أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سهر العامري - عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 12















المزيد.....


عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 12


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 1856 - 2007 / 3 / 16 - 14:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



ويعاملون من بعض الأجهزة الإدارية بطرق مغايرة لتلك الطرق التي يعامل بها آخرون من أبناء الوطن . فلقد نظر الى سكان الجنوب نظرة شك ، واعتبروا من أنهم موطن استياء وتذمر، موطن قد ينفجر في أيّة لحظه كما انفجر من قبل في أكثر من هبة وانتفاضة ، فهم ، والحال هذه ، خطر داهم يتهدد الحكام ، ومن ورائهم أسيادهم الإنجليز الذين رأوا فيهم أغلبية مناهضة لتواجدهم في العراق ، أو لمن حكم نيابة عنهم.
لقد استولى هذا الاعتقاد على عقول الحكام الذين ربطوا مصيرهم بمصير سيدهم ، وبات لزاما عليهم حرمان سكان الجنوب ، ومنهم عرب الأهوار ، من أيّة نافعة تنزل بالوطن ، حرمانهم حتى من الهجرة والعيش على حوافي المدن ، كبغداد والبصرة ، في أكواخ حملوها على ظهورهم بعد أن ضاقت الأرض بهم.

أما الشين الثانية* فهي أن الأغلبية المطلقة من سكان المحافظات الجنوبية تكون على مذهب الشيعة ، تعيش بينهم البعض من أهل السنة ، وبيوتات من المسيحيين ، وبنسبة أكبر تعيش طائفة الصابئة في مناطق عديدة من هذه المحافظات. لقد عاش الجميع ، وعلى امتداد عصور في ظل تسامح ديني ليس له مثيل ، ولم تستطع أيّة واقعة ، على ندرتها ، أن تكدر صفو هذا التلاقي الذي تجسد في حسن الجوار ، وفي العمل المشترك برغم من طبول التفرقة التي كانت تدقها السلطات من حين لآخر ، وما كان الهدف منها حماية هذه الطائفة أو تلك ، وهذا المذهب أو ذاك ، وإنما كان هدفها ضمان بقاء من يحكم على كرسي حكمه. ولا أراني هنا بحاج الى استعراض تاريخ الشيعة منذ أن أطلق الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام قولته الشهيرة: " لقد تقمصها مني ابن قحافة وإنّه ليعلم أنّ موقعي منها كموقع القطب من الرحى. " ويعني بذلك الخلافة ، ويعني بابن قحافة الخليفة أبا بكر. ومنذ تنادى أبو سفيان : " تلقفوها يا آل أمية تلقف الكرة ، فواللّه ما جنة ولا نار " ويعني الخلافة ، كما يعني بآل أمية الخليفة عثمان بن عفان.

لقد تعرض الشيعة على امتداد تاريخهم الى ألوان من الظلم والاضطهاد والقتل ، كما قاموا في الوقت ذاته بأكثر من هبة وثورة ، كان أخطرها على الإطلاق تلك التي عرفت في التاريخ بثورة الزنج ، والتي قادها علي بن محمد الذي يرد نسبه الى آل البيت على بعض الروايات ، حيث ساهمت في تلك الثورة أعداد غفيرة من المسلمين الزنج القادمين من السواحل الأفريقية الشرقية للعمل في ممالح البصرة ، والذين دعوهم بـ" الشورجة " أيّ عمال الملح ، أو العمل في بساتين نخيلها الكثيرة حيث دعوهم بـ" الأكر ".
لقد تواصلت هذه الثورة على مدى ما يقرب من عقدين من الزمن ، كادت تطبق على قصر الخلافة في بغداد ، لولا أن الخليفة استنجد بمماليك ** مصر فانجدوه. والملفت للنظر هنا هو أن العباسيين أنفسهم كانوا قد استخدموا أعداداً غفيرة من الزنج المسلمين في ثورتهم على الحكم الأموي ، خاصة في المعركة الفاصلة التي دارت رحاها عند الفرات الأعلى بقيادة عبد اللّه بن علي عم أبي جعفر المنصور من الجانب العباسي ، وبقيادة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية من الجانب الأموي ، وبعد أن نفضت المعركة غبارها وقعت بنات مروان بن محمد في الأسر، ويبدو أنهن تعرضن لسوء معاملة من قبل جنود بني العباس " الزنج " فشكت إحداهن ذلك الى عبد اللّه بن علي قائلة : أيهون عليك أن يعبث الزنج ببنات العرب ، وأنت العربي ؟ فما كان من عبد اللّه بن علي إلا أن أمر بقتل أولئك الجنود المسلمين ، لكن حين قام المسلمون الزنج بثورتهم ضد بني العباس تحول الواحد منهم من زنجي مسلم الى زنجي فقط ، وتحولت الثورة من ثورة فقراء معدمين على ارستقراطية ظالمة الى ثورة للزنج بمنطق مؤرخي العصر العباسي ، ذلك المنطق الذي يحابي أرباب نعم هؤلاء المؤرخين من خلفاء بني العباس ، وكان في المقدمة من هؤلاء الطبري الذي ما انفكت لعناته تلاحقهم للساعة.
ولهذا كان ثوار الجنوب ، ومنهم عرب الأهوار وزنجها ، قد استوثقوا من قائدهم ، وأخذوا عليه العهود في إنصافهم إن نجحت الثورة ، وحين استجاب علي بن محمد لمطالبهم نهضوا معه.
 ولازال أحفاد الزنج***، على قلتهم في أهوار جنوب العراق ، يفتخرون بمشاركتهم في الثورات التي قام بها الشيعة ، فقد روى لي صديق معلم ، اسمه خلف السيد محمد ، وهو سيد يرمي بنسبه الى آل البيت ، وهو كذلك من عرب الأهوار قال : التقيت زميل دراستنا الإبتدائية الزنجي ، عبيد ، وبعد أن سلم عليّ مددت يدي ليقبلها ، على العادة التي يقبل بها بعض الناس في جنوب العراق أيادي السادة الذين ينتسبون الى آل البيت ، وكنت أنا ، يضيف صديقي ، أحاول بمزح استفزازه ، فما كان منه إلا ان ردّ عليّ مستنكرا : لقد ولت هذه العادة منذ أن اختلط دم الحسين بن علي بدم جون على أرض كربلاء ، وجون هذا كان خادما للحسين ، وقاتل دونه ، واستشهد معه.

أقول إن عرب الأهوار في مطلقهم من الشيعة ، ما عدا الصابئة الذين قاسموهم شضف العيش ، وقلة الرزق ، وحيف الحكام ، لائذين ( بالبطائح بعيدا عن فضول الآخرين واضطهادهم ) (1) ساكنين حواضر 
الأهوار بخاصة ، متخذين من مزاولة الحرف مصدرا للعيش ، تلك الحرف التي كان يعتمد عليها عرب الأهوار فيما تقدمه لهم من أدوات إنتاج مثل : المحراث والمسحاة والمنجل ، أو ما يتعلق منها بوسائط النقل كصناعة السفن والزوارق، وإعداد المرادي لها ، يضاف الى ذلك صناعة الحلي من ذهب أو فضة.

وعلى رغم ما يتمتعون به من كثير خبرة ، وحدة ذكاء ، وقدرة على الخلق والإبداع ظلت حرفهم وآلاتهم الإنتاجية على حالها ، ودونما تقدم بسبب الإهمال الواضح الذي تعرضت له مناطق جنوب العراق تحت السيطرة العثمانية والبريطانية وما والاهم من الحكام. والذي أدى بدوره الى تخلف هذه الحرف وهذه الآلات ، وعدم تطورها ، رغم مرور دهور على نشأتها الأولى.

