يحي عباسي بن أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 16:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة
منذ نزول القرآن الكريم والقلوب والعقول تتنازعه بين مؤمنٍ يراه المعجزة الكبرى، ومغرضٍ يحاول إخضاعه لمقاييسٍ بشرية محدودة. وقد ظهر مؤخرًا مقال منسوب لمن يصف نفسه بـ “عالم أزهري”، يزعم فيه أن القرآن الكريم يحتاج إلى تصحيح في التشكيل والتنقيط، وأن في آياته أخطاء لغوية ونحوية لا تليق بكلام الله.
مثل هذا القول ليس جديدًا، فقد ردّ عليه علماء العربية منذ قرون، لكن عودته اليوم تُحتّم وقفة علمية هادئة، تبين للباحث والقارئ كيف تنشأ هذه الشبهات، وكيف يُدحضها العلم واللغة والبيان.
القرآن أصل اللغة لا فرعها
أول خطأ في تلك المقالة هو أن صاحبها عكس العلاقة بين النحو والقرآن. فالنحو لم يكن معيارًا يُقاس به القرآن، بل وُضع أساسًا لفهمه وضبط قراءته. فالقرآن هو الأصل الذي استنبط منه النحاة قواعد العربية، وليس نصًّا خاضعًا لها.
وقد أقرّ سيبويه والفراء والزمخشري وابن جني أن القواعد النحوية وُضعت استقراءً من النص القرآني والشعر الجاهلي، لا العكس. فمحاكمة القرآن إلى قواعد لاحقة في تاريخ اللغة خطأ منهجي فادح.
حول التشكيل والتنقيط
ادّعى الكاتب أن التنقيط والتشكيل عملٌ بشري وقع فيه الخطأ، وأنه يجب إعادة النظر فيه.
وهذا جهل بالتاريