محمد الياسري
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 15:48
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
شهد العراق خلال الأيام القليلة الماضية مرحلة انتخابية جديدة تندرج ضمن المسار المتعثر لديمقراطيته الناشئة، حيث أُجريت الانتخابات التشريعية وسط ترقّب داخلي وخارجي، وفي ظل بيئة سياسية مضطربة تشهد تحولات داخل القوى التقليدية، وتراجعًا في ثقة الشارع، ومحاولات مستمرة من الأحزاب الصاعدة للتموضع في المشهد العام. هذه الانتخابات، التي تُعدّ الأهم منذ انتخابات 2021، جاءت أيضًا في ظل انقسامات سياسية حادة داخل البيت الشيعي، وتشتت داخل المكون السني، وتنافس كردي–كردي ينعكس على طبيعة التحالفات المقبلة، ومع إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نتائجها الأولية ونسب المشاركة، تبرز الحاجة إلى قراءة معمقة لما حدث، وما يمكن أن ينتجه هذا الاستحقاق من ملامح للحكومة القادمة، وماهي الدلالات التي يمكن أن تُستخلص من الأرقام، ومن خريطة القوى الفائزة، ومن المزاج الشعبي الذي بدا مترددًا، لكنه في الوقت نفسه يُظهر رغبة محسوبة في إعادة تشكيل الهوية السياسية للدولة العراقية.
تمتاز الانتخابات الأخيرة بأنها جرت في ظروف تختلف عن الدورات السابقة. إذ شهد العراق خلال السنوات الأخيرة احتجاجات واسعة، وتراجعًا في الخدمات العامة، وضغوطًا اقتصادية، وصراعًا داخل القوى السياسية انعكس بشكل مباشر على ثقة المواطنين،وبحسب أرقام المفوضية العليا، بلغ عدد المشاركين في التصويت العام والخاص معًا 12,003,143 ناخبًا من أصل21,404,291، أي بنسبة 56.11%.
حيث بلغ عدد المصوتين في يوم الاقتراع العام 10,898,327 ناخبًا (54.35%).
وهذه الأرقام تدل:عودة نسبية للثقة:رغم المقاطعة التي دعا إليها التيار الصدري، ورغم الإحباط العام، إلا أن نسبة 56% تعتبر أفضل من توقعات كثير من المحللين الذين رجّحوا نسبة مشاركة تتراوح بين 40% و45%، التصويت الخاص يكشف فجوة سياسية: نسبة الإقبال في التصويت الخاص للأجهزة الأمنية بلغت 82.52%، مقابل نسبة أقل بكثير بين المدنيين.
وهذا يشير إلى:انضباط المؤسستين العسكرية والأمنية، شعور فئات واسعة من المدنيين بأن العملية الانتخابية لا تُحدث التغيير الكافي، إقبال النازحين (77%):وهي نسبة تُظهر رغبة هذه الفئة المهمشة في المشاركة رغم الظروف الصعبة، الأمر الذي يعكس تفاعلاً سياسيًا أعلى من المتوقع داخل المخيمات، تراجع عدد المسجلين مقارنة بانتخابات 2021
بعد تحديث سجل الناخبين، انخفض العدد من نحو 24 مليونًا إلى 21.4 مليون.
هذا يعكس:تعليق أسماء مهاجرين ومقيمين خارج البلاد، تحديثًا أعمق لقاعدة البيانات.
لكنه يعكس أيضًا عزوف آلاف الشباب عن تحديث بياناتهم الانتخابية نتيجة عدم الثقة.
** خلفيات سياسية تسبق يوم الاقتراع
لا يمكن فهم نتائج الانتخابات دون فهم السياق السياسي الذي سبقها. فقد دخلت القوى السياسية العملية الانتخابية وهي تعاني من:
1. انقسام غير مسبوق داخل البيت الشيعي
بعد تجربة “الإطار التنسيقي” وتراجع دوره في الأشهر الأخيرة، ظهرت:قوائم جديدة، اختلافات في الرؤية السياسية، ابتعاد بعض القوى عن التحالف التقليدي.ومع انسحاب التيار الصدري، بدا المشهد الشيعي مفتوحًا على تنافس داخلي غير مسبوق.
2. تفكك في المكون السني
القوى السنية التي كانت قد توحدت نسبيًا عام 2021، دخلت الانتخابات الحالية بتشتت واضح:“تقدّم”، “السيادة”، “عزم”، قوائم فردية، وهذا يعني أن المكون السني رغم امتلاكه أوزانًا كبيرة، إلا أنه لم يدخل الانتخابات بكتلة موحدة.
3. التنافس الحاد بين الحزبين الكرديين
في كردستان العراق:
• الحزبان الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني، يعيشان مرحلة تنافس شديد على السلطة الإقليمية والتمثيل الاتحادي، مما دفع كل حزب إلى خوض الانتخابات بقوة أكبر، مع التركيز على ضمان مقاعد تفاوضية مؤثرة في بغداد.
**خريطة الكتل ونتائج القوى السياسية
أولاً – الكتلة الشيعية: بين التصدّر والتشتت
بحسب النتائج المعلنة:
• حصل تحالف الإعمار والتنمية بقيادة محمد شياع السوداني على حوالي 46 مقعدًا وقرابة 1.3 مليون صوت.
ومع أن هذا التحالف يتصدر، إلا أن بقية القوى الشيعية مجتمعة تشكل كتلة لا تقل حجمًا، لكنها غير متجانسة في الرؤية السياسية، مما يعقد عملية تشكيل الحكومة.
أبرز ملامح المشهد الشيعي: لا توجد كتلة شيعية واحدة قادرة على تشكيل الحكومة منفردة، القوى الشيعية بحاجة إلى تحالفات خارج المكون، التنافس بينها، لا سيما بين قوى “الإطار” السابقة، يظهر في طريقة تعاملها مع النتائج.
ثانيًا – الكتل السنية: رقم صعب رغم التشتت
بحسب التحليلات: حصلت القوى السنية مجتمعة على 50–60 مقعدًا، هذه المقاعد تجعل الصوت السني حاسمًا في تشكيل الكتلة الأكبر، لكن هذا الدور الحاسم قد يتراجع إذا بقيت الكتل السنية متنافسة فيما بينها ولم توحّد موقفها.
تحديات البيت السني: غياب قيادة موحدة، صراع على المواقع داخل المحافظات الغربية، اختلاف في علاقاتهم بالقوى الشيعية والكردية.
ثالثًا – القوى الكردية: الثقل التفاوضي يعود بقوة حيث يتوقع أن يحصل الأكراد على 56–60 مقعدًا، وهي نسبة جيدة تمنحهم:
دور “البيضة في الميزان”،قدرة على ترجيح أي تحالف حكومي، مساحة للتفاوض حول ملفات كبرى:النفط، الموازنة
، المناطق المتنازع عليها.
الحزب الديمقراطي الكردستاني قد يذهب نحو تحالف مع القوى الشيعية المسيطرة، بينما يحافظ الاتحاد الوطني على سياسة أكثر تريثًا.
**قراءة سياسية للنتائج
1. المشاركة المرتفعة رغم المقاطعة
إن مشاركة أكثر من 12 مليون ناخب تعني أن المقاطعة، رغم أهميتها، لم تمنع قطاعات واسعة من العراقيين من العودة إلى الصندوق.
هذا مؤشر على: إرادة التغيير موجودة، القناعة أن الانتخابات، رغم عيوبها، ما زالت أداة فعّالة نسبيًا.
2. استمرار سيطرة القوى التقليدية، القوى التي تمتلك: المال السياسي، القواعد الشعبية، التنظيم الحزبي، النفوذ الاجتماعي، ما زالت قادرة على الاحتفاظ بنفوذها البرلماني.
3. ضعف القوى الجديدة والمدنيةرغم محاولات القوى المنبثقة عن احتجاجات تشرين دخول البرلمان، إلا أنها لم تحقق اختراقًا كبيرًا، وذلك لعدة أسباب منها قلة الموارد، ضعف التنظيم، غياب قيادات موحدة، الضغوط السياسية.
4. التأثير الخارجي باقٍ لكنه يتراجع
القوى الإقليمية والدولية ظلت تتابع الانتخابات وتأثيرها على مصالحها، لكن المزاج العراقي بات أقل انفتاحًا على التوجيه الخارجي، وأكثر حساسية للقضايا اليومية الاقتصادية والخدمة.
