علي حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 15:13
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
انهيار الدولار وتأثيره على الخليج
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
لعقود طويلة، منحت مكانة الدولار كعملة الاحتياط الرئيسية في العالم الولايات المتحدة مزايا استثنائية: القدرة على الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة، وتسجيل عجز كبير في الحساب الجاري، وتمويل العجز في الميزانية عن طريق طباعة النقود دون التسبب بالضرورة في التضخم. ولكن منذ بداية ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، تصاعدت التحذيرات بشأن "نهاية امتياز أمريكا الباهظ" ليصبح تحذيرا متداولا في الصفحات والنشرات الاقتصادية.
هذه المخاوف لها ما يبررها. فسياسات ترامب - بدءًا من هجماته على مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وصولًا إلى موقفه المتساهل تجاه العملات المشفرة - تقوض بشكل منهجي مكانة الدولار كعملة احتياطية. وفقدان الدولار لسيادته سيُعرّض حتمًا متانة الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل للخطر.
لكن التركيز فقط على تراجع امتيازات أمريكا يشبه ملاحظة بعض الأشجار المشتعلة مع إغفال الحريق الهائل الذي يندلع خلفها. إن فقدان الدولار لمكانته كعملة احتياطية سيتردد صداه إلى ما هو أبعد من حدود أمريكا، مُحدثًا صدمات في الاقتصاد العالمي.
الأسواق المالية، التي تراقب باستمرار المخاطر المحتملة، لا تحتاج إلا إلى عدد كافٍ من المشاركين ليؤمنوا بأن التهديد حقيقي حتى يصبح كذلك. فبمجرد أن يبدأ عدد كافٍ من المستثمرين ببيع أصل معرض للخطر، يتبعهم المزيد.
الأهم من ذلك، أن "الامتياز الباهظ" الذي تتمتع به أمريكا ليس مكافأةً لها لكونها القوة العظمى الرائدة في العالم، بل هو ببساطة نتيجة طبيعية لآلية عمل العملة الاحتياطية. فمثل الأفراد، تحتاج الدول إلى مستودع موثوق للقيمة، ووسيلة للتبادل، ووحدة حساب. ومع نمو الاقتصادات الأجنبية، يزداد إقبالها على الأصول المقومة بالدولار، مثل سندات الخزانة الأمريكية وسندات الشركات. وهذا الطلب يمكّن الولايات المتحدة من الحفاظ على عجز مستمر في الحساب الجاري والتجارة.
علاوة على ذلك، يتم تمويل عجز الموازنة الحكومية الأمريكية بشكل كبير من خلال بيع سندات الخزانة، التي تحظى بتقدير عالمي كأصل لملاذ آمن. ولأن جزءًا كبيرًا من هذه السيولة يستوعبه حاملو السندات الأجانب، يستطيع الاحتياطي الفيدرالي شراء هذه السندات بدولارات مُصدرة حديثًا دون التسبب في ارتفاع التضخم. كما أن الطلب الدولي القوي على الدين الأمريكي يُبقي أسعار الفائدة المحلية منخفضة، حيث إن المستثمرين على استعداد لقبول عوائد منخفضة مقابل أمان الأوراق المالية المقومة بالدولار.
إن استخدام ترامب لسلطته التنفيذية لفرض عقوبات على الشركات الأجنبية، وتجميد أصول البنوك المركزية في دول مثل فنزويلا، والمطالبة بحصة 15% من عائدات مبيعات الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين، وفرض رسوم استيراد مرتفعة على الحلفاء القدامى، قد زاد من الشكوك حول مصداقية السياسة الأمريكية. ونتيجة لذلك، يبحث الحلفاء عن بدائل قائمة على اليورو أو الرنمينبي، وبدأت بعض البنوك المركزية بتنويع محافظها الاستثمارية بعيدًا عن الدولار نحو الذهب وأصول أخرى، مما يُسرّع من انخفاض قيمة الدولار.
في حال حدوث انهيار حقيقي أو تراجع حاد في قيمة الدولار الأمريكي، ستواجه دول الخليج المصدرة للنفط تحديات اقتصادية هيكلية كبرى، نظراً لارتباط اقتصاداتها وعملاتها بشكل وثيق بالعملة الخضراء.
إليك تحليل لأبرز الآثار المتوقعة:
1. تآكل القوة الشرائية لإيرادات النفط
بما أن النفط يُسعر ويُباع عالمياً بالدولار، فإن أي انخفاض في قيمته يعني أن "البرميل الواحد" سيشتري سلعاً وخدمات أقل من الدول التي لا تستخدم الدولار (مثل دول أوروبا واليابان والصين).
• تضخم مستورد: سترتفع تكلفة الواردات من خارج الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى موجة غلاء داخلية في الأسواق الخليجية.
2. الضغط على "ربط العملات"
تربط معظم دول الخليج (باستثناء الكويت التي تربط عملتها بسلة عملات) عملاتها المحلية بالدولار بسعر ثابت.
• فقدان القيمة: انهيار الدولار يعني انخفاضاً تلقائياً في قيمة الريال أو الدرهم أو الدينار مقابل العملات الأخرى، مما قد يضطر البنوك المركزية الخليجية إلى اتخاذ قرارات صعبة مثل "فك الارتباط" أو تعديل سعر الصرف لحماية التوازنات المالية.
3. انخفاض قيمة الأصول الخارجية
تمتلك دول الخليج استثمارات هائلة عبر صناديقها السيادية مقومة بالدولار (مثل سندات الخزانة الأمريكية والأسهم في الشركات الأمريكية).
• خسائر دفترية: انهيار العملة سيؤدي إلى تراجع القيمة الحقيقية لهذه المدخرات والاحتياطيات النقدية، مما يقلص من "المصدات المالية" التي تعتمد عليها هذه الدول في الأزمات.
4. التأثير على الميزانيات العامة
• عجز الموازنة: إذا انخفضت القيمة الشرائية للدولار بأسرع من ارتفاع أسعار النفط (الذي يرتفع عادةً كتعويض عند ضعف الدولار)، فقد تجد الحكومات صعوبة في تمويل المشاريع التنموية الكبرى والرواتب بنفس الكفاءة السابقة.
5. التحول نحو "التنويع النقدي"
قد يدفع هذا السيناريو دول الخليج إلى تسريع خطواتها نحو:
• تسعير النفط بعملات أخرى (مثل اليوان الصيني أو اليورو).
• زيادة نسبة الذهب والعملات البديلة في احتياطاتها النقدية.
خلاصة القول: بينما قد يستفيد المصدرون من ارتفاع اسمي في سعر برميل النفط عند ضعف الدولار، إلا أن الضرر الذي سيلحق بالمدخرات والقدرة الشرائية للعملات المحلية سيكون هو التحدي الأكبر.
لحماية استثماراتها واقتصاداتها من مخاطر انهيار الدولار أو التقلبات الحادة في قيمته، تتبع دول الخليج بالفعل استراتيجيات استباقية، ويمكنها تعزيزها من خلال عدة مسارات تقنية ومالية:
1. تنويع سلة الاحتياطيات النقدية
بدلاً من الاحتفاظ بمعظم الاحتياطيات بالدولار الأمريكي، يمكن للبنوك المركزية الخليجية التوسع في:
• زيادة حصص العملات الأخرى: مثل اليورو، الين الياباني، واليوان الصيني، لتقليل المخاطر المرتبطة بعملة واحدة.
• الذهب كـ "ملاذ آمن": بدأت العديد من دول الخليج (مثل السعودية وقطر والإمارات) بالفعل في زيادة احتياطاتها من الذهب، كونه يحافظ على قيمته الحقيقية عند انهيار العملات الورقية.
2. تنويع الأصول الجغرافية والقطاعية (عبر الصناديق السيادية)
تمتلك دول الخليج أضخم الصناديق السيادية في العالم (مثل صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وجهاز أبوظبي للاستثمار)، وهي تعمل على:
• الاستثمار في الأسواق الناشئة: توجيه رؤوس الأموال نحو اقتصادات واعدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
• الاستثمار في "الأصول الحقيقية": التركيز على العقارات، البنية التحتية، الموانئ، ومشاريع الطاقة المتجددة، وهي أصول تظل قيمتها قائمة بغض النظر عن قيمة العملة المقومة بها.
3. تسعير النفط بسلة عملات (البترويوان أو البترويورو)
تعد هذه الخطوة هي الأكثر تأثيراً وجرأة؛ حيث بدأت مناقشات (خاصة بين السعودية والصين) حول قبول اليوان الصيني كعملة لتسوية مبيعات النفط.
• الفائدة: هذا يقلل الحاجة للدولار ويخفف من ارتباط الدخل القومي الخليجي بمصير العملة الأمريكية.
4. فك الارتباط التدريجي أو الانتقال إلى "سلة عملات"
• حالياً، تربط معظم دول الخليج عملاتها بالدولار. الحماية قد تتطلب الانتقال إلى نموذج الكويت، التي تربط دينارها بسلة موزونة من العملات العالمية. هذا النظام يوفر مرونة أكبر ويحمي القوة الشرائية للمواطنين من التضخم المستورد عند ضعف الدولار.
5. تطوير الأسواق المالية المحلية (الاستثمار في الداخل)
تقليل الاعتماد على الخارج من خلال:
• توطين الصناعات: (مثل رؤية 2030 في السعودية) يقلل من فاتورة الاستيراد، وبالتالي يقلل الحاجة لتوفير كميات ضخمة من العملة الصعبة.
• جذب الاستثمار الأجنبي المباشر: بدلاً من مجرد تصدير الأموال للخارج، يتم جذب الشركات العالمية للاستثمار داخل الخليج، مما يقوي الاقتصاد المحلي ويجعله أكثر صموداً.
6. التوسع في الاستثمارات التكنولوجية والمستقبلية
هناك توجه خليجي قوي نحو قطاعات الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، والطاقة النووية. هذه استثمارات في "المعرفة" و"التكنولوجيا" وهي أصول استراتيجية تتجاوز قيمتها التغيرات النقدية اللحظية.
خلاصة: حماية الاستثمارات الخليجية تعتمد على قاعدة "لا تضع بيضك كله في سلة واحدة"؛ أي التحول من الارتباط العضوي بالدولار إلى "تعددية نقدية وجغرافية" شاملة. فهل دول الخليج مستعدة سياسيا لاتخاذ خطوة فك الارتباط التام بالدولار في المستقبل القريب؟
#علي_حمدان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