|
|
ابن تيمية: إرث فكري غزير بين التصوف والسلفية
مصطفى الخليل
الحوار المتمدن-العدد: 8544 - 2025 / 12 / 2 - 15:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقيّ الدين أحمد بن تيمية (1263-1328م) واحدٌ من أبرز علماء القرنين السابع والثامن الهجريين، تميّز بمعرفة واسعة بعلوم الشريعة واللغة، وبقدرة نقدية لافتة، وبغزارة في التأليف قلّ أن يجاريه فيها أحد من معاصريه. جمع بين الجرأة في إعلان رأيه والثبات على ما يراه حقاً، فشارك بنفسه في مقاومة التتار وحمل السلاح، وناظر خصومه من مختلف الفرق، الأمر الذي جرّ عليه العداوات وأدخله السجون مرات عدة، وكانت وفاته في آخرها سنة 728هـ/1328م.
وُلد ابن تيمية في قرية باجدا (وهي بلدة سلوك حالياً الواقعة شمال الرقة السورية ) التابعة لمدينة حران جنوب تركيا سنة 661هـ، قبل أن تنتقل أسرته إلى دمشق هرباً من اجتياح التتار. نشأ ابن تيمية في بيت علم وسياسة؛ فوالده كان من أعلام حران، وجده وعمته من كبار المشتغلين بالفقه والحديث، وقد حفظ القرآن وعلوم الحديث مبكراً، وتميّز بقوة الحفظ وسرعة الفهم حتى في طفولته. درس الفقه على الطريقة الحنبلية، لكنه انصرف أيضاً إلى علوم العربية والمنطق والفلسفة، وترك فيها مؤلفات نقدية كبيرة.
تصدّر ابن تيمية للفتوى وهو في التاسعة عشرة، وتولى كرسيّ التدريس في الجامع الأموي بعد وفاة والده، فذاع صيته وانقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض.
ثارت رسالة ابن تيمية في العقيدة ـ مثل "الحموية" و"الواسطية" ـ جدلاً واسعاً مع علماء دمشق، كما كان احتكاكه السياسي والاجتماعي سبباً في محن متتالية، بلغت ذروتها بعد وقوفه في صف الجهاد ضد التتار عام 702هـ، حيث ازداد نفوذه بين الناس، وهو ما أثار حسد خصومه وسعى بعضهم لسجنه مراراً.
خلّف ابن تيمية تراثاً ضخماً يزيد على 300 مؤلَّف، من أشهرها: "الصارم المسلول"، "درء تعارض العقل والنقل"، "منهاج السنة"، "الجواب الصحيح"، إضافة إلى عشرات الفتاوى التي جُمعت لاحقاً في "مجموع الفتاوى" بـ37 مجلداً. وتميز أسلوبه بالاعتماد على النصوص الشرعية، وكثرة الاستشهاد والتفصيل، والقدرة على تفكيك حجج خصومه. توفي ابن تيمية وهو محبوس في سجن القلعة بدمشق، بعد منعه من الكتب والكتابة، في العشرين من شوال سنة 728هـ.
مما لاشك فيه أن تراث شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية مازال حاضراً بقوة في النقاشات الإسلامية المعاصرة على اختلاف مشاربها ومنهجياتها، وهذا الحضور المتجدد لإرث رجل عاش في القرن السابع الهجري يطرح سؤالاً منهجياً: كيف لفكر أن يحافظ على حيويته وتأثيره بعد أكثر من سبعة قرون؟ الإجابة ربما تكمن في الطبيعة المركبة لمنهج ابن تيمية الذي جمع بين الأصولية السلفية والانفتاح النسبي، وبين التمسك بالنص والمراعاة للواقع.
تشكل فكر ابن تيمية في خضم ظروف تاريخية مرت بها الإسلامية، فسقوط بغداد عام 1258م على يد المغول، وتفكك الوحدة السياسية الإسلامية، وبروز الانقسامات المذهبية الحادة، كلها عوامل أسهمت في صياغة رؤيته الإصلاحية. يقول الدكتور محمد عمارة في دراسته عن ابن تيمية: "لقد كان رجل المرحلة بامتياز، استشعر تحديات عصره فقدم إجابات تستند إلى مرجعية نصية صلبة، لكنها في الوقت نفسه تنفتح على الواقع المتغير".