**سيناريوهات تشكيل الحكومة
بناءً على المعطيات، يبدو أن تشكيل الحكومة سيكون تحديًا يتطلب وقتًا أطول من المتوقع أن يكون هناك أكثر من سيناريو
الأول – تحالف شيعي–سني، قد يكون
تحالفاً بين السوداني وإحدى الكتل السنية الكبيرة (مثل تقدّم)، ويتصف هذا السيناريو بعدة مميزات منها: تشكيل سريع نسبيًا، دعم دولي وإقليمي مقبول، توازن بين المكونات،
لكن تحدياته قد تكون الخلاف على الحقائب السيادة، عدم جهوزية الكتل السنية لتقديم موقف موحد، السيناريو الثاني قد يكون تحالف ثلاثي (شيعي–سني–كردي) وهو السيناريو الأكثر واقعية، لأنه:يعكس توازنًا وطنيًا، يمنح الحكومة قاعدة أوسع، يضمن مشاركة جميع الأطراف المؤثرة، لكن هذا السيناريو يتطلب: تفاهمات صعبة حول وزارة النفط، اتفاقات دقيقة حول حصة كردستان الموازنة، معالجة ملف كركوك والمناطق المتنازع عليها.
السيناريو الثالث – كتلة شيعية موسعة
إذا استطاعت القوى الشيعية إعادة ترتيب صفوفها، فقد تتشكل “كتلة أكبر” شيعية خالصة، لكن هذا السيناريوغير مستقر سياسيا، سيواجه اعتراضات سنيّة وكردية، قد يعيد تجربة حكومات ما بعد 2014 التي عانت من انسداد سياسي،ومع وجود كافة الاحتمالات في واقع ومسألة تشكيل الحكومة الجديدة تثار فرضية التحديات التي من المحتمل أن تواجه هذه الحكومة ومن هذه التحديات : الأزمة الاقتصادية
حيث انخفاض أسعار النفط العالمية، ضعف الاستثمار، ارتفاع البطالة، تراجع القدرة الشرائية، وهذا يتطلب من الحكومة المقبلة رؤية اقتصادية لا تعتمد فقط على الريع النفطية، كذلك مكافحة الفساد ويعد أكبر تحدٍّ، لأنه: متجذر، مرتبط ببنية الأحزاب، محمي من شبكات نفوذ سياسية،ثم الأمن والاستقرار الداخلي فرغم تحسن الوضع الأمني، ما تزال بعض المناطق تعاني من نشاط جيوب داعش، والنزاعات العشائرية، وجود مناطق غير مستقرة، وملف العلاقة بين بغداد وأربيل حيث أنإدارة الملفات المشتركة تحتاج إلى اتفاق طويل الأمد، آليات واضحة، حلول واقعية بعيدًا عن الصفقات المؤقتة، وتبرز خدمات الكهرباء والماء والبطالة تحد ٍسيشكل معيار الثقة بالحكومة الجديدة.
َمما تبين ومن خلال هذه القراءة السريعة
على الأحزاب والكتل الفائزة ان تعمل على: ضرورة اعتماد الشفافية في مفاوضات تشكيل الحكومة حتى لا يشعر المواطن بأن النتائج مجرد “مواد خام” تُعاد صياغتها خلف الأبواب المغلقة، تطوير قانون الانتخابات بما يسمح بتمثيل أكبر للقوى الجديدة، ويحد من سيطرة المال السياسي، تعزيز دور المرأة والشباب، وجود 2,247 مرشحة في الانتخابات خطوة إيجابية، لكن الفعل السياسي للمرأة يحتاج دعمًا مؤسسيًا، إنهاء مركزية التحالفات الطائفية، التجربة أثبتت أن الحكومات الطائفية قصيرة العمر وتوسع الفجوة بين المجتمع والدولة، الخلاصة ان العراق أمام فرصة مفصلية،وان الانتخابات الأخيرة لم تغيّر المشهد العراقي بشكل جذري، لكنهاأعادت رسم ملامح جديدة للتحالفات، وكشفت أن الناخب ما يزال مستعدا للمشاركة، أثبتت القوى التقليدية انها لا تزال الأقوى، منحت بعض القوى الصاعدة موطئ قدم،ان العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق فإما أن تتحول نتائج الانتخابات إلى فرصة لاستعادة الدولة أو تتحول إلى محطة أخرى من محطات الانسداد السياسي.
#محمد_الياسري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