يحي عباسي بن أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 19:34
المحور:
قضايا ثقافية
المقدّمة
هل يعيش العقل العربي حقًّا أزمة؟ أم أن الأزمة الحقيقية تكمن في المفكّر أو في الخطاب الذي يقرّر وصفه؟
لقد تربينا—في فضاءنا الفكري الإسلامي والعربي—على فكرة “تأزم العقل العربي”؛ فكرة تقول إن هذا العقل تأخّر، أو أنه عاجز، أو أنه يعيش مأزقاً حضارياً جعل الأمة تبتعد عن ركب الحضارات. لكنّ هذه الفرضية تستحق التأمّل: ربما ليس العقل هو المُصاب، بل المفكر الذي يفترض أنّه ينقّبُ عنه. ربما ليس العقل هو الذي يحتاج لإصلاحٍ جذري، بل المفكر هو الذي استسلم لمعاييرٍ خارجيّة ثم طبّقها على ذاته وسياقه.
وسنحاول في هذا التأمّل أن نخوض في أربعة محاور: أزمة الغرب وفعل العقل فيه، العقل العربي بين الجاهلية والإسلام، أزمة المفكر والاسقاطات المعرفية، وأخيرا إعادة تصوّر للحضارة تتجاوز المقارنة التقليدية. في النهاية، أذهب إلى القول: العقل محفوظ، والمأزق في من يفكر فيه.
المحور الأول: الأزمة الغربية — صراع النص والوعي
لنبدأ من الغرب، لأنّه بالفعل عاش “أزمة عقلية” حقيقية، لكنها ليست ما يُنسب للعرب أو المسلمين. في فضاء المسيحية الأوروبية، دخل العقل في شد مع النصّ المقدّس، ومع الكنيسة، مع العلم. كان الصراع ليس مجرد تخلف تقني، بل صراع وجوديّ: من نحن؟ ما النصّ؟ ما العقل؟ كيف نقرأ؟
ذكر Karl Jaspers أن "الأزمة الحقيقية للعقل الغربي نشأت عندما فقد الإنسان اليقين في المراكز التقليدية للسلطة الروحية، فظهر الفراغ الوجودي الذي تحرك فيه العقل دون هديّ".
هذا الفراغ ناتج من تحوّل النصّ من مركزية إلى شبه غياب أو تعدّد مرجعيات، فدخل العقل في تحدٍّ مع ذاته: هل يكتفي بالنصّ، أم يتجاوز النصّ؟ وهل يترك للنصّ ألاّ يُطرح؟ وهل يستطيع أن يبني منظومةً يقينية بنفسه؟
وعندما تحرّر الغرب–أو ظنّ أنه تحرّر–من النصّ المرجعي (أصلاً أو فعلياً)، دخل مرحلة “أزمة الاستغناء عن المقدّس”. العقل الغربي الآن مُسلّحٌ بتقنيات هائلة، ولكنه يتساءل بعمق عن المعنى، عن الحرية، عن الذات، عن القيمة. والأكيد أن العقل الغربي عقل مأزوم، مأزومٌ لكن في شكل آخر: مأزق المعنى لا مأزق التقنية.
وهنا يستحق أن نُذكّر بما قاله إدوارد وديع سعيد في أحد اقتباساته:
"فالسلطة ليس فقط أن تسرد، بل أيضا أن تمنع ظهور سرديات أخرى أو تشكلها، وهي سلطة شديدة الأهمية في الثقافة والإمبريالية "
أيّ إنّ السيطرة على الخطاب والنصوص والعقل ليست مجرد تقنية، بل مسألة وجود، هوية، قدرة على السرد. ولذلك فإنّ الغرب الذي تجاوز نصّاً أو تغيّرت مرجعيته دخل في تحدٍّ داخليّ: كيف تبقى الإنسان إنسانًا حين ينفصل عن جذور النصّ؟ كيف يتحقق العقل إن لم يكن ضمن سياق مرجعي؟
بهذا يتضح أن “الأزمة الغربية” ليست في نقص التقنية، بل في فقدان الاتجاه، أو في سؤال “لماذا” أكثر من “كيف”.
المحور الثاني: العقل العربي بين الجاهلية والإسلام
لننتقل إلى التجربة العربيّة والإسلاميّة. هنا نرى أن العقل لم يبدأ من “نقص” موروث فحسب، بل من واقع يُميّزه: قبل الإسلام (في الجاهلية) كان العقل بلا منظومة مرجعية جامعة، بلا غاية أخلاقية واضحة، بلا ضبطٍ معرفيّ يأخذ بيده نحو مشروع. كان حكم العرف، والمجتمع القبلي، والحياة عبر السَّرديات التقليدية.
