أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبداللطيف النكادي - الطائرة من الحلم العربي الضائع الى الحلم الغربي النافع محن ليبيا الشقيقة مع الطائرة















المزيد.....


الطائرة من الحلم العربي الضائع الى الحلم الغربي النافع محن ليبيا الشقيقة مع الطائرة


عبداللطيف النكادي
كاتب وباحث

(Abdellatif Ngadi)


الحوار المتمدن-العدد: 7495 - 2023 / 1 / 18 - 17:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الطائرة من الحلم العربي الضائع الى الحلم الغربي النافع
محن ليبيا الشقيقة مع الطائرة
من غرائب الزمن أن يفتتح الشعب الليبي الشقيق القرن العشرين ويختتمه بقصة فريدة من نوعها مع الطيران، ثم أن تعاد الكرة في الشهر المنصرم بفتح ملف الطائرة لوكربي مرة أخرى. فقد دشنت إيطاليا في 1911 أول استعمال حربي للطيران بالهجوم على ليبيا. و ابتداء من سنة 1988 بعد حادث انفجار الطائرة لوكربي والى اليوم لا تزال هذه القضية تنغص على الليبيين حياتهم رغم مرور عقدين على نهاية نظام القذافي. فإلى متى ستستمر هذه الذريعة تظهر ثم تختفي ؟ من الاستعمار الإيطالي الى الفاشية الى الهيمنة الأمريكية في شيخوختها، لا تزال قصص الطائرة والطيران تهدد وتستفز شعبنا في ليبيا.
بقلم عبد اللطيف النكادي
تاريخ لا ينسى
ما أن أتمت الصناعة الفرنسية انتاج طائرة تحلق لأقل من ساعتين حتى بدأ الاستعمار الإيطالي غزوه لليبيا. فثمانية سنوات فقط هي المدة التي تفصل بين تحليق أول طائرة في الفضاء والاستعمال الحربي للطائرة لأول مرة في التاريخ البشري. وتم ذلك ضد الشعب الليبي الأبي. وبعد اعتقال الشيخ البطل عمر المختار كانت إيطاليا سباقة لتدشين أول مسخرة في تاريخ "القضاء" الاستعماري بإنشاء "المحكمة الطائرة" الإيطالية.
1- الضغط الاستعماري في إيطاليا
في أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين كانت النزعة الاستعمارية الإيطالية تستقطب وتعبئ الشعب عبر بعث فكرة إعادة بناء الإمبراطورية القديمة لروما. فأصبحت الدعاية لهذا "الطموح" شيئا ملموسا في كل المجالات الفكرية والسياسية اليمينية وفي صلب تنافس الرأسمالية الإيطالية مع نظيراتها الأوروبية. فقد تم احياء النعرة الشوفينية بتوظيف صور وتصورات عن العصور القديمة وخصوصا فكرة "الامبريوم" ومراقبة البحر الأبيض المتوسط الذي كان لرومان يسمونه "ماري نوستروم" أي بحرنا. وفي هذا الإطار طرح السياسي سيزار كورينتي (Cesare Correnti- 1815-1888 ) ابتداء من سنة 1858 مقولته بأن " تاريخ الرومان لم ينته قط" وتم الترويج لها بقوة توازي قوة ضغط المصالح الاقتصادية وقوة المنافسة مع باقي القوى الأوروبية. وكان كل ذلك يصب في اتجاه دفع الحكومة الإيطالية الى تبني استراتيجية استعمارية استيطانية وسن سياسات متكاملة تسعى الى تحقيق هدفين: من جهة، النمو والتنمية الاقتصادية عبر استغلال ونهب المستعمرات والسيطرة على الأسواق لتصريف الإنتاج والاستحواذ على المواد الأولية. ومن جهة أخرى صرف الشعبين الليبي والإيطالي عن الديمقراطية والتعايش لإخضاعهما لحكم ديكتاتوري ثم فاشي يضاعف الاستغلال الرأسمالي وينذر بأسوأ العواقب على إيطاليا وجيرانها من جرائم عسكرية ودمار وافلاس ومصادرة الحريات واعتقال الفكر النقدي ومنع التحرر. وما لبثت أن ظهرت الهزائم ثم الهزيمة الكبرى في الحرب العالمية.
أ‌- الظرفية التاريخية للاستعمار الإيطالي لليبيا
تم تحقيق الوحدة الإيطالية في 1859، وأدى ذلك لازدهار الاقتصاد. فقد عرفت إيطاليا تطورا هاما لصناعة النسيج، فيما تناقص عبئ البطالة بتكاثر الهجرة الى أوروبا و أمريكا. ففي الجوار الجنوبي بشمال افريقيا توزعت أعداد الجالية الإيطالية في 1871 كما يلي :
مصر 20000
ليبيا 16000
تونس 25000
المغرب 25000
ولقد شكلت الفترة الممتدة ما بين مؤتمري بروكسيل في 1875 وبرلين في 1884 انطلاق السباق لامتلاك المستعمرات في اطار اتفاقيات بين الأطراف الأوروبية. وقد استولت الفكرة الاستعمارية على طموح الكثير من العلماء فاستقطبت بالتالي مختلف العلوم وربطتها بمختلف الصناعات المتطلعة هي الأخرى الى دورها في غزو الأسواق وتخطي الحدود. وهكذا مولت المقاولات البحرية والتجارية كل الأبحاث والدعايات التي كانت تقوم بها جمعيات الجغرافيا والاستكشافات التي أسست في 1877 بميلانو مجلة ليسبلوراتوري" ولما احتلت فرنسا تونس سنة 1881 انتهى تردد إيطاليا الذي طبع أطماعها في السطو على تونس بعزم أكيد على السطو على ليبيا فانطلقت في إعداد مخططاتها العدوانية.
وعلى صعيد العالم الإسلامي طبعت هذه الفترة بتقهقر الإمبراطورية العثمانية تحت الضربات الموجعة التي تتابعت من كل حدب وصوب ( روسيا، البلقان، أوروبا). فطوال القرن التاسع عشر كانت الإمبراطورية تسمى "الرجل المريض" لعدم قدرتها على اللحاق بالتطورات العلمية والسياسية والاقتصادية الجديدة وضعفها عن مواجهة التمردات في جل أطرافها المترامية في أوروبا وآسيا وافريقيا. فأصبحت البلاد تعرف في جل الفترات أزمات حادة ومصاعب مالية وثورات عاتية تقوم بها عناصر قومية تواقة للانفصال. وكانت القوى الاستعمارية الناهضة متعطشة لاقتسام التركة العثمانية فاستهدفت اضعافها او اقصاءها في مجالات مختلفة. كما عملت على تأجيج الثورات ضد السلطنة وابرام الاتفاقيات مع القوى المناهضة لها ناهيك عن حبك المؤامرات.
وفيما يخص السياسة الخارجية لإيطاليا فكانت تستغل الصراعات ما بين الامبراطوريات، لتأخذ نصيبها من المستعمرات. وهكذا استغلت المشاكل التي تقف دون أطماع فرنسا في المغرب مرتين: فعقدت في 16 شتنبر 1900 اتفاقا سريا مع فرنسا حول مصالحهما في افريقيا الشمالية وبذلك سهلت مأمورية وموقع فرنسا في مؤتمر الجزيرة الخضراء، ثم استغلت إيطاليا فرصة أخرى هي الأزمة المغربية ( بين فرنسا وألمانيا) سنة 1911 لتستفرد بليبيا حيث أعطت إنذارا للحكومة التركية كي تحمي المواطنين الايطاليين ينتهي بحلول يوم 29 شتنبر 1911 وهو اليوم المحدد لبداية الحرب على ليبيا والقوات التركية المتواجدة بها.
ب‌- التغلغل الاقتصادي والمالي الإيطالي
زادت الأوضاع الاقتصادية في جل الأقطار العربية تدهورا دونما أي نجاح لأي سياسة استدراكية فعالة وخصوصا منذ أواخر القرن الثامن عشر حيث تدنت تجارة القوافل وكذلك عوائد النشاط البحري بفعل سيطرة الأساطيل الأوربية على البحار واستيلائهم على تجارة افريقيا السوداء. في ليبيا أخذ الاقتصاد يتقهقر والمداخيل تنضب ولم تفلح حملات يوسف باشا القره مانلي ما بين 1796 و 1835 في تعديل الكفة. بينما كانت كل رياح التغيير تهب لصالح أوروبا وبما لا تشتهي سفن العالم العربي.
في هذه الظروف تراكمت و تظافرت عناصر الضعف والتقهقر في القطر الليبي الشقيق بموازاة مع تغلغل النفوذ الأوروبي الذي كان يمارسه التجار وممثلو الشركات التجارية في طرابلس وبنغازي وطبرق. كما فتحت الشركات الإيطالية وبنك روما فروعا لها في ليبيا وحصلت بعض المؤسسات الإيطالية على امتيازات لتنفيذ أشغال عمومية.
ومع بداية القرن العشرين أصبحنا نرى سياسة إيطالية متكاملة وبدعامات متعددة وجيدة، حيث ضمت عالم الأعمال والكنيسة بصفة ظاهرة، والعلماء والأطباء الجواسيس والمبشرين الجواسيس والجنود المتخفين...الى جانب المخططات العسكرية. وساعد في ذلك التطور الاقتصادي الهام الذي طبع العشرية الأولى للقرن. وتجلى أبرز مثال في" بنكو دي روما " ذلك البنك الكبير للفاتيكان الذي انخرط بالكامل وبدون تردد أو رجعة في الأعمال الاستعمارية.
ومن المخططات الإيطالية الرامية الى امتلاك ليبيا: فتح المدارس في طرابلس وبنغازي وارسال الجماعات التبشيرية وسخاء فروع "بنكو دي روما" التي كانت تقرض الأهالي طمعا في تحقيق الرهون بعد ذلك عندما يتعذر الأداء. وبذلك أضحت كثير من الأراضي في ملك البنك. واذا كانت تركيا قد أهملت ليبيا والأقطار العربية الأخرى فان الدول الأوروبية عقدت اتفاقات أطلقت فيها اليد لإيطاليا مقابل ما تحصل عليه في أجزاء أخرى من افريقيا. وتشير الوثائق الى الاتفاق السري الذي وقعته فرنسا وإيطاليا سنة 1902 والذي بموجبه يمنح الطرفان لبعضهما حرية التدخل في المغرب وليبيا.
2- استعمال الطيران في الحرب لأول مرة في التاريخ الإنساني
أ‌- اكتشاف الطائرة
يعتبر الأخوان رايت WRIGHT أول من حقق انتقال الطيران من الفكرة والخيال الى الواقع وذلك يوم 17-12- 1903 حينما أقلعت طائرتهما وحلقت لمدة 12 ثانية فوق "كيتي هاوك KITTY HAWK " في كارولين الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. وما أن حلت سنة 1909 حتى قطع الفرنسي لويس بليريوت LOUIS BLERIOTالمانش بطائرته في 12 دقيقة.
كما حرص الصناعيون وأصحاب رؤوس الأموال على التنافس للاحتضان أو الفوز بالاستثمارات الجديدة لصناعات المستقبل المرتبطة بالطيران. وفي نظرة ذات افق استعماري، فقد تركزت الاستراتيجيات الجيوسياسية على المخططات العدوانية و تخندق كل بلد أوروبي في دهاليزه الخاصة للمضي في اعداد العدة والعتاد الحربي على قاعدة صناعات حربية وعلى الصناعة الجديدة للطيران وخصوصا طوال سنوات 1908 و 1909 و1910.
ب‌- الطائرات والمركب الصناعي الحربي
تفردت فرنسا بالسبق في نشأة مصانع الطائرات من هياكل ومحركات. وكانت الماركات الأولى المرغوب في شرائها هي: "نيوبورت وبليريوت و فارمان Blériot و Nieuport أو Farman". وذلك ما يؤكده المؤرخ الاقتصادي إيمانويل تشادو. الذي أفاد بأن تجارة الطائرات كانت حرة بيد مديري الشركات الفرنسية من خلال الاتصالات أو من قبل الوسطاء والمصرفيين حيث لا تخضع لأي رقابة على المبيعات الخارجية من قبل وزارة الحرب . كذلك كان الشأن بالنسبة لبراءات الاختراع نظرا للأرباح العالية. ومنها القادمة من إيطاليا حيث صناعة الطيران في طور التكوين. وعشية الحرب الكبرى يفيد نفس المؤرخ أن " ما لا يقل عن ربع الإنتاج الصناعي للطيران، سواء بالنسبة لهياكل الطائرات أو المحركات ، ذهب إلى الخارج ، مما أدى إلى تحقيق أرباح للمصنعين الفرنسيين كانت كبيرة جدًا حيث كانت الأسعار المفروضة أعلى مما كانت عليه في فرنسا نفسها.
اذا كانت المصلحة الاقتصادية تدفع باتجاه الاستعمار، فإنها كانت كذلك وراء الدفع بالتطور السريع لصناعة الطائرات التي أصبحت سلسلة اقتصادية استراتيجية وتجارية كبيرة. ففي سنة 1911 تشير الاحصائيات المتوفرة على أنه تمت صناعة 1350 "أيروبلان3 في العالم كما تم القيام ب 13000 سفرية فوق البوادي. وأشارت كذلك الى أن12000 طيارا قاموا بقطع ما مجموعه 2600000 كيلومترا جوا. كما أنشئت عدة مدارس لتكوين ربان الطائرات وأصدرت شهادات للمتخرجين، فتوفرت موارد بشرية هامة من متطوعين يريدون التميز ومغامرين ومرتزقة. وكانت الاستعمالات التجارية والبريدية والسياحية تشق طريقها بإصرار في السوق الاقتصادية العالمية مكسرة قيد الحدود ومحلقة في أجواء لا يملكها بعد أي أحد. وقد أدى هذا الوضع الجديد في اطار الصراع بين الدول الاستعمارية الى ظهور قانون جديد لتقنين استعمال الفضاء والأجواء الوطنية والدولية. كما مزقت الطائرة طوق عقبات الاتصال والتواصل. ففي 18 فبراير 1912 والحرب الإيطالية التركية الليبية في أوجها قام "هنري بيكيت Henri Péquet " بأول بريد جوي في الهند على طائرة من نوع "سومر Sommer " بمحرك ذي 50 حصانا أما في 3 مارس من نفس السنة فقد قطع الفرنسي "رينو" 366 كيلومترا الفاصلة بين باريس وبوي دوم مؤكدا بذلك بداية السفريات القديمة.
ج‌- اهتمام العسكر بالطائرة
أخذ العسكر يهتمون بالطيران اثر النجاحات التي حققها المدنيون والصناعيون المهووسون بالاكتشافات وخصوصا بعد توالي روائع النجاحات التي حققها الهواة والمتسابقون في تحطيم الأرقام القياسية المختلفة. وموازاة مع الدينامية الصناعية والتجارية ، قامت عساكر أوروبا الغربية وأمريكا بأولى المناورات بواسطة الطائرات البرمائية وبقي ذلك طي الكتمان قبل أن تبادر إيطاليا الى استعمال الطائرة في العمليات الحربية في سنة 1911 في الحرب المعروفة بالحرب الإيطالية/التركية في طرابلس. في حين لم تقدم للقوات الجوية الفرنسية أول طائرة حربية الا في سنة 1915 وهي طائرة "فرمان FARMAN " المسماة "قفص الدجاجLa cage à poules ".
هنري فارمان على طائرته في 1913-صورة من ويكيبديا. اكاد اجزم أن مسؤولي التخلف في ذلك الزمن سيستهزؤون لرؤيتها بينما العلماء والأذكياء سيؤمنون بتطورها.

- 3النصر الأبدي نبراس يؤرخ للاعتداء البائد والمقاومة الظافرة
قدر استراتيجيو الحرب الايطاليون بأن الحرب ستكون خاطفة. ولكنهم ما لبثوا أن اضطروا الى الدفع بجيش قوامه 14000 من الجنود المشاة و6400 من الفرسان ومعهم المدافع الثقيلة وغير ذلك من الأسلحة، بينما كانت القوة العثمانية في القطر كله لا تزيد عن 221 جنديا بعد ارسال جزء منهم لقمع تمرد في اليمن (4000 حسب الإيطاليين).
أ- استعمال الطائرة في الحرب
في بداية الحرب العدوانية الإيطالية على طرابلس، دشنت إيطاليا السباق لاستعمال الاكتشاف الجديد في الاستكشاف ثم في القاء القنابل للقتل والتدمير وحرق المحاصيل. فقد غامرت القوات الغازية الإيطالية في هجومها على ليبيا باستعمال الطائرات في أغراض حربية وفي القنبلة رغم أنها لا تصنع طائرات و رغم أن جل القيادات العسكرية في البلاد المصنعة للطائرات غير متأكدة بعد من أهميتها كسلاح جو ولا تثق الا في قدراتها الاستكشافية.
فقد قام القبطان الإيطالي " بيازا " بمهمة استطلاعية على طائرة بليريوت فوق الخطوط التركية قرب طرابلس يوم 22 أكتوبر 1911 ثم قام الملازم الإيطالي جوليو جافوتي بحمل قنابل على متن طائرته الفرنسية من نوع " نيوبورت ". (وقد أسّر لوالده في رسالة: "سيكون من المثير جدًا القيام بتجارب على الأتراك."). في 1 نوفمبر 1911 ، انطلق في اتجاه واحة عين زارة و في الطريق ، لاحظ تجمع قرويين في الواحة فألقى عليهم قنابله.وهو ما يؤكد تبني الجميع استراتيجية "الحرب الشاملة" (أي قتل المدنيين وتدمير منشآتهم وزراعتهم...) منذ أول طلعة جوية مقنبلة. ورغم اتفاق القيادة التركية مع إيطاليا على الاخلاء وايفاد أمرها للجيش في ليبيا فقد رفض الضباط الشباب الأوامر(وكان بينهم مصطفى كمال الذي سيصبح أتاتورك) وعبأوا القبائل وبذلك استمرت الحرب التقليدية من 29 شتنبر 1911 الى 18 أكتوبر 1912 . وبعد هزيمة الجيش الإيطالي في معارك سيدي عبدالجليل وسيدي بلال عززت إيطاليا العتاد والعدة وقامت بمجازر ضد المدنيين والماشية والمزروعات لدفع المقاومين على المغادرة أو الاستسلام. ولم يكن بوسع الجنود الأتراك الا الرد بالمدفعية التي بين يديهم ضد الطائرات المغيرة. فكانوا أول من فتح الباب لانطلاق العمل على انشاء المدفعية المضادة للطيران. حيث سيتم في الميدان الاستراتيجي العسكري انشاء ثم تطوير فيالق الدفاع الأرضي المضاد للطائرات وتطوير صناعة المدفعية المضادة للطيران. " DCA Defensive counter air "
ولما انتشرت أخبار جرائم الحرب في كل البقاع، لجأت إيطاليا الى الكذب والدعاية القديمة /الجديدة. وتماما كما يحصل اليوم (بعد أكثر من قرن من الزمن) تغنت الصحافة الايطالية بانتصار الحضارة الأوروبية على ظلامية المسلمين واستعادة الحرية للعرب المضطهدين. وردا على الاحتلال وتبني العسكر الإيطاليين ل "استراتيجية الحرب الشاملة" التي جرمتها كل الديانات والمذاهب الإنسانية، فقد اضطر الشعب الليبي الى تنظيم المقاومة الشعبية فأصبح عبء الحرب على كاهل الشعب الليبي.
