أحمد إبريهي علي
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 18:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ظهرت كتابات في الصحافة الإلكترونية وعروض في الفضائيات تحث العراق على الإنسجام مع المحور الأمريكي، ضد إيران وحلفائها، أو حتى الإندماج فيه، ويحاول ممثلوا هذا التوجه إقناع العراقيين بأن السلام والإزدهار يتوقف على هذا الإنحياز. وهولاء قد تناسوا أن إنتهاك إستقلال العراق ومسلسل سفك الدماء فيه وضياع فرص التنمية الإقتصادية، وضعفه العسكري الحالي، كل هذه الشرور قد بدأت بعد تكوين جبهة معادية لإيران من الولايات المتحدة وبريطانيا ولها إمتداد معروف في الشرق الأوسط، لمواجهة الثورة التي اطاحت نظام الشاه وإعلامها السياسي العنيف والمناوئ للغرب ومريديه وحلفائه في المنطقة. وكانت تلك الجبهة ، الأمريكية – الشرق أوسطية، راغبة أو متطلعة لتوريط إيران في حرب تُحدث إرتداداً او تغييراً يُخرجها من الإطار الذي وضعها فيه التيار الأكثر حماساً لنقض الترتيبات التي كانت قائمة آنذاك في المنطقة.
الإسلام السياسي الشيعي كان مؤيداً للثورة وزعمائها، واجهته الأجهزة الأمنية في العراق بشراسة منقطعة النظير، وربما راته لوحده سبباً كافياً للحرب، مثلما تراه الآن جماعات في العراق سبباً كافياً للتحالف مع أمريكا ضد إيران. القوات المسلحة الإيرانية أصبحت مرتبكة في تنظيمها بعد الثورة وإبعاد قياداتها العليا، وإنقطاع مصادر السلاح والخبرة التي إعتادت عليها، والضجيج الإعلامي ، والوعود في جانب والتهديدات في جانب آخر، في هذه الأجواء بدأت حرب الثمان سنوات.
هذه المعمعة أزالت بسرعة قشرة الحداثة في الثقافة العراقية، ليأخذ مكانها تاريخ قريش في الصراع على الرئاسة، والصفويين والعثمانيين، والشعوبية والعروبة ... ولم يقتصر الأمر على العراق بل دمرت حرب الثمان سنوات العقل العربي وأعادته إلى كهفه القديم ، ولم يخرج إلى يومنا. ونتائج تلك العودة المشؤومة معروفة ليس في العراق وسوريا واليمن فحسب بل في كل مكان. الأوضاع الدولية التي شجعت العقل العربي على إستئناس منجزات الفكر والمعرفة الحديثة، حتى نهاية سبعينات القرن العشرين، لم تعد قائمة، ولم تتشكل بعد مقومات ذاتية للنهوض.
ومن المفيد التذكير بنتائج ذلك الصراع مع إيران، والذي هيأت له عزلة إيران عن الغرب والعداء الذي برز بعد الثورة، وتدخل صريح من أطراف أخرى في المنطقة. في السنة الأخيرة لحرب الثمان سنوات، أو بعدها مباشرة، ظهرت هناك مخاوف من القوة العسكرية للعراق وإستعداد قيادته لركوب المخاطر وعدم القدرة على التنبؤ يقراراتها، في رأيهم. وايضا التنافس البدائي على الزعامة السياسية والأيديولوجية في المنطقة كان دائما رافداً لعدم الإستقرار والتخريب، وهو أيضا يضاف إلى أسباب الحرب مع إيران، والخوف من زعامة العراق للمنطقة بعد الحرب.
من جهة اخرى بينت وحدة معلومات الإيكونومست في نفس الشهر الذي إنتهت به الحرب ديون أجنبية على العراق تجاوزت 80 مليار دولار تراكمت بين اواخر عام 1983 والفصل الثالث من عام 1988. وهي مديونية كبيرة بكل المقاييس مقارنة بحجم الإقتصاد العراقي آنذاك، وسعر نفط برنت 15 دولار فقط سنة 1988 ، وقدرة العراق على التصدير لم تكن كبيرة، وباشرت دولتان على الأقل الضغط على العراق لإسترداد الديون.
في ذلك الوضع المتأزم، والهوة بين ما يريده العراق آنذاك وإستعداد دول الخليج للإستجابة، وخوف القيادة العراقية مما يُدبّر حول مصيرها، والإحباط من عدم تحقيق مكاسب ستراتيجة كانت منتظرة من خوض الحرب مع إيران، إندفع العراق إلى الكويت أرادَه رهينة لإطفاء الديون وتقديم تعويضات والتعهد بعدم التآمر على قيادته... ومعروف ما جرى للعراق وإلى يومنا. أما إيران فالتحليل الذي اجريته اواخر الثمانينات يُستنتج منه أنها خسرت في حرب الثمان سنوات ربع قرن من التنمية الإقتصادية؛ وتكبدت، فيما بعد، أضراراً إقتصادية فادحة من توترها الدائم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وايضا، على خلفية شروط أمن حلفائها في المنطقة.
إيران مثل تركيا في متوسط الناتج للفرد عام 1960، وربما أعلى بمقاييس أخرى، بينما تخلفت كثيراً عن تركيا، في حين كانت لديها فرصة سانحة لإنجاز تجربة تنموية كبيرة لِقَدم تعاملها مع التكنولوجيا والصناعة الحديثة إضافة إلى موارد طبيعية بقدر من التنوع. ولا بد من التذكير بمعاناة البشر من أهوال الحرب وقوافل الشهداء وألأسرى والمفقودين من العراقيين والإيرانيين، جرائم وخراب ودماء ودموع، يضحي اسوياء الناس بكل ما يستطيعون لتجنبها. المجتمع الفاضل لا بد أن يُسكِت هذه الأصوات المؤججة للحروب، لا بد ان تسمع الدول الكبرى صوتاً مناهضاً للحرب من بلادنا . العراق لا يحارب الولايات المتحدة مع إيران أو نيابة عنها ، ولا يقف مع الولايات المتحدة في حربها ضد إيران، بل يدعو الولايات المتحدة إلى وضع نهاية فورية لهذا التأزم الدموي في الشرق الأوسط، والذي أصاب العراق بجميع أنواع المآسي.
يقع على الولايات المتحدة الأمريكية واجب إنهاء نزاعها مع إيران، وليس تجميع الدول في تحالف ضدها، وإدخال المنطقة في فوضى دائمة ، الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى والأقدر على تقديم تنازلات لا تعدو شيئأً طفيفاً من هيمنتها. لقد تضررت الشعوب كثيراً، وعلى الشعب الأمريكي الضغط على حكومته لأنهاء خصومتها مع إيران التي لا تهددها ولا تستطيع الإضرار بمصالحها. ولا يُقبَل من دولة عظمى الإصرار على تعذيب شعب إيران بكامله لمدة 45 سنة لحجج واهية. وكذلك تَعمّد تأجيل الإقرار بالحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني وحريته وامنه حتى بعد ان تنازل الفلسطينيون والعرب إلى ما دون الحد الأدنى، ولا يُعقل أن الولايات المتحدة لا تعلم أهمية الإستجابة لحق الشعب الفلسطسني في أمن المنطقة وإستقرارها السياسي..
كيف يستقر هذا العالم والولايات المتحدة بهذا التعتنت، وقبل مدة وصل بها الإستخفاف بالقيم إلى إرسال مبعوث للعراق لتستعيد مهازل الإستعمارالبريطاني القديم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بإستغلال بشع لنزاعات العراقيين حول السلطة والموارد.
ليس من المعقول للعراق مقاطعة إيران إقتصادياً لأن هذا موقف عدواني لا مسوغ له، بل يجب إقامة علاقات إقتصادية ومالية طبيعية معها مثلما هي مع الصين والولايات المتحدة وتركيا وغيرها. ولا ينبغي لحزب أو سياسي عراقي أن يستنسخ موقف الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه إيران والجماعات الحليفة لها. لأن هذه المواقف تناقض مصلحة الشعب العراقي في الأمن والإزدهار، على الأقل، عدا أنها لا عقلانية ولا مبرر أخلاقي لها. إيران لم تقاطع العراق أيام الحصار، ولا ساعدت على حربه وغزوه، فلماذا تدعو إلى التحالف مع أمريكا وإسرائيل ضدها. ونفس الموقف تجاه تركيا وباكستان والدول العربية وغيرها، الأفضل للعراق الاّ يميز في علاقاته مع الدول كما تريد هذه الجهة الدولية أو تلك.
لقد بين التاريخ أن النزاع بين العراق وإيران ليس في مصلحتهما، ولا يكسبان منه شيئاً حتى بمعايير السياسة غير الأخلاقية. المأمول من العراقيين مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بعدم زج العراق في نزاعاتها على الهيمنة أو بناءاً على رغبة إسرائيل. وفي تلك المطالبة تأكيد سيادة وإستقلال العراق وهي حق طبيعي للشعب العراقي وليس للجهة الحاكمة. العراق، على الأقل في واقع حاله، لا يتبنى فلسفة إيران السياسية ولا يساندها في نزاعاتها مع أمريكا والغرب، فقط يقيم معها علاقات طبيعية، ولا يجوز للولايات المتحدة ولا غيرها إرغام العراق على اكثر من هذا.
والملاحظ أن الولايات المتحدة تذهب في سياساتها الخارجية إلى النهايات القصوى ولا تقف عند حد التوازن المنطقي بين ما تسمح به قدراتها الهائلة والنظام السياسي الدولي، الذي يعبر عنه ميثاق الأمم المتحدة وهي الدولة الراعية له. أغلب المتحدثين في الفضائيات، ومنهم أساتذة، يتخذون من اسوا الممارسات السياسية قواعد ينبغي على العراق الإلتزام بها، وبعضهم يخاطب الحكومة العراقية بلغة يخجل منها الكثير من الأمريكيين، بل ويحرّضون حكومة الولايات المتحدة على إبتزاز العراق في أمواله دون حياء. في حين أغلب المشتغلين في التفكير والتنظير السياسي في الغرب لا يُقرّون نظرية للسياسة سوى فلسفة السياسة، وهي فلسفة أخلاقية لغتها ما ينبغي أن يكون، وليس كما يفعل من تستضيفهم فضائياتنا، يشرحون تصريحات السلطات الأمريكية، يهددون بها حكومة بلادهم وهم أساتذة في جامعاتها.
لا أتوقع من جميع سكان هذه الأرض الولاء للعراق وطناً وهوية تاريخية وثقافية، فهذا يبدو إلى الآن بعيد المنال ، ولكن على الذين يرون أنفسهم مواطنين للعراق يتشرفون في الإنتساب إليه، العمل لتأكيد الحق في الإستقلال والسيادة. وبذل الجهد لإحياء معنى الحياة المشتركة في عقول وضمائر الناس. الإنقسام في الموقف من إيران لا علاقة له بالعراق وأمنه ومستقبله في الحرية والرفاه والعدالة، بل يأتي من إشغال وعي العراقيين بثقافات منافية للوطنية العراقية. وأحياناً لأسباب من مخلفات عهود الإستعباد في التكوين النفسي تجعل الرئاسة والسلطة قيمة أعلى من كل القيم ولذلك يفعلون الأعاجيب من أجلها.
توجد في العراق مجموعات تشارك إيران فلسفتها السياسية، وعليها أيضا بيان إلتزامها التام بشروط الوطنية العراقية في الممارسة، وتمجيد العراق وتاريخه القديم المنشئ للحضارة في التثقيف السياسي. وعلى المتحدثين في المنابر الدينية ترسيخ الوطنية العراقية لدى من يستمع إليهم، والإعتزاز بالإنتماء لشعب العراق موحداً، والتصدي للأطروحات التي تضعف الطيبة والمودة والأخوة في نفوس العراقيين. العراق لا يشكل خطراً على أحد، فهو تقريباً منزوع السلاح، كما دُمرت سوريا ايضاً، والضغط متواصل على إيران، واليمن، وليبيا، والسودان. المنطقة مستباحة والعقلانية مطلوبة، إرحموا أنفسكم وأهليكم، لا تعيدوا العراق إلى زمن الحروب والحصار، إفهموها جيداً، وتعاونوا على تنمية إقتصاد العراق فموارد النفط لم تعد كافية، يتطلب إصلاح الحال أخلاقاً مختلفة في تعامل المجتمع مع الدولة وإدارة الشأن العام.
#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