لقد عاش صابئة الأهوار مع عربها بيتا لبيت **** ، ودكانا لدكان ، لكن الواحد منهم ظلّ يصرف أمور حياته الخاصة حسب ما يمليه عليه دينه ، دونما الإخلال بالعلاقة الاجتماعية التي قامت بين الطرفين من خلال العمل المشترك ، والجوار الذي امتد لسنوات طويلة ، كما نظر عرب الأهوار إليهم نظرة المسلم للموحد ، وهم عند عرب الأهوار من أتباع النبي يحيى بن زكريا ، ورد ذكرهم في القرآن، يصلون ويصومون أياما معلومة ، إلا انّ ذلك لم يمنع من أن يقف عرب الأهوار موقف الرافض والمزدري ، وإن شئت المحتقر لبعض عاداتهم في الذبح ، وفي عدم ختان أطفالهم ، وعند حضور أحدهم الموت ، والواحد من عرب الأهوار كان لا يحيي أحدهم بتحية الإسلام " السلام عليكم " ، إنما يعوضها بتحية : صبحكم اللّه بالخير أو مساكم اللّه بالخير، وذلك بحسب وقت إلقاء التحية ، وهذا ما يفعل الرجل الصابئي حين يريد أن يحيي رجلا مسلما كذلك ، لكن كلا الطرفين متمسك بقواعد التحية السائدة بين عرب الأهوار ، والمسلم بعد ذلك لا يحلّ له الأكل مع الصابئي وذلك لاختلاف طريقة الذبح بينهما، كما انّ التزاوج بينهم كان صعبا . وكانت المشاركة في المناسبات الدينية والأعياد معدومة بين الطرفين. 

وعما يتصل بمذهب الصابئة يقول ابن العبري : ( والذي تحققنا من مذهب الصابئة أن دعوتهم هي دعوة الكلدانيين القدماء بعينها وقبلتهم القطب الشمالي ، ولزموا فضائل النفس الأربع . والمفترض عليهم ثلاث صلوات ، أولها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقل لتنقضي مع الطلوع ثماني ركعات في كلّ ركعة ثلاث سجدات. والثانية انقضاؤها مع نصف النهار والزوال خمس ركعات في كلّ ركعة ثلاث سجدات. والثالثه مثل الثانية تنقضي مع الغروب. والصيام المفروض عليهم ثلاثون يوما أولها الثامن من اجتماع آذار. وتسعة أيام ، أولها التاسع من اجتماع كانون الأول. وسبعة أيام ، أولها ثامن شباط. ويدعون الكواكب. وقرابينهم كثيرة لا يأكلون منها بل يحرقونها ، ولا يأكلون الباقلي والثوم وبعضهم اللوبياء والقنبيط والكرنب والعدس. وأقوالهم قريبة من أقوال الحكماء ومقالاتهم في التوحيد على غاية من ألتقانة 
 ، 
ويزعمون أن نفس الفاسق تعذب تسعة آلاف دور ثمّ تصير الى رحمة اللّه تعالى. ) (2) 
وقد نقل جيفين يونغ عن الرحالة المشهور لايارد الذي كتب عنهم سنة 1840م يقول:( قابلت أفراداً من طائفة الصابئة من المعدان أو مسيحيي القدس يوحنا *****كما يقال عنهم، وهي طائفة قديمة تتنقل من قرية الى أخرى، ويشتهر أبناؤها بصناعة الحلي من الفضة والذهب، يعاملهم العرب معاملة طيبة إلا انهم لاقوا الاضطهاد على أيدي الفرس والأتراك.)(3) أما ثيسجر فيرى أن الصابئة ( كانوا محتقرين ) (4) بنظر عرب الأهوار ، وهو بهذا يرى الرأي ذاته الذي ذكره الدكتور شاكر مصطفى سليم من كون الصابئة كانوا( أقلية دينية ينظر اليها باحتقار ) (5) 
وكان الأجدى لثيسجر أن يصرف رأيه في الاحتقار الى عادات الصابئة ، وليس الى الصابئة كبشر ، خاصة وإنهم قد عاشوا بين أناس لاقوا اضطهادا من الأتراك مثلما لاقوا هم ذلك منهم ، وربما فاق اضطهاد الأتراك للشيعة في العراق ، ومنهم عرب الأهوار، اضطهادهم للصابئة ، فقد بنى أحد ولاتهم في ريف مدينة الديوانية تلا من جماجم الشيعة ظلّ مرفوع الهامة على مدى أربعين سنة. 
يضاف الى ذلك طيب المعاملة التي خصّ بها عرب الأهوار الصابئة ، والتي لاحظها الرحالة لايارد ودونها قبل أكثر من مئة سنة على ما لاحظه ثيسجر من احتقار للصابئة عند عرب الأهوار، وهنا لا يسع المرء إلا الاستنتاج بأنّ الوعي الاجتماعي أو الوعي بالعلاقة الاجتماعية أصيب بتراجع لا بتقدم ، وهذا لا يمكن أن يحدث إطلاقا في ظروف طبيعية.

لقد خطت هذه العلاقة خطوات كبيرة بعد ما يقل أو يزيد على عشر سنوات من التاريخ الذي دون فيه 
 
ثيسجر كتابه : عرب الأهوار، وذلك حين زار جيفين يونغ الأهوار ثانية عام 1973م، وكتب : ( في الماضي كان المسلم يتردد في تناول الطعام مع أفراد من تلك الطائفة أما الآن فقد تغير الوضع ، وقد سمعت في العام الماضي بأن شابا مسلما تقدم لخطبة زميلة له في جامعة بغداد من طائفة الصابئة.) (6) 
وأخيراً، لا بد من أن الصابئة وهم ينزلون بين عرب الأهوار قد داخلهم شعور بالأمن والأمان ، وإلاّ كيف لإنسان أن يقطن مكانا لا يشعر فيه بأمن وبطيب علاقة مع سكانه الآخرين حتى لو كانت هذه العلاقة لم ترقَ الى العلاقة المثالية في مجتمع تباينت بعض عاداته ، وتلونت مذاهبه.
إنّ ملاحظة جيفين يونغ المارة الذكر في رقي العلاقة الاجتماعية بين الصابئة والعرب المسلمين كانت صادقة وصائبة، إذ أنها، خاصة بين عرب الأهوار والصابئة، قد ارتقت وتقدمت خلال سني الأربعينيات من هذا القرن وما تلاها ، وذلك بسبب من تزايد عدد المدارس ، وتخرج أعداد من الطلاب ، وأعداد من المعلمين ، مسلمين وصابئة ، وصار الطالب المسلم يجلس الى جوار الطالب الصابئي ، وكلاهما يستمع لمعلم قد يكون مسلما ، أو قد يكون صابئيا ، وكنت أنا واحدا من بين طلاب الذين كان أستاذهم الأول صابئيا.
لقد نهض الرعيل الأول من المعلمين الذين حلّوا بين عرب الأهوار بمهامهم بتفان ٍ وحرص شديدين ، وكان من سوء حظ الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق أنها كانت تبعد المعلمين الذين يتصفون بصفات وطنية عالية الى المناطق النائية من العراق ، وفي المقدمة من هذه المناطق منطقة أهوار جنوب العراق ، ومن هناك وبهدوء انطلق هؤلاء المعلمون يبثون الوعي السياسي بين طلابهم ، وبين أهالي الأهوار أنفسهم. فلقد انصبت التوعية السياسية لهؤلاء المعلمين، ليس على التخلف الذي يلفّ الريف العراقي فقط ، وإنما على الظلم الذي كان يلحقه رجال الإقطاع بالفلاحين ، وعلى الظروف المزرية التي تحيط بالناس هناك ، والوضع في العراق بشكل عام. ولهذا أعتبر ثيسجر أنّ التعليم أو التربية التي كانت تجري في المدارس عند عرب الأهوار هي التي كانت تحرض الفلاحين على الهجرة. وعلى ما أعتقد أن ثيسجر كان يلاحظ شيئا ما قد تجاهله هو ، لأنه لا يريد أن يفسد متعة الترحال على نفسه ، أو لأنه ما استطاع تلمسه عن كثب. فما هو هذا الشيء ؟
هنا يأتي حديث الشين الثالثة، وهو أنّ عرب الأهوار قد عرفوا مطلع الأربعينيات من هذا القرن نشاطاً متزايدا لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي الذي كان ولا يزال يعمل بشكل سريّ ، وقد قام بنقل هذا النشاط كادر من المعلمين الذين عينوا في المدارس المطلة علي حافات الأهوار ، وقد عمل هؤلاء المعلمون ، الى جانب واجبهم الوظيفي ، على بث الوعي السياسي بين الطلاب ، كما عملوا على مدّه الى السكان من عرب الأهوار، وقد تركز هذا النشاط على الفلاحين والحرفيين بالدرجة الأولى ، وعن هذا النشاط روى لي 