وكأي مفكر ملتزم بقضايا أمته ويستشعر همومها، شخَّص ابن تيمية، وفق الكتاب والسنة، أسباب انحدار الأمة الإسلامية آنذاك، بغية محاولة تقديم حلول عملية لتجاوز أزماتها، بالتالي أتت طروحاته وفق سياق العصر الذي عاش به. لاحقاً استدعى الإسلام السياسي هذه الطروحات، وحاول لي عنقها في كثير من المفاصل، لخدمة مشاريعه السياسية بالدرجة الأولى تحت غطاء "النهوض بالأمة الإسلامية".
التفريق بين التصوف والزهد
تميز موقف ابن تيمية من التصوف بدقة منهجية ملحوظة، فلم يكن رفضاً مطلقاً ولا قبولاً تاماً، بل كان نقداً تفريقياً ميز فيه بين التصوف المشروع والتصوف المنحرف. يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة".
لقد ميّز ابن تيمية بوضوح بين التصوف السني القائم على الكتاب والسنة، والتصوف الفلسفي الذي رأى فيه انحرافات عقدية. فبينما امتدح زهد الجنيد البغدادي والفضيل بن عياض واعتبرهما من أئمة الهدى، شن هجوماً حاداً على ابن عربي والحلاج واعتبر بعض أقوالهما خروجاً على التوحيد.
كان ابن تيمية ناقداً دقيقاً للممارسات الصوفية التي رآها مخالفة للشرع، حيث رفض ظاهرة الإغماء عند سماع القرآن، وانتقد الخلوات الصوفية التي اعتبرها بدعة، وحذر من التأويلات الميتافيزيقية التي تفرغ العبادة من مضمونها الشرعي. ومع ذلك، أكد أن "أولياء الله هم المؤمنون المتقون، سواء سُمي أحدهم فقيراً أو صوفياً أو فقيهاً أو عالماً".
السياسة الشرعية ونظام العدل
يشكل مفهوم العدل ركيزة أساسية في فكر ابن تيمية السياسي، ففي كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"، يربط بين تحقيق العدل واستقرار الدولة، معتبراً أن "العدل أساس الملك"، وقد أشار الباحث يوسف رابوبورت في دراسته "ابن تيمية وعصره" إلى أن "ابن تيمية رأى في تحقيق العدل الاجتماعي غاية أساسية من غايات الشريعة، وجعل منه مقياساً لشرعية الأنظمة السياسية".
وبالرغم من التأكيد النظري على أهمية العدل، يلاحظ الباحثون وجود فجوة بين الخطاب والممارسة في بعض فتاوى ابن تيمية، خاصة تلك المتعلقة بغير المسلمين والمخالفين مذهبياً. هذه الإشكالية تظهر التعقيد في تراثه الفكري وتدفع إلى ضرورة القراءة النقدية المتأنية.
ضوابط التكفير عند ابن تيمية
يُعد موقف ابن تيمية من التكفير من أكثر القضايا إثارة للجدل في تراثه. فمن ناحية، وضع ضوابط صارمة للتكفير، وحذر من التكفير بالمظنة أو بالشبهة، وأكد على ضرورة تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه. ومن ناحية أخرى، عُرف بشدته في تكفير بعض الفرق الإسلامية مثل الشيعة الإسماعيلية والنصيرية والقائلين بالحلول والاتحاد.
يشير الدكتور وهبة الزحيلي في دراسته عن ابن تيمية إلى أن "أخطر ما يواجه تراث ابن تيمية هو تجميده وتحويله إلى نصوص مقدسة غير قابلة لإعادة القراءة". فالكثير من فتاوى التكفير التي صدرت عن ابن تيمية كانت مرتبطة بسياقات تاريخية محددة، خاصة في ظل الغزو المغولي والصراعات المذهبية الحادة في عصره.
الوهابية: من الفكرة إلى الدولة
شكل فكر ابن تيمية حجر الزاوية في الدعوة الوهابية، فلقد اعتمد محمد بن عبد الوهاب بشكل أساسي على مؤلفات ابن تيمية في صياغة منظومته الفكرية، وقد تجلى هذا التأثير في تبني تقسيم التوحيد كما وضعه ابن تيمية، وفي الموقف الحازم من الممارسات الدينية التي عدّت بدعية.
وتعد علاقة فكر ابن تيمية بالسلطة السياسية إحدى الإشكاليات الكبرى في تراثه. فمن ناحية، عُرف بشجاعته في نقد الحكام، مما أدى إلى سجنه عدة مرات. ومن ناحية أخرى، قدم في "السياسة الشرعية" رؤية للعلاقة بين الدين والدولة تتيح توظيف النص الديني لخدمة استقرار النظام السياسي. هذا التوتر بين النقد والتأييد للسلطة يجعل من فكره حالة مرنة تستطيع الأنظمة السياسية توظيفه لصالحها. وشهدت العقود الأخيرة استدعاءات متباينة لتراث ابن تيمية، على أيدي العديد من الجماعات الإسلامية المتشددة، ومنها:
١ الإخوان المسلمون: استلهموا منه الجوانب الإصلاحية ومفهوم الحاكمية ٢ السلفية الجهادية: وظفت فتاويه في الجهاد والتكفير خارج سياقاتها التاريخية ٣ تنظيم الدولة الإسلامية: وصل الاستخدام الانتقائي لذروته مع توظيف نصوصه لتبرير الممارسات المتطرفة
وفي الوقت الراهن ترى بعض التيارات الإسلامية ضرورة استدعاء تراث ابن تيمية لعدة اعتبارات:
1- نموذج الاجتهاد في الأزمات: يقدم مثالاً للعالم المسلم الذي يواجه التحديات الكبرى بثبات عقائدي ومرونة منهجية. 2- الإصلاح الديني: يشكل مصدر إلهام لمشاريع إصلاحية تسعى لتجديد الخطاب الإسلامي. 3- المواجهة الفكرية: يقدم أدوات نقدية لمواجهة التيارات المنحرفة وفق المنظور السني المتوازن. 4- التوازن بين الثبات والتجديد: يمثل محاولة للجمع بين التمسك بالأصول والقدرة على الاجتهاد في المتغيرات.
نحو قراءة نقدية متوازنة
إن استمرار تأثير فكر ابن تيمية بعد أكثر من سبعة قرون يدعو إلى تأمل عميق في طبيعة التفاعل مع التراث الإسلامي؛ فالدرس الأهم الذي تقدمه سيرة ابن تيمية ( كما يلخص الدكتور محمد عمارة ) هو أن "الاجتهاد الحقيقي لا يعني القطع مع التراث، بل التفاعل الخلاق معه".
اليوم، أمام الأمة الإسلامية تحدي تطوير منهجية تتيح الاستفادة من غنى التراث الفكري الإسلامي، بما فيه تراث ابن تيمية، مع القدرة على تقديم إجابات جديدة لأسئلة العصر. وهذا يتطلب جرأة علمية توازن بين التمسك بالأصالة والشجاعة في التجديد، وبين الاحترام للتراث والجرأة في نقده، وبين الاستفادة من الماضي والإبداع للمستقبل.
إن قراءة تراث ابن تيمية اليوم ينبغي أن تكون قراءة نقدية واعية بسياقات النص وظروف إنتاجه، بعيداً عن القراءات الحرفية أو الانتقائية التي تخدم أغراضاً سياسية ضيقة. فقط من خلال هذه القراءة المتوازنة يمكن استخلاص الدروس المستفادة من إرث هذا العالم المجدد، والإفادة منها في مواجهة تحديات العصر الراهن.
#مصطفى_الخليل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصاب الهوياتي في المجتمع السوري.. عندما تبنى الدولة من الخ
...
-
قُبيل زيارة بايدن..-الرياض- توجه رسائل سياسية في خطبة يوم عر
...
-
ماذا لو سقط المشالي في فخ غيث الإمارتي ؟!
-
غزل في سابع سماء
المزيد.....
-
بابا الفاتيكان يدعو اللبنانيين إلى عدم الإحباط والرضوخ لمنطق
...
-
بابا الفاتيكان يدعو لبنان ليكون علامة للسلام في المشرق
-
الفاتيكان: نحو 150 ألف شخص تجمعوا لحضور قداس البابا ليون الر
...
-
الكنيسة الكاثوليكية: زيارة بابا الفاتيكان إلى مرفأ بيروت تشك
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بحماية من شرطة الاحتل
...
-
بابا الفاتيكان: الطريق لتحقيق السلام في لبنان يبدأ بتجاوز ال
...
-
631 مستعمرا يقتحمون باحات المسجد الأقصى
-
إعلام سوري: مقتل رجل دين بالسويداء بعد اعتقاله من قوات للهجر
...
-
إعلام سوري: مقتل رجل دين بالسويداء بعد اعتقاله من قوات للهجر
...
-
بابا الفاتيكان يختتم أولى جولاته الخارجية بصلاة يشارك فيها 1
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|