا بل هي طريقة للتفكير, طريقة لتنظيم العلاقات الاجتماعية, طريقة لبناء الإنسان روحيا من خلال مجتمع الثكن وجيش الوشاة. هذا ما لا يفهمه ميري وما لا أستطيع إقناعه به. هذا خلاف, ولكن ليس على المصطلحات. إنه خلاف على المضامين ونتائجها العقلية والثقافية. وهو بناء روحي, أي ثقافة, ثقافة خالصة وفق منطق البشر العقلاء جميعهم.
3- يسمي ميري الحفر في هذا التاريخ البربري المخزي "لعبة فرصية انتهازية". وأنا أوافقه الرأي. وليسمح لي أن أتحدث عن هذه الفرصة وما صاحبها من انتهازية: في يوم أغبر وجدت مجرما يقوم بقتل شعب كامل ويبدد ثرواته ويسحق إرادته ويسوق أبناءه جيلا بعد جيل الى حروب عبثية ظالمة, ووجدت كتابا يسكتون خوفا أو تقية أو حكمة, وآخرين يشاركون في حفلات الدم طمعا أو إخلاصا, فانتهزت الفرصة وسجلت ذلك المشهد الدموي بكل دقائقه. سجلت فعل العنف كجريمة, وتمجيد العنف كتعبير ثقافي عن الجريمة. ألا يحق لمن هو مثلي أن يكون نهازا للفرص الثقافية, بنفس القدر الذي كان فيه ممجدو ثقافة العسكرة والعنف والطغيان نهازين لجوائز ومكارم وهبات الديكتاتور؟ لماذا ينكر عليّنا ميري هذا الحق؟ أليس من العدل أن يكون لنا الحق في الوجود داخل المشهد نفسه, وإن كنّا مغايرين, بنفس القدر الذي يمنح فيه الحق لممجدي ثقافة نواب العرفاء؟ هذا خلاف على المبادئ أيضا, على توزيع العدالة, كما أظن. وهو خلاف على المضامين لا على المصطلحات وقوائم الأسماء!
4- يتساءل ميري قائلا: لماذا " لا تعد مواقف معظم المثقفين العرب الذين كانوا موالين لهذا المشروع السياسي للحاكم العربي أو ذاك ضمن خطاب الشر؟", وهذا سؤال قد يقبله المرء لو أنه صدر من أحد أفراد أهل الكهف والرقيم, أما أن ينطق به صحافي يتحمل مسؤولية صفحة ثقافية, فهذا يدخلنا مجددا ضمن منغصات العقل. لكنه رغم ذلك يؤكد ما ذكرته سابقا من أن ميري لا يقرأ ما يكتبه الآخرون. نعم , أيها السيد ميري إنها جزء مقيت من خطاب الشر, سواء أكان حامل لوائها فلسطينيا أو مصريا أو لبنانيا أو كان من دولة الصومال المشكوك في عروبتها. إن وجود كتاب عرب وقفوا مع أجهزة الطغيان لا يمنح أحدا الحق في ممارسة الشر, ولا يبرر ارتكابه. أولئك ليسوا سوى خراب هذه الأمة, أما من يقتدون بهم فهم خراب الخراب. إن مقاومة الحرب والعنف والشر كل لا يتجزأ, ومن لا يستطيع مقاومة الشر في بيته لا يستطيع مقاومته في بيوت الآخرين. هذا هو خطاب الاتجاه الديموقراطي لدى مثقفي المعارضة الوطنيين لعقود متواصلة, وهو خطاب لم تتبدل ثوابته الأساسية, لأن مقاومة العنف مشروع ثابت, قد تتغير أشكاله وأفراده لكن جوهره لا يتغير. وفي كتابي "ثقافة العنف" بينت بالاسماء مشاركة الكتاب العرب في قادسيات صدام وأمطت اللثام عن لعبة البيع والشراء التي مارسوها مع النظام الديكتاتوري. فليس ذنبنا أن السيد ميري لا يقرأ إلا ما يكتبه مريدو ثقافة العنف. وليس من العدل أن يحملنا السيد ميري وزر سوء مهارته القرائية. والأهم من كل هذا ليس ذنبنا أنه يكره الحفر في الماضي, الشرير خاصة.