وبهذا كانت إيطاليا قد حققت سبقا ملموسا اذ أن الحرب العالمية الأولى انطلقت وما زال القادة العسكريون الكبار من الجانبين المتسارعين يعتبرون أن الطيران انما يشكل وسيلة إضافية للتعرف على ما يجري في الجهة الأخرى من " الهضبة" على حد تعبيرهم. أما الطيارون العسكريون فكانوا طموحين الى تحقيق الذات اسوة بالمدنيين وتحديا للإيطاليين، فسعوا الى اثبات عكس ما تصوره القادة وتوفقوا خلال الحرب الكبرى في إقامة الدليل بأن تدخلهم يمكنه أن يشكل سلاحا هاما في القنبلة كما في الهجوم وليس فقط في الاكتشاف.
ج‌- الطائرة المحكمة
في اطار استراتيجية "الحرب الشاملة" تنوعت أشكال محاربة المقاومة الشعبية ذات الوسائل التقليدية. فأرسلت روما اللواء "رودولفو غراتسياني " الى برقة في 28 مارس 1930 فصمم على قتل كل السكان اذا اقتضى الأمر ذلك ولم يلبث أن خلد اسمه هو نفسه على أنه "جزار برقة". هذا المجرم الحربي هو من أنشأ "المحكمة الطائرة" وهي محكمة عسكرية كان يتنقل أعضاؤها بالطائرة الى حيث يلقى القبض على المشبوه في تعامله مع الثوار فيحاكم بالظنة. وكانت هذه المعلمة الفاشية الإيطالية تقيم محاكمات صورية غير عادلة واستعراضية هدفها الدعاية للقوة الصناعية والإدارية والعسكرية. وكانت تصدر الأحكام ويتم تنفيذها في الحال. بل كان من سماتها المتكررة هي ان يتجاوز الحكم اقصى العقوبات ولا يتساوى مع الجرم لإظهار البطش ونشر الرعب والخوف والردع بين السكان.
د‌- المقاومة دائما ظافرة وان طال الزمن
واستمر المجاهدون الليبيون خصوصا المرتبطون بالحركة السنوسية بتنظيم حركة المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، الذي ما فتئ ان تحول الى استعمار استيطاني وخاصة في برقة. واستمرت المقاومة عشرين سنة قبل إخمادها من قبل القوات الإيطالية في عام 1932، بعد أن أسفرت عن مقتل ربع سكان برقة.
ولقد شاءت الأقدار أن يسقط الشهيد البطل عمر المختار أسيرا جريحا بين يدي غراتسياني الذي ظن لعمى بصيرته أن القمع والبطش بالغين أمرهما. فقامت "حضارة" روما و"عدالتها" بسجن رجل عجوز ثم أبت الا أن تسجل عبقريتها وانسانيتها وعظمتها في الدفتر الذهبي للتاريخ الإنساني. اذ أقدم جزار روما على استقدام "الطائرة المحكمة" لتصدر حكما شبيها بالحكم على السيد المسيح. وكان الإعدام شنقا بحضور غراتسياني الذي بدا قزما فيما قال عمر المختار قولته المشهورة "نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت" التي رفعته الى عنان السماء والقزم ينظر اليه من تحت. ولا زالت هذه الصورة والى الأبد تكرس المفارقة، تلقي النور والوقار على المشنوق وتغرق الجزار في الظلام والخزي. ولم يلبث النور أن يمحي الكابوس والظلمة الفاشية بعد أقل من عشر سنوات حيث انهزمت إيطاليا الفاشية شر هزيمة ونفذت طائرات الحلفاء بدورها استراتيجية "الحرب الشاملة" على الشعب الإيطالي المقهور.
بذرة وبشائر الأمل
لوكربي منحتنا هذه التذكرة حول قصصنا مع الطائرة ! وهي واحدة من عدة تذكرات وتساؤلات حول العلم والتنمية والحرية التي تفضي كلها الى الاكتشاف المبدع والانتقال من العلوم الأساسية إلى العلوم التطبيقية ثم الميكانيك ثم تكتمل الدورة بالصناعة و الرجوع الى التعليم والتكوين. تذكرة لوكربي صرخة لا زالت ضمن جملة من الصرخات التي تجدد الدعوة إلى العبرة والتشجيع الدائم على التفكير حول التصنيع والتكنولوجيا والتنمية والديمقراطية.
بين القرنين الـ 8 والـ 14، عاشت بلاد الإسلام عصرًا ذهبيًّا ازدهرت خلاله العلوم والمعارف، حيث نجح علماء من بلاد المسلمين في طرح مدخل تجريبي رصين للعلوم، وحوّلوا الخيمياء، الى علم مستقل قامت عليه الصناعات الكيميائية. كما نقش "علم الحيل" بصمة رواد الحضارة الإسلامية في الهندسة الميكانيكية . ثم استقلت أوروبا القطار وهو مسرع حيث عاصرت النهضة الأوروبية العصر الذهبي لبلاد المسلمين ما بين القرن 12 والقرن 14. ثم بدأ التقهقر عندنا فيما استمرت إيطاليا وبعدها أوروبا في صيانة هذه الطفرة.
فاذا كان التحليل التاريخي/الاقتصادي، حول انهيار العالم العربي كثير فأغلبه وصفي وقليل منه يخص القاعدة المادية الاقتصادية الداخلية و الوضع الجيوسياسي /الجيوستراتيجي خارجيا. فاللغز المحير لا زال هو هذا السؤال: لماذا كان العرب سباقين للتحول من العلوم الأساسية البحتة الى العلوم التطبيقية ثم الى الاختراعات العملية والميكانيكية كالساعة والآلة والروبوت ... ورغم ذلك لم يفض هذا التطور الى ثورة صناعية أو الى نمط انتاج رأسمالي مثل أوروبا؟ لماذا حلم عباس بن فرناس بالطيران (810 - 875 ) وقام بمحاولاته وانتهى الأمر؟ ولماذا حلم ليوناردو دافنتشي (1452-1519 ) مثل عباس بن فرناس ولكن أوجد المجتمع الأوروبي من أحيا فكرته ورعاها حتى أثمرت طائرة ستفيد أوروبا في سيطرتها على العالم؟ ولماذا انتقل الجزري (1136- 1206 ) من الرياضيات والهندسة الى الميكانيك ثم صمم وصنع عدة أشياء تتحرك أوتوماتيكيا ولم يستمر عطاؤه عبر الأجيال بل طواه النسيان ثم انتهى الأمر. فلقد اخترع روبوت وقدمه للسلطان الأرتوقي حاكم ديار بكر بتركيا والجميع يعده أول روبوت في العالم. كما أنشأ الجزري أول نظام لتوزيع المياه باستخدام الاَلات الهيدروليكية. ولهذا ترجمت أعماله وتبنتها مدارس وجامعات غربية عظمته ولقبه علماؤها ب"أبو الروبوت". ثم هناك أمثلة عديدة منها إسماعيل بن حماد الجوهري( توفي 1003م) وابن الشاطر (1304م - 1375م) الخ.
من اختراعات الجزري الميكانيكية.
