عبداللطيف النكادي
كاتب وباحث
(Abdellatif Ngadi)
الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 16:11
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
أول حرب كيميائية لإبادة شعب وسط اتفاقيات السلام والتغني بحقوق الانسان
الحرب الريفية بين عامي 1921 و1926
بقلم عبد اللطيف النكادي
ما أشبه سنة 2025 بعام 1925، وكأن البشرية لم تعقل وكأن جنونها لم يداو! يذكرنا يوم 30 نونبر العالمي لمناهضة الحرب الكيماوية بجرائم الإبادة المتعددة التي يخوضها الكيان الصهيوني اليوم كما خاضتها اسبانيا وفرنسا وانجلترا والمرتزقة الأمريكان ضد الريف بين سنة 1921 و1926.
في سنة 1925 توجت حرب الإبادة ضد سكان الريف باستعمال الكيماوي في مشهد سوريالي: 4 سنوات بعد تحريم اتفاقية فرساي للحرب الكيماوية. أنظمة الحكم الأوروبية/الغربية تتغنى بالسلم وحقوق الانسان وتلجأ الى الإبادة الجماعية لا فرق بين مقاوم ومدني. الكل مستهدف طفلا كان او شيخا نساء ورجالا بشرا وزرعا أوحيوانا.
لا قيمة للإنسان حليفا أو عدوا أو حتى من الجيش المطيع
تقدم الحرب الكيماوية ضد منطقة الريف المغربية مثالا مفيدا حول الحرب بين الأشقاء الأعداء وفي نفس الوقت التعاون بينهم على حساب شعب عريق مقاوم تتم ابادته وحرقه بالغازات السامة. ولقد تقمصت ألمانيا كل الأدوار لتتعاون مع الجميع وتبطش بالجميع وجسد المارشال بيتان صورة الجزار الذي يكاد يعبد كبطل لبطشه بالأعداء (الريف) ثم يخون بلده (فرنسا) ويذبح شعبه خدمة لعدو بلده (ألمانيا).
تميز السياق العام التاريخي من غزو الجزائر سنة 1830 الى 1900، بالسباق والصراع لغزو بلدان العالم وتحويلها الى مستعمرات. فقد استولت المملكة المتحدة وفرنسا على أكثر من نصف أفريقيا. وبعد سلسلة من الاتفاقيات بين القوى الغربية الكبرى منح مؤتمر برلين عام 1884ألمانيا، أربع مناطق هي: توغولاند وشرق أفريقيا والكاميرون، وناميبيا. وقد أدت مقاومة شعب ناميبيا بألمانيا الى ارتكاب أول ابادة (Genocide) في التاريخ. أما معاهدة فرساي، فقد سمحت بتقسيم جديد للعالم الاستعماري وحرصت على كبح جماح السباق الى التسلح الكيماوي بين القوى الكبرى.
وقد تجلت لا إنسانية النظم الرأسمالية ليس فقط ضد الشعوب التي لا تمتلك وسائل الدفاع ضد أسلحة الدمار الجديدة بل في صراعها مع بعضها البعض. كما أنها لا تعتبر الضحايا أو الأضرار " الجانبية" من أي طرف ولو كانوا جنودها، الا مجرد كلفة من تكاليف الحرب. فقد استخدمت القوات الألمانية غاز الكلور ضد القوات الفرنسية والجزائرية مما تسبب في مقتل مئات الآلاف وإصابة آلاف آخرين خلال الحرب العالمية الأولى. وأصيب في بلجيكا (22 أبريل/نيسان 1915) مئات الآلاف من المدنيين والأطفال والنساء والجنود. وقد أصيب جنود ألمانيا، البلد المعتدي وخصوصا بين الألوية المتقدمة (فالرياح قد تجري بما لا تشتهيه القنابل الكيماوية). ألا يقال إن الجنود " لحم مدافع"؟ ولا تزال بلجيكا تعاني من ذخائر كيميائية غير منفجرة تُكتشف على أراضيها.
وفي نفس السنة استخدم الألمان غازً الفوسجين، ضد القوات البريطانية في ديسمبر 1915، مما أسفر عن مقتل 69 شخصًا في هجوم واحد. وفي عام 1917، استخدم الألمان الغازات السامة ضد القوات البريطانية، مما أدى إلى ظهور مصطلح "غاز الخردل". وتشير التقديرات المنخفضة عن الخسائر مع نهاية الحرب، انه استُخدم أكثر من 124.200 طن من المواد الكيميائية، مما تسبب في مقتل أكثر من 90.000 جندي.