5- يقول ميري إن كتاب الحرب كانوا لا أكثر من مجتهدين, بعضهم أصاب وبعضهم أخطأ ومنهم من عدّل مواقفه. وهذا قول مقبول. ولكن ألا تستحق تجربة الخطأ والصواب تلك وقفة ثقافية ناقدة؟ وهل حقا اختفى العنف وما رافقته من أخيلة ثقافية بمجرد وصول أولئك الى محطة طريبيل الثقافية؟ نعم! يجب ميري, بكل ثقة. أما أنا فأقول له: كلا أيها السيد ميري. سل عن ذلك نائب العريف ووزير التصنيع حسين كامل, فقد سبق له أن مرّ ذهابا وإيابا بالمحطة ذاتها. إن سقوط الصنم قاد الى تحطم مركزية العنف, وقاد الى تشظيه واتساعه وتحوله من عنف محلي الى عنف دولي. لإن الاحتلال (لم يقرأ ميري خبر وصوله الى بغداد بعد) والمشروع التكفيري الطائفي والمشاريع القومية كلها صور متنوعة من ثقافة العنف حلت محل مركزية الديكتاتور. إن بنية العنف وقاعدته الروحية وخلاياه النائمة والمستيقظة أو التي في طور الاستيقاظ لم تزل فاعلة, حية, وأكاد أجزم وأقول غدت أكثر تنوعا وشذوذا وبربرية ومهارة. إن تحول وجه العنف واستبدال ثياب الزيتوني بثياب الميلشيات التكفيرية أو ببدلات المارينز لا يسقط مشروع العنف وثقافته, بل يعيد إنتاجها ويعيد توزيعها وترتيب أدوارها في صور جديدة. فأنا وميري مثلا نمثل نمطين مختلفين من العقل والتفكير. وما علينا سوى التعلم وتدريب النفس على وجود من يغايرنا في التفكير والسلوك. نحن منهجان لا يتوحدان ويتماثلان, ولكنهما قد يتقاطعان لو أن المصالح الوطنية كانت هي الأساس المشترك للحوار. هو يؤمن بعدم وجود ثقافة عنف, وبسقوط ما وجد منها سابقا في عهدة الديكتاتور. وأنا أؤمن بأنها لم تزل حية وفاعلة, وأن القضاء عليها يحتاج الى الاعتراف الصريح والصادق والمخلص بوجودها وتشخيص مسبباتها ومسببيها, ووضع الحلول لمقاومة عودتها, وتهيئة التربة لإنباث ثقافة إنسانية معادية للعنف, ثم وضع برنامج وطني طويل الأمد لإعادة إعمار ما تهدم من الذات الوطنية. وكل ذلك لن يتحقق من خلال نسيان الماضي. فهذا النسيان سيقود لا محالة الى تكرار دورة الشر. وهنا أذكر ميري بما قاله الفيلسوف جورج سانتايانا, وهذا ما آمن به أيضا ونفذّه على أرض الواقع أحد أبرز أطباء أمراض العنف الثقافي في التاريخ القريب, القس ديزموند توتو. إن مقاومة الشر لا تتم بنسيانه أو الاحتيال عليه, بل بكسر حلقته المقفلة. وكسر هذه الحلقة لا يتم إلا من طريق سياسة التسامح والمصالحة, القائمة على الاعتراف الطوعي, الصادق, بالخطأ وتشخيص أسبابه ومعالجة جذوره, لا بابتلاعه. لأن الشر فاكهة سامة, لا تقبل الابتلاع! أما كون المساهمة في ثقافة العنف وجهة نظر شخصية, فهذا أمر فاسد أخلاقيا قبل أن يكون فاسدا عقليا. لأن القصائد التي طالبت بتسميد الأرض بالجثث, والتي تغتت بالعرفاء والرصاص والقناصة, لم تكن وجهة نظر شخصية. فلم تكن وصفا لفراشة عاشقة تقف على زهرة, بل كانت فعلا اجتماعيا تدميريا موجها الى الذات الوطنية بهدف تلويثها وتخريبها وإذلالها. إن الأوطان والشعوب ليست ملكيات خاصة لأحد, وليست حقلا للتجارب الشخصية لهذا الفرد أو ذاك, مهما كانت درجة رقيّه الفني ومنزلته الأدبية. هنا لا توجد حسابات فنية, هنا توجد أرواح بشرية, أرواح بشرية وما يلازمها من مسؤولية أخلاقية!

6- ختاما يعيّرنا السيد ميري بأننا نحتمي بـ "جنسيات أجنبية". هذا العار يعتبره كثيرون وشما روحيا طمغهم به الجلاد, فهو هديته الوحشية لهم, وهو الوثيقة العالمية الحيّة المذكّرة ببربرية ثقافة العنف, التي جردت عدة ملايين من العراقيين ومن بينهم مئات المثقفين, من أول شرط حقوقي للمواطنة, حق الجنسية. وكان الأجدر بميري, المتسامح مع الجلادين, أن يقف مع هؤلاء ويعينهم بقلمه- وهذا أضعف الايمان- لغرض استرداد حق شرعي سلبه البرابرة منهم. ولكن, لكي لا نحمّل ميري وزر طلب يشق عليه, سأكتفي بتفسير قضية الجنسية ثقافيا, وفق منهجي العقلي المغاير. حينما عالج مؤسس علم الإناسة ليفي شتراوس موضع الإناسة قسمها الى قسمين رئيسين, الأول اجتماعي وهو الموضوع, والثاني ثقافي وهو الوسيلة. ولغرض تبسيط الفكرة سألجأ الى أمثلة تطبيقية عراقية خالصة لا تخلو من الطرافة. إن فعل القتل فعل إجتماعي, لكن وسائل تحقيق القتل, بما في ذلك قصائد التحريض وبكائيات النادبات والقوّالات هي ثقافة. حينما نتأمل وظيفة المشنقة نكتشف أنها وسيلة, فهي أداة ثقافية, لكن الشنق موضوع. ومثلها الحال مع نصب الطاغية وخوذ الحرب وشواهد القبور. وتأسيسا على هذا فإن نزع الجنسية فعل سياسي, يشبه قطع الرقبة, وهو فعل مات كإجراء بموت مشرعه, لكن آثاره لم تزل باقية, أي لم تمت. فلا من استلبت جنسيته استرد حقه, ولا من آمن بثقافة الجلاد نسي أن يستخدم هذا الإجراء الجائر لطعن الآخرين به. في هذا المثال البسيط والمعبّر أصل الى خلاصة توجز خلافي مع السيد ميري. إن ثقافة الشر لا تموت بموت رموزها. هناك ورثة يتبنونها خفية وعلنا, وهناك نقلة مخلصون يتحملون مهمة إيصال الإرث بأمانة تامة الى الأجيال القادمة. ولكن, في المقابل, هناك دائما وأبدا من ينتهزون الفرص كلها لغرض مقاومة هذا الإرث الوحشي. هكذا تبدو اللوحة في نظري. إنها واقع مأساوي مروع. لكنها ليست نصوصا, كما ظن ميري, بل هي طريقة لإدارة الحياة ومنهجا لتنظيم الواقع تم تأسيسه بالعنف وبنيت محركاته الداخلية والخارجية على سلسلة متصلة من الحروب الإقليمية والمحلية. أما النصوص فهي مجرد تعبير وانعكاس صادق أو كاذب, فني أو لا فني, عن منهج عسكرة الحياة وعن دورة الواقع العنفي. إن إنكار وجود العنف مفهوما وواقعا, والتنصل عن الديكتاتور وتغييب المشكلة أو ابتلاعها يعني أمرا واحدا: إقفال دائرة الشر بإحكام. وهذا يعني إعادة إنتاج دورة العنف وما يرافقها من بنى ثقافية ومفاهيم ونصوص. هذا ما أعنيه بثقافة العنف وما لا يستطيع السيد ميري إدراكه, وهذا يقودنا الى نتيجة واحدة: إعادة التحصن في الخنادق. أينا أصدق وأعقل وأطيب وأعمق؟ لا أعرف, لكني لن أقف - طوعا أو كرها- خارج الخندق المعادي للعنف والشر, سواء أجاء في صورة ديكتاتور أو إحتلال أو إرهاب تكفيري وطائفي أو عرقي, أو في صورة هلوسات يراد تجييرها لصالح مشروع سياسي يحنّ الى زمن أغبر, ولكن بثوب, يدعي زورا, فصل الثقافي عن السياسي وإعلاء شأن الفني. هذا هو جوهر خلافنا وتلك هي زبدته, وما مقالة ميري سوى تأكيد حي على أن ثقافة العنف لم تمت, بل تجددت, وهي في طور ارتداء زيها الأحدث, زي ما بعد الصنم.
لقد أمتعتني مناقشة السيد ميري, فوجب عليّ شكره.

رد على مقالة خضير ميري " الناجون من العنف" حول المقابلة الصحفية التي أجراها مازن لطيف مع مؤلف كتاب ثقافة العنف, والتي نشرت في الحوار المتمدن وصحيفة الصباح



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشكلة كركوك أم مشكلة الحرب على العراق؟
- الجنس بين الرقيب الداخلي والرقيب الرسمي
- من زعم أن العراقيين لا ينتحرون؟ - دعوة رسمية لحضور حفلة انتح ...
- اجتثاثا البعث بين الحقيقة والوهم
- هل التربة العراقية صالحة لإنبات ثقافة مقاومة العنف؟
- اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي
- هل العراقيون مؤهلون لخلق حركة ثقافية معادية للعنف؟
- تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق
- جواز سفر عيراقي, ولكن لغير العراقيين!
- هل كان الرصافي طائفيا؟
- نيران خفيّة: ما لم تقله جوليانا سيغرينا
- لقد سقط صدام, ولكن باتجاه السماء
- مقدمة لدراسة الشخصية العراقية
- جيش الوشاة.. شعراء السيد القائد.. شعراء السيد العريف
- نوبل على مائدة هادئة
- خرافة اجتثاث البعث في التطبيق
- اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وص ...
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي
- رسالة الى صديق لبناني
- الواقعيون العرب:من نظرية المؤامرة الى نظرية المغامرة


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سلام عبود - حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة الصباح العراقية