ومع ظهور الإسلام تغيّر المشهد: جاء النصّ القرآني ليأسّس منظومة: عقلٌ + نصٌّ + أخلاقٌ + عمل. أي أن العقل لم يُعزل بل وُضع في علاقةٍ مع الوحي، مع النصّ، مع المجتمَع. من هنا يمكن القول إنّ العقل الإسلامي ليس عقلًا مفصولاً، بل عقلٌ ضمن حقل مرجعيّ.
ينبغي هنا الإشارة إلى محمد عابد الجابري الذي في كتابه نقد العقل العربي يقول:
"… إن مشروع النهضة لا يمكن أن ينطلق إلا من تحليل آليات العقل والوعي العربيين، لكن يجب تمييز ما هو قائم بالفعل وما هو مفترض في أذهان المفكرين" .
هذا القول مهمّ: الجابري يدعو إلى مراجعة العقل وليس إلى هدمه. لكن من جهة أخرى، فقراءته – من وجهة نظر انتقادية – قد أسّست لافتراض أن العقل العربي “ناقصٌ” أو “غير ناهض”. وقد لاحظ النقّاد أن المشروع واجه إشكالات في أن يُدرج العقل العربي ضمن مقارناتٍ غرب – شرق، فبنى إشكالية عقل عربي “مأزوم”.
فعندنا هذا التفصيل: العقل الإسلامي ليس بالضرّورة مآزومًا؛ إنّه ضمن منظومة، لكنّ المفكّرين المبكّرين قد قرروا أنّه “مأزوم” بناءً على معاييرٍ غير محليّة، مما أدّى إلى وضع وصفٍ لم يكن واقعيًّا بالكامل.
ونجمل الأمر بأنّ ما يُحفظ للعقل العربي الإسلامي هو: هوية واضحة (من خلال الإسلام كنصّ ومنظومة)، غاية أخلاقية (التوحيد، العلاقة مع الآخر، المسؤولية الفردية والجماعية)، منظومة عمل (العبادة، المعرفة، الأخلاق). فإذا توفّرت هذه المعالم الكبرى فهي من طبيعي أنها “تحمي العقل من الأزمة”. فالسؤال إذن: أين المشكل؟ كيف يكون العقل “مأزومًا” وهو يمتلك تلك المعالم؟
من وجهة النظر التأملية، الجواب: لأن المفكّر أسقط على العقل تجربة ليس من تجاربه؛ نقل أزمة الغرب إلى السياق الإسلامي، مع تغييب فهم السياق الفريد للنصّ والهوية.
المحور الثالث: أزمة المفكّر – إسقاط الآخر
إذا لم يكن العقل مأزومًا في جوهره، فبالتالي ينبغي أن نوجه النظر إلى المفكّر أو إلى الخطاب الذي وصفه بأنه مأزوم. إنّ أزمة المفكّر تتجلّى في عدة أبعاد:
أ. الاستيراد المعرفي وغير النقدي
المفكّر يعاير ظروفه بمعايير الغرب: التقنية، النموّ، العلمية، العلمانية. فيتبنّى نمط “نقص” ويبدأ من فرضيّة أن العقل العربي أقلّ، ثم يبحث عن أسباب: التراث، الثقافة، الدين، التخلّف… وهنا نصبح أمام “وهم التأزّم”.
ب. المقارنة غير العادلة
حين يُطلب من العقل العربي أن يكون مثل الغرب في زمن مختلف، بموارد مختلفة، في سياق تاريخي مختلف، فهذا ليس فقط غير عادل، إنما يُدخل العقل في موقف دفاعي أو تبريري، بدل أن يكون فاعلاً مستقلاً.
ج. فقدان الوعي بالمرجعية
المفكّر غالباً ما يفكّر وكأنّ المرجعية محايدة أو كأنّها قابلة للتجاهل، في حين أن العقل في الإسلام منذ البداية ضمن مرجعية (الوحي، النص، الأمة، الأخلاق). فحين يفقد هذا الوعي، يُصبح المفكّر في موقف “تبع” لا “قيادة”.
وفي هذا الإطار، يقول مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة:
"الحضارة لا تقوم بمجرد امتلاك الإنسان للتقنية أو الثروات، بل يحتاج التفاعل الواعي بين الإنسان والتراب والزمن في إطار المرجعية الفكريّة والقيميّة" .
وهذا يوضّح أن المشكلة ليست تقنية، بل معرفية وقيمية. لذلك حين ينشغل المفكّر العربي بامتلاك التقنية أو اللحاق بالغرب، يغفل أنّ لب المسألة هو كيف يُوظّف الإنسان التقنية ضمن مرجعيّته، وكيف يعيش الزمن والاتصال بالتراب والقيم.