غير أن حرب الريف كانت مناسبة لأول حرب كيماوية وجوية على سكان مدنيين عزل في تاريخ البشرية. وقد عبأت القوات الجوية لثلاث دول زيادة على المرتزقة الأمريكان عبر آلاف الغارات الجوية جزء كبير منها كان للقنبلة الكيماوية بهدف الابادة البشرية المباشرة فضلا عن الإبادة عبر التجويع وذلك بقتل الحيوانات وحرق المزروعات. كما نفذت القوات الجوية والبحرية حصارا لمنع التبادل التجاري ووصول السلع فيما اطبقت قوات برية فرنسية الحصار بين الحدود الجزائرية المغربية.
أرقام دراسات مدققة تُظهر عدد 11,586 مهمة جوية نفذتها الأسراب الفرنسية وحدها ضد أهداف في منطقة الريف من مايو/أيار 1925 إلى مايو/أيار 1926 - بإلقاء 1,434,162 كيلوغراماً من القنابل.
على الجانب الفرنسي، كان سرب المرتزقة الأمريكي المعروفً منذ الحرب العالمية الأولى باسم سرب لافاييت،. نفّذ 350 مهمة جوية بين يوليو ونونبر1925 ولم يتم حلّه الا بسبب الاحتجاجات الدولية عندما هبطت الطائرات بشكل غير قانوني في مدينة طنجة المحايدة بعد ارتكاب مجازر قصف مدينة شفشاون، التي أخلاها جيش الريف وأعلنها مدينة مفتوحة في بداية نونبر.
منطق المصالح: ألمانيا مع اسبانيا وفرنسا وضدهما كما أنها مع الريف و ضد الريف
في صراعها التنافسي مع فرنسا وإنجلترا كانت ألمانيا كباقي الدول الغربية الاستعمارية تقوم مثلهم بكل الأدوار. فهي تضغط من أجل الحضور في المعاهدات وتتآمر على الشعوب حد الإبادة الجماعية كما فعلت في أول إبادة في التاريخ في ناميبيا. وفي نفس الوقت تساعد المقاومة هنا أو هناك للنيل من منافسيها والتفاوض معهم.
وفي ثورة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي لعبت المانيا كل الأدوار. كانت تزود عبد الكريم بالسلاح وبعض الخبراء وفي نفس الوقت تساعد اسبانيا بإنشاء معامل انتاج الغازات في جنوب اسبانيا وفي مدينة مليلية لضرب الريف. وقد ماطلت ولربما أجهضت جهود الخطابي في الحصول على طائرات حربية وعلى سلاح مضاد للطيران فعال. فهي من جهة تؤجج الصراع وتحرص على نجاح تجريب سلاحها الكيماوي لاستعماله غدا في حرب مدمرة ضد منافسيها. أما فرنسا فأنها هرعت لنجدة اسبانيا لأن لها حدودا مع الثورة الريفية التي قد تنتشر عدواها وتهدد استعمارها للمغرب (في المنطقة الفرنسية).
التشكيلة الحربية الفريدة في تاريخ الحروب
نشرت فرنسا وإسبانيا قوة هائلة تتألف من نصف مليون رجل، فضلا عن القوات المساعدة وقوات "الأنصار"، مع تفوق مادي ساحق، بما في ذلك سرب يضم أكثر من 200 طائرة، فضلا عن الجواسيس من أهالي ومراقبين مدنيين وأطباء ومهندسين فلاحيين وخبراء جغرافيا وطوبوغرافيا وغيرهم.
بالنسبة للقوات الجوية ذات الدور الحاسم فقد كانت فرنسا واسبانيا تجهزان الطائرات وما تتطلبه من لوجستيك. أما بالنسبة للطيارين، فلم ترغب أي دولة في توفيرهم لعدة أسباب عسكرية وطوبوغرافية وللخوف من افتضاح الأمر إذا ما اسر طيار وظهر للرأي العام تحالف غير طبيعي فرنسي ألماني اسباني. وبما أن اسبانيا لم يكن لديها الا نزر قليل من الطيارين، فقد تم اللجوء الى التعاقد مع مرتزقة أمريكان. لكن هؤلاء اشترطوا أن لا يحاربوا بزي ولا براية أمريكا لأن بلادهم تمنع المشاركة في حرب لا تدخلها. فرنسا لم ترض بأن تنسبهم الى قواتها، وكذلك اسبانيا وألمانيا. فتفتقت العبقرية على تسميتهم بالسرب الشريف نسبة للقوات السلطانية المغربية فوافق السلطان يوسف وتم الباسهم الزي العسكري المغربي. وفي كتاب المؤرخ الأمريكي "دين ويليام. William Dean Americans in the Rif Rebellion " تفاصيل مدققة.
المجرمون لا وطن ولا ملة لهم: المارشال بيتان نموذجا
خضعت فرنسا في 1925 ولمدة عام، لما يُسمى بحكومة "ائتلافية يسارية"، بقيادة راديكالية يدعمها الفرع الفرنسي لأممية العمال (SFIO). لم تدخر هذه الحكومة جهدًا للقضاء على التمرد، حتى أنها تمكنت من إقصاء المارشال ليوتي الذي اعتُبر "ضعيفًا" على الرغم من دعمه للقمع، واستبدلته ببيتان الجزار. لا شك أن اليسار غير الشيوعي، وعلى رأسهم الاشتراكيون وأعضاء الكونفدرالية العامة للعمال، أدانوا عنف القمع، لكنهم لم يدينوا مبدأه. أما اليمين المتطرف، فقد رأى أنه لا ينبغي التفاوض مع المتمردين، بل سحقهم. فـ"الحضارة الغربية" نفسها هي المهددة أكثر من المصالح الفرنسية. كما دعا الصحافي شارل موراس مدير صحيفة L Action française إلى تجاهل اتفاقية جنيف وإبادة الريفيين بالغاز.
وأوصى الجنرال سيرينيي Serrigny(نائب بيتان)، بأن "يكون العمل قوياً (قنابل كبيرة)، وواسع النطاق (يمتد إلى كامل منطقة الريف والقبائل المتحالفة معها)، ومستمراً (طوال الصيف والشتاء)".
في المقابل كان الرأي العام العالمي والأحزاب الشيوعية تساند ثورة الريف فانتشرت المظاهرات والأغاني والأشعار الممجدة لثورة الريف وأشهرها أغنية منظمة شباب الحزب الشيوعي الفرنسي بعنوان " اتركوا المغرب للمغاربة". ويشير المؤرخ آلان روسيو إلى الإضراب العام ضد حرب الريف، الذي تم في فرنسا في11 أكتوبر 1925، بدعوة من الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) والاتحاد العام للعمال (CGTU).. وقد تم في ظروف قمعية أدت الى سجن 165 ناشطًا، وواجه 263 آخرون المحاكمة وطالبت المحاكم بالسجن 320 عامًا.
ولم تمر 15 سنة على سحق ثورة الريف حتى انهزمت فرنسا واحتلتها ألمانيا وتحول البطل جزار الريف بيتان Pétain الى خائن يعتقل المقاومين الفرنسيين ويلفق لهم التهم ويعدمهم ويضطهد اليهود الفرنسيين مساهما هو وحكومة " فيشي" اليمينية والعميلة لألمانيا في اضطهاد الشرفاء وفي الهولوكوست ضد جزء من سكان بلده.
لهذا لا نظن النتن جزار غزة الا من صنف بيتان وسيصبح جلادا لإخوانه من الإسرائيليين بعدما نهب أموالهم وقمع تظاهراتهم. فوحدهم الشرفاء والشعوب يقفون في صف الحق.
وفي الختام تحضرني مقولتان:
1- يقول ماركس التاريخ يعيد نفسه مرتين في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة ويؤكد نجيب محفوظ أن آفة حارتنا هي النسيان. وهنا مربط الفرس فاذا تجاهل السياسيون التاريخ فعلى الشعب والشرفاء أن لا ينسوه.
2- أغنى جون انطوان بوتي الميثولوجيا اليونانية عن الاله جانوس بهذا التعبير الرائع والبليغ: "قال أحد الدبلوماسيين الذين ركعوا بنجاح أمام ثلاثة أنظمة متتالية: ذلك المسكين جانوس الذي كان له وجهان فقط!"
--------------------------------------
1- الباحث الألماني روديبرت كونز، أحد مؤلفي كتاب: “غاز سام ضد عبد الكريم، ألمانيا واسبانيا وحرب الغاز في المغرب الاسباني1922-1927 ”.
#عبداللطيف_النكادي (هاشتاغ)
Abdellatif_Ngadi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