المرحوم سيد عطية سيد جابر عام 1977م أنّ المعلم دلي مريوش ، وهو صابئي ، شكل أول خلية للحزب الشيوعي في منطقة الفهود من هور الحمّار عام 1944م ، وكانت هذه الخلية تضم ، الى جانب سكرتيرها المعلم دلي مريوش ، الأعضاء: سيد عطية سيد جابر، تاجر قماش. هاشم كزهور، فلاح وخياط. فاخر سلمان، فلاح وخياط. أحمد الحاج محمد ، فلاح. ولم يذكر لي اسم عضوين آخرين هما : الأول هو ميس جميعة ، فلاح ، أستشهد على إثر التعذيب الذي تعرض له بعد انقلاب شباط الأسود عام 1963م ، والثاني هو سيد جعفر سيد علي ، وهو خياط رُحل من الخلية الى مدينة النجف ، وباشر نشاطه السياسي فيها ، وقد أصبح وجها من الوجوه النقابية في المدينة المذكورة بعد قيام ثورة 14 تموز، وكان هو قد حدثني عام 1966م ، أنّه كان شديد الحنين لخليته الأولى في الأهوار، وكان كثرا ما يراسل العضو أحمد الحاج محمد، مستفسرا عن تقدم العمل الحزبي في الأهوار ، ولما كانت الرسائل البريدية عرضة للمراقبة فقد عدل عن الكلام الصريح الى الرمز فيكون السؤال: ما هو سعر "التمن " الأحمر عندكم ؟ والتمن الأحمر هو نوع من أنواع الرز التي تزرع في أهوار العراق ، وبهذا يكون السؤال مفهوما ، ومنسجما مع واقع الحال ، ولا يثير شكوك الرقابة حتى لو تعرضت الرسالة للقراءة. 
أما سيد عطية سيد جابر فقد ذكر لي أنّ جريدة القاعدة التي يصدرها الحزب الشيوعي إذ ذاك ، كانت تصلهم من سوق الشيوخ وعبر الهور ، وكان الاسم المتداول بينهم في حالة السؤال عن وصولها من عدمه هو " الحجية " وهذا الاسم لا ايثير شكا ، فهو لقب لكلّ امرأة أدت مناسك الحج في مكة ،
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كان لأخبار الحرب العالمية الثانية صدىً واسعا عند عرب الأهوار ، خاصة بعد الانتصارات التي حققها الجيش الأحمر على القوات النازية المتقهقرة ، وقد كانت هذه الأخبار تجد لها محطّ سرور في قلوب وعقول سكان الأهوار ، حيث كانوا يأملون الخلاص من سيطرت مستعمر بغيض أيضا ، لازالت أصوات إنفجارات قنابله تسمع منذ سنوات خلت بآذان من شهدوا تلك الوقائع التي دارت على أرض ومياه الأهوار ، وكانوا يأملون الخلاص كذلك من حكومة ربطت مصيرها بالإنجليز، وسارت حسب ما رسموا لها. وبالإضافة الى نشاط الحزب الشيوعي المتزايد، وإعدام قادته ، فقد عبّأت سنوات الحرب الرأي العام العراقي باتجاه الثورة ، فكانت وثبة كانون عام 1948م ، وما الموافقة على معاهدة بورتسموث من قبل الحكومة العراقية إلا عود الثقاب الذي أشعل النيران.

