أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحي عباسي بن أحمد - تحوّل الله إلى أداة خطاب: قراءة في أزمة التمثيل الديني














المزيد.....

تحوّل الله إلى أداة خطاب: قراءة في أزمة التمثيل الديني


يحي عباسي بن أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 08:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المقدّمة
تعيش المجتمعات الإسلامية المعاصرة أزمة مزدوجة في الوعي الديني: أزمة في التمثيل وأخرى في الخطاب. فالله، الذي يفترض أن يكون محور التجربة الإيمانية ومصدر المعنى، تحوّل في الخطاب الديني إلى وسيط لغوي وسلطة رمزية تُمارَس باسم المقدّس لا من خلاله. هذه المفارقة أنتجت انزياحًا جوهريًا في البنية الخطابية للدين: من الإله كحضور وجودي مطلق إلى الإله كـ”أداة خطاب” تُسخَّر لتثبيت المواقف وتبرير السلط.
إن السؤال المركزي الذي يوجّه هذا البحث هو: كيف تحوّل الله من غاية للقول إلى وسيلة للخطاب؟ وما الذي يجعل اللغة الدينية نفسها تتحوّل إلى فضاءٍ لتشييء الإله بدل استحضاره؟

الإله من التجربة إلى الخطاب
كانت لحظة الوحي في أصلها تجربةً حيّة، علاقةً بين الذات البشرية القلقة والخطاب الإلهي الحي. غير أنّ التاريخ الديني ما لبث أن نقل الله من مجال التجربة إلى مجال القول؛ من الإله الذي يُخاطِب إلى الإله الذي يُتكلَّم عنه.
في هذا التحوّل، تحوّل الوحي من نداءٍ وجودي إلى نصٍّ تأويليٍّ، وأصبح المتكلّمون والفُقهاء هم الوسطاء بين الإنسان والمطلق. كما يشير ميشيل فوكو إلى أنّ "الخطاب ليس أداة بريئة، بل هو شكل من أشكال السلطة والمعرفة" ، وهو ما ينطبق تمامًا على الخطاب الديني الذي يَستدعي الله ليُحيل إليه السلطة نفسها.

إن "الحديث عن الله" أخذ مكان "الإنصات إلى الله". فكلّما ابتعد الإنسان عن التجربة الوجودية المباشرة، ازدادت الحاجة إلى وسطاء لغويين يُعيدون بناء الله وفق تصوّراتهم. بهذا المعنى، لم يعد الله حضورًا، بل أصبح منتَجًا لغويًا تتنازعه الخطابات.

السلطة الرمزية واستعمال الاسم الإلهي
في بنية الخطاب الديني، غالبًا ما يُستعمل اسم الله كـ”خاتمة للحوار” لا كـ”بداية للفهم”.
حين يقول الخطيب أو المفتي: "هذا ما يريده الله"، فإنّه لا يُعبّر عن الله بقدر ما يُغلِق أفق النقاش باسمه.
وهكذا يتحوّل الاسم الإلهي إلى علامة سلطوية، تمارس وظيفتها الاجتماعية والسياسية قبل أن تؤدّي وظيفتها الروحية.
بيير بورديو يرى أنّ اللغة ذاتها تحمل "رأسمالًا رمزيًا" يُستعمل لإنتاج الطاعة والهيمنة ، والخطاب الديني – بوصفه خطابًا مقدّسًا – يملك أعلى أشكال هذا الرأسمال.
فهو يربط المعنى بالقُدرة، ويجعل الإيمان نفسه أداة في يد المؤسسة.
ومن هنا تأتي المفارقة: إنّ الله الذي يفترض أن يكون مبدأ التحرّر من كل سلطة بشرية، صار هو المُبرِّر الأعلى لكل سلطة بشرية.
اللغة كصانعة للإله الخطابي
لا يمكن فصل تحوّل الله إلى أداة خطاب عن طبيعة اللغة ذاتها. فاللغة، كما يبيّن جاك دريدا، ليست مجرّد وسيلة للتعبير، بل هي بنية تُنتج المعنى وتحدّد ممكنات القول .
وبما أنّ المطلق الإلهي يتجاوز اللغة، فإنّ كلّ نطقٍ عنه هو بالضرورة تشييء له.
فحين نقول "الله يريد"، "الله يأمر"، "الله يغضب"، نحن نحصر اللانهائي في أفق المفردات البشرية.
وهكذا تُصاغ صورة الله وفق منطق اللغة لا منطق الغيب.
ومن هنا قال ابن عربي: "كلّ ما تصوّرْتَه بعقلك، فالله بخلافه" .
لكنّ الخطاب الديني الرسمي لم يحتمل هذا البُعد التجلّي، فاستبدل التجربة بالصيغة، والحضور بالحكم، والنداء بالخطبة.