بهذا تكتمل فكرة أنّ “أزمة المفكّر” هي التي تتحوّل إلى “أزمة للعقل” في الوعي الشعبي: المفكّر يكتب أن العقل مأزوم، فيُصبح هذا الوصف حقيقة لدى السياسات والناس، وينعكس على التعليم والبحث والثقافة. فهذا الوصف نفسه جزء من المشكلة.
مثال: عندما ينتشر أن “العقل العربي مأزوم” يُصبح المفكّر في موقع الدفاع عن العقل، أو في موقع التبرير، وليس في موقع البناء الحرّ.
بهذا تتحوّل الطاقة الفكرية المبدعة إلى طاقة “إصلاح” أو “تصحيح النقص” أكثر من طاقة “خلق الحضارة”.
المحور الرابع: إعادة النظر في مفهوم الحضارة
لو نظرنا إلى الحضارة بمعايير تقليدية (الابتكار، التقنية، النموّ، النموذج الغربي) فإننا نخضع للعقلية التبعيّة التي يرفضها الفكر النقدي. لأنّ الحضارة ليست مجرد “مدنيّة الغرب” أو “امتلاك التكنولوجيا” أو “مشروع نموذجٍ غربي”. الحضارة هي مشروع إنساني متعدد الأبعاد: تجسّدت فيه المعرفة، القيم، العمل، العلاقة مع الطبيعة، العلاقة مع الآخر، الزمن، التراب… وهذا ما يؤكّده مالك بن نبي في معادلته:
"ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت + فكرة (مرجعية)" .
وبالتالي، لا يكفي أن نملك تقنيات الهاتف الذكي أو الإنترنت عالي السرعة لنصبح “حضارة حديثة”. بل الأهمّ: كيف يُوظّف ذلك الإنسان، في ذلك التراب، في ذلك الزمن، ضمن مرجعية قيمية تُحوّله من مُستهلك إلى منتج.
كمثال: المجتمعات التي ارتفعت فيها التقنيات لكن بدون قيم أو هوية، واجهت ما يمكن أن نسميه “أزمة معنى” – وهي ليست أزمة التقنية بل أزمة الحرّية، علاقة الإنسان بالنصّ، علاقة الإنسان بالذات، علاقة الإنسان بالمرجعية.
وفي المقابل، العقل العربي الإسلامي، ضمن منظومة الإيمان والعمل، لديه تلك المرجعية، لكن خسر التواصل مع الفاعلية التي تحوّله إلى إنتاج حضاري. فلا هي طبقت التقنية فانتجت حضارة، ولا هي باعت المرجعية فانهارت إلى نموذج الاستلاب. بل بقيت في موقف انتظار أو استهلاك. وهذا أيضاً جزء من الأزمة: ليس العقل مأزوماً، بل المجتمع والفعل الحضاري هما في حالة سبات أو تجمّد، أو في حالة انتظار لنهضة تكتبها الذات.
لذلك، إعادة النظر في مفهوم الحضارة يُفضي إلى استيعاب أن المعركة ليست تقنية، بل فهمُ الذات، وقراءةُ النصّ، وإدراكُ الزمن، وتمكينُ “الفعل الحضاري” لا مجرد “التقني”.
الخاتمة
ها نحن ننهي هذا التأمّل بالتأكيد على أن العقل العربي الإسلامي ليس مأزومًا بالفطرة أو بالبنية، بل يحمل في ذاته مقوّمات سلامة وفعاليّة: هوية، مرجعية، غاية، أخلاق. ما يفتقده هو الفاعل المفكّر الذي يدرك موقعه، ووعي الذات، والقدرة على إنتاجٍ حضاريّ لا مجرد تقليد أو مقاربة للآخر.
وبالتالي:
أزمة المفكّر هي أزمة وعي، وليست أزمة العقل.
إذاً، المطلوب اليوم ليس أن ننقد العقل العربي لأنّه ناقص، بل أن نستعيد وعينا بأنفسنا، بأن لدينا نصًّا يؤسّس، هويةً تحفظ، منظومةً تؤطر، وأن ننطلق منها لا من تقليد. المطلوب أن نسأل: كيف نُفكر ونحن ضمن نصّ ومنظومة؟ كيف نجعل التقنية أداة وفعلًا؟ كيف نعيش الزمن والإنسان والمرجعية؟
عندها يصبح العقل ليس فقط محفوظًا، بل فعّالاً، لا يُعطّل، بل يُنشّط. وعندها تتحول المقولة “العقل العربي مأزوم” إلى “العقل العربي ينتظر استيقاظ مفكر واعٍ”.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