سألت خيون بدر الرميض شتاء عام 1977م عن السبب الذي دعاه الى أن يسمي ابنه باسم: ستالين ، وعن ايّ طريق تعرف هو على هذا الاسم؟ فردّ قائلاً: إنّنا كنّا نتابع أخبار الحرب من خلال مذياع كنّا نملكه ، وإننا كنّا نحبذ انتصار الجيش الأحمر على الجيش النازي. ولا أراني بعيدا عن الحقيقة إن قلت إنّ هذا الأعجاب الكبير بشخص ستالين من لدن عرب الأهوار كان مرده الى رغبتهم في غمز قناة الأنجليز ، وحكومتهم التابعة ، فخيون لم يكن بعيدا عمّا فعله الأنجليز بأبيه وعشيرته ، وعرب الأهوار عموما ، وقد أشرت أنا الى ذلك فيما مضى من صفحات هذا الكتاب. والمرد الثاني هو أنّ الحب والاعجاب القبلي ينصبان على القائد الشجاع الذي يدافع عن وطنه ويرد العدوان ، وليس على القاتل المجرم بلغة عرب الأهوار ، وأحيانا يختلط هذا المفهوم عند ابن القبيلة ، فيكون التمجيد للقوة أيّا كان موضوع هذه القوة ، فذات مرة قلت مازحا لبعض الأخوة اللبيين في مدينة بنغازي ، والذين كانوا يبدون أعجابا بصدام بسبب من شنه حربا على الكويت ، إنّنا نحن العراقيين نقبل أن تعطونا العقيد القذافي ، ونعطيكم عوضاً عنه صداما.

يضاف الى كلّ ما تقدم هو أنّ ثيسجر لم يرد من كلمة التربية أو التعليم إلا الوعي السياسي الذي أخذ طريقه الى الفلاحين، متجليا ذلك برفضهم للظلم من خلال الهجرة الى المدن، والتي تعاظمت ، كما لاحظها هو، عام 1955م ، وإلاّ فالمدرسة بتعليمها وتربيتها ومعلميها قد قامت في الأهوار قبل سنوات عديدة من قدوم ثيسجر لها ، فمدرسة الأسدية في الجبايش تأسست عام 1924م، ومدرسة الفهود الأبتدائية تأسست عام 1933م ( حول اسمها الى مدرسة الخزرجية فيما بعد )، فأين كانت المدرسة يتربيتها وتعليمها عن انتشار الرفض بين فلاحي الأهوار للظلم الذي كان يمارس بحقهم من قبل الاقطاع ؟ 
وإذا كان ثيسجر لم يشر الى عامل الوعي السياسي بشكل جليّ، فإنّ جيفين يونغ كان أكثر منه وضوحاً على عادته حين قال( إن الاضطرابات كانت تسود مدينة العمارة انذاك حيث انتشرت فيها الافكار اليسارية كرد فعل ضد الاقطاع . ) (6) ومع هذا فإنني أرى أنّ الاضطهاد هو الذي يعرف بالثورة ، وإلاّ لما ثار عبيد روما على أسيادها ، ولا صعاليك مكة على تجارها ، لكن تظل قولة ماركس " إنهم يقتحمون السماء بأيادي عارية "، وذلك حين أشعل عمال كومونة باريس نيران الثورة ، تظل خالدة في هذا الشأن.