من الحضور الإيماني إلى الغياب المؤسّسي
إنّ حضور الله في الخطاب لا يعني بالضرورة حضوره في الوعي.
فكلّما زاد تداول الاسم الإلهي في المنابر والإعلام، ازداد غيابه عن التجربة الداخلية للإنسان.
لقد صار الله الفاعل اللغوي الأكثر ذكرًا، والأقلّ حضورًا.
يُستعمل لتبرير القوانين، ولشرعنة القرارات، ولتحديد الهوية، لكنّه قلّما يُستَحضر كقيمة للتحرّر والرحمة.
بهذا المعنى، يعيش الخطاب الديني اليوم ما يمكن تسميته بـ"مفارقة التديّن الخطابي":
حيث يُستعمل الله لفرض الإيمان، لا لإلهام الإيمان.
ويُذكر اسمه لإسكات السؤال، لا لاستدعاء المعنى.
نحو استعادة الله كحضور وجودي
يقتضي تجاوز هذه الأزمة إعادة الله إلى أفق التجربة لا الخطاب.
أي أن يكون الإيمان حركة نحو الله لا وسيلة لتملّك اسمه.
فالمسألة ليست في "الحديث عن الله"، بل في "الإنصات له"، كما يقول مارتن بوبر في فلسفة الحوار:
"العلاقة الحقيقية مع الألوهة هي علاقة أنا – أنت، لا علاقة أنا – هو" .
ففي العلاقة الأولى يحضر الله، وفي الثانية يُستَعمل.
إنّ استعادة الله كحقيقة وجودية لا تمرّ عبر تفكيك النصوص فحسب، بل عبر تطهير الوعي من سلطوية اللغة التي حوّلته إلى أداة.
وهذا يقتضي خطابًا إيمانيًا جديدًا، لا يدّعي امتلاك الله بل يسير نحوه.
خاتمة تأملية
حين يتحوّل الله إلى أداة خطاب، يُختزل المطلق في وظيفة لغوية.
لكنّ الإيمان الحقيقي لا يقوم على "استعمال الاسم" بل على "الإنصات للصمت الذي يسكنه".
التحرّر من الاستعمال السلطوي لله لا يعني نفيه، بل إعادته إلى مكانه الأصلي: القلب.
فالله ليس موضوعًا يُستَعمل، بل معنى يُسكَن.
وحين يعود الله إلى التجربة، يتحرّر الخطاب من ذاته، ويعود الإيمان إنسانيًّا كما بدأ.

.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ردا على مقال : أخطاء بالقرآن لا تليق بكلام الله ل-مصطفى راشد ...


المزيد.....




- شاهد.. والد فتى فلسطيني أمريكي يروي لـCNN تفاصيل معاناة ابنه ...
- وزير الخارجية البحريني يستقبل رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية ...
- مسؤول أمني إسرائيلي: مواجهة التطرف اليهودي أو العنف الداخلي ...
- الآلاف من اليهود الحريديم يحتجون في القدس على التجنيد في الج ...
- آلاف اليهود المتشددين يتظاهرون في القدس رفضا للتجنيد الإلزام ...
- -لبرق الحمى عهد علي وموثق-.. فلسفة العهد في الشعر في صدر الإ ...
- العدالة الانتقالية في ضوء الشريعة.. رؤية تأصيلية
- أحدث تردد قناة طيور الجنة TOYOUR EL-JANAH TV.. على نايل وعرب ...
- أحدث تردد قناة طيور الجنة TOYOUR EL-JANAH TV.. على نايل وعرب ...
- مصر.. -حياد- المساجد يتصدر مشهد الانتخابات البرلمانية لـ-ضما ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحي عباسي بن أحمد - تحوّل الله إلى أداة خطاب: قراءة في أزمة التمثيل الديني