بالنسبة لأوروبا، عارضت الكنيسة الأفكار العلمية وما تعرض له "كوبرنيكوس" لا زال شاهدا. لكن لماذا حصل بعدها العكس تماما في بلاد الكنيسة؟ بدأ عصر النهضة في إيطاليا أولا حيث أعيد اكتشاف فنون العصر الروماني والإسلامي واليوناني وأفكارهم الرائعة وتطلعاتهم في شتى العلوم، في إيطاليا خلال القرن الثاني عشر (ونحن لا زلنا في عطائنا العلمي) الأمر الذي أدَّى إلى بدايات عصر التحولات الكبرى. فبفضل كتاب عديدين مثل "دانتي أليجييري" و«فرانشيسكو بترارك» انتشرت أفكار هذه العصور المختلفة في جميع مناحي نهضة المجتمع، في ذلك الفلسفة والفن والأدب والعلوم والرياضيات وغيرها، وساعدت البحث العلمي لتسريع وتيرة النهض والتاريخ.
فرضيتي أن هذا "اللغز" لا زال لم يفك في عالمنا العربي بل ليس مطروحا بحدة للنقاش العام. فالثورة الصناعية الأوروبية لم تأت من أفكار وانتصارات عسكرية فقط. كما أن انحطاط الأمة لم يتم فقط بسبب المؤامرات الغربية والانهزامات العسكرية وانما من الأساس المادي والسياسي للقوة: اقتصاد قوي ومجتمع حر متعلم ينطلق للإبداع والوحدة والعمل. ولنتذكر أن عباس بن فرناس قد اتهم وحوكم بذريعة أنه مشعوذ ومجنون جراء ما قدمه من حيل واختراعات في حين أن خلفية طبقة المسؤولين الوصوليين الذين لا يسألون (بضم الياء) ، كانت ردع التفكير والابداع لأنهم يخافون من تغير الأحوال ومن المستقبل بل من الغد القريب الذي لا يأمنونه كلما حل وقت نومهم. لقد تجاوز المجتمع الأوروبي عراقيل الكنيسة وبطش الحكام بينما كنا نقف ونكبو بين حاكم عادل وآخر جائر وعلى مستوى المسؤولين في البلاط وفي المدن والبوادي كلما تقلد المسؤولية من ليس أهلا لها ترعرعت وتغولت السلطوية وتدنى التعليم وتم تهميش المفكرين والتنكيل بالنزهاء التواقين الى النهضة فانتصرت المصلحة الفردية على الشأن العام فتراجع العصر الذهبي الى عصر تقاعسي. وحال قهر الفلاحين والتجار والصناع بالضرائب والجور دون تحقيقهم للتراكم الرأسمالي. وبعدها لم تبق لا مصلحة خاصة ولا عامة. الكل غدا من الأهالي وفي درجة ثانية أو ثالثة بعد المستعمر والمستوطن الأوروبي.
لكن الحمد لله على وجود تغيرات تبشر بإمكانية نهضة في هذا المنعرج الذي تعرفه قور أوروبا وأمريكا اليوم. فهناك بعض الأمثلة. ان تركيا حفظت الدرس جيدا ولها الآن صناعات مختلفة ومتعددة وأصبحت تزود قوى كبرى كروسيا بطائراتها المسيرة. لكن لا زال أمامها العديد من التحديات خصوصا في عمقها المادي/الاقتصادي والاجتماعي/السياسي وفي القوة الناعمة. أي في تلك القلعة الشامخة والأساس الصلب الذي يحصن المجتمع ويسند القوة العسكرية. والحمد لله أن بلادا عربية أخرى بدأت تتعزز في الصناعات التي كانت حكرا على أوروبا وفي ممارسة الندية مع القوى المهيمنة. لكن في الغالب لا زالت بجدران القلعة تشققات قد لا تسند الحصن أو قد تؤخر الاتجاه نحو المزيد وبسرعة أكبر.



#عبداللطيف_النكادي (هاشتاغ)       Abdellatif_Ngadi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قطر2022 عودة الى الاقتصاد السياسي للرياضة
- ليوطي يرفض نشر اعلان حقوق الانسان والمواطن في المغرب ويرفض م ...


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبداللطيف النكادي - الطائرة من الحلم العربي الضائع الى الحلم الغربي النافع محن ليبيا الشقيقة مع الطائرة