إنّ تنامي الوعي السياسي والاضطهاد عاملان مهمان أديا الى تصعيد نضال الفلاحين ضد الحيف الذي ألحقه بهم رجال الاقطاع من شيوخ العشائر ، خاصة بين فلاحي محافظة العمارة ، حيث تحول الشيخ الى رجل إقطاعي يملك مساحات شاسعة من الأرض ، وجيشاً من الفلاحين يسخره لخدمته ، بعد أن تنكر 
لرابطة الدم التي تربطه بأفراد عشيرته ، تلك الرابطة التي تشكل أهم الدعامات التي يقوم عليها البناء القبلي القديم ، ولهذا هبّ الفلاحون يدافعون عن حقوقهم المسلوبة من قبل الإقطاع المدعوم من حكومة مستعمر ، وقد اتخذ هذا الدفاع في بعض الأحيان شكل انتفاضة كتلك التي حدثت بين فلاحي آل إزيرج 
وآل بو محمد عام 1952م. والتي حدثت تحت توجيه من الحزب الشيوعي. 
لكن الحال ظلت مختلفة مع فلاحي أهوار محافظة الناصرية ، وبعض فلاحي أهوار محافظة العمارة****** ، تبعا للعلاقة القائمة بينهم وبين شيوخ عشائرهم ، الى هذه النقطة أشار ثيسجر فقال: ( كانت العلاقة القبلية القديمة قد اختفت بين الشيخ ورجال قبيلته في عشيرة آل بو محمد وآل إزريج ، وعاد كلا الشيخين فاقد الأهمية ، في حين إنها ظلت قائمة بين القبائل الرعوية ، فقد كان الشيخ مزيد شيخ آل عيسى يساعد قبيلته لسنوات عدة في زراعة الشعير في البرّ، حيث لم تكن الظروف ملائمة ، فأحيانا يكون الماء غزيراً جدا ، وأخرى يكون قليلا جدا ، أنها مقامرة قبلية ، فقد غطس الشيخ في ديون للحكومة عميقاً، وعلى أيّة حال، وفي ساعة الحاجة جمعت قبيلته الدين فيما بينها ودفعته. ثانية هذا هو محسن بن بدر الرميض من عشيرة البوصالح الذي طلب مني ذات صباح أن آخذه حالاً في زورقي الى مركز ناحية يبعد ساعتين صعودا في نهر الغراف ، وحين رسونا اندفع بخطى واسعة داخل دائرة حكومية وقتها كان مديرها يدرس قضية ، وبعد أن حياه قال بحدة لرجل سجين: إذهب واصعد الى الزورق في الخارج، ثم قال الى المدير: هذا ليس شأنك ، فالرجل هو أحد أفراد عشيرتي ، وأنا الذي سوف يتعامل معه ، بعدها جلس وتحدث بلطف لفترة ، قبل طلب المعذرة.) (7) 
وليس الحال هكذا مع جميع العشائر التي يتشكل منها مجتمع عرب الأهوار ، فهناك عشائر لا يحكمها شيوخ مستبدون ، ولم تتخذ من الرعي مهنة لها ، إنما مارست هذه العشائر ، وبعد استقرارها الطويل في مناطق الأهوار ، مهنة الزراعة بعد أن تخلت عن مهنة الرعي التي تحتم الترحال المتواصل في ظروف مناخية قاسية ، ولهذا أخذ أفراد العشيرة الواحدة يتقاسمون قطعة أرض بنسب متفاوتة ، غالبا ما تكون امتدادا لمواطن سكنهم ، وغالبا ما يكون رئيس العشيرة هذه قد اكتسب لقبه هذا من مزايا حميدة رأتها العشيرة فيه ، وليس لما يملك من أرض ، أو ماشية ، ومن هذه المزايا رجاحة العقل ، والشجاعة والكرم .
= = = = = = = = = = =
* وفي السنة التي قبلت فيها أنا في كلية التربية من جامعة بغداد قبل زميل لي من أهالي محافظة الديوانية في كلية الادارة من نفس الجامعة، وكان قد سبق له أن قدم أوراقه الى الكلية العسكرية التي رفضت قبوله فيها بسبب من 
أن أسمه كان حسين علي حسين.
** الخليفة العباسي الذي جرت على يديه أكثر حروب الزنج هو الموفق باللّه، أما مماليك مصر فمنهم طولون وهو مملوك تركي كان لدى الخليفة المأمون، وابنه أحمد المولود في بغداد سنة ٢٢٠هـ
*** أكثر هؤلاء شهرة على صعيد العراق هو القاص والروائي العراقي فهد الأسدي ، والذي ضمني وإياه سجن الجبايش في شباط الأسود عام 1963م.
1- مجلة الثقافة الجديدة/العدد 10/ السنة1992/ ص33.
**** بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ، وسقوط نظام صدام ، وبعد الغزو الإيراني لجنوبه على وجه خاص ، تعرضت الأقليات الدينية من مسيحيين وصابئة الى حملة من الملاحقة والقتل ، والى الحد الذي استولى فيه القادمون من إيران على دكاكينهم في سوق صياغة الذهب في البصرة ، مثلما أجبر بعضهم على ختان أنفسهم ، وفي ظروف إكراه لم يشهد لها العراق مثيلا من قبل ، ولهذا فرت الأغلبية المطلقة من هؤلاء الى خارج العراق ، أو الى كردستانه ، ولم يبق منهم في وطنهم الأصلي ، العراق ، إلا قلة لا تتعدى الخمسة آلاف شخص ، وهم في حالهم هذا لا يختلفون عن حال أخوتهم العراقيين من أبناء الديانة المسيحية الذين انتشروا في أقطار الدنيا كذلك ، وفي مأساة لم تشهدها الأقليات الدينية في العراق حتى في العصور المتقدمة من قيام الدول التي حكمت باسم الإسلام .
2- تاريخ مختصر الدول ص 135.
***** ردّ الصابئة الى مسيحيي القديس يوحنا وهم حاول ثيسجر دفعه حين تحدث عنهم، إلا انّه وقع في وهم آخر حين ردّ مبادئ من ديانتهم للمانوية/ عرب الأهوار ص127 .في حين يرى سنان بن ثابت أنّ الصابئة واجهوا انشقاقاً واسعاً قاده ماني مؤسس المانوية في عام 240م بعد أن كان قد اعتنق هو وأبوه دينهم وعاش بينهم في الطيب/ مجلة الثقافة الجديدة/ العدد 10/ السنة 1992/ ص 34 ، وبهذا تكون المانوية هي التي تأثرت بمبادئهم وليس العكس.
3- العودة الى ألأهوار ص94ـ95.
4- عرب الأهوار ص 217 .

5- الجبايش / ج2/ ص453.
6- العودة الى الأهوار ص68.
****** قبيلة آل عيسى تعد من قبائل العمارة كما تعد من قبائل الناصرية ، فهي تقطن في أرض تابعة للمحافظتين ، بالإضافة الى عدم استقرارها .
7-عرب الأهوار ص196.



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حزب الفضيلة والخطوة الاستباقية !
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 11
- الحقيقة التي يجب أن لا تغيب !
- الغزال 2
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 10
- الهلع يستولي على عملاء إيران في العراق!
- الدب القطبي يسبح في مياه الخليج الدافئة !
- المتعة ومرض الأيدز يجتاحان المدن العراقية !
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد . 9
- تفاقم الصراع الأمريكي - الإيراني على العراق !
- دولة تعشق الفساد !
- البكاء على التدخل في الشؤون الداخلية !
- البكاء على التدخل في الشأن الداخلي !
- الموافقة الأمريكية والرغبة الإيرانية قتلتا صداما !
- حصيلة إعدام صدام نبذ الشيعة !
- هل تعدم أمريكا صداما ؟
- عرب الأهوار ، الضيف والشاهد . 8
- 7عرب الأهوار ، الضيف والشاهد
- ( الغزال ( 1
- تقرير جيمس بيكر- هاملتون : الفشل والانسحاب !


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سهر العامري - عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 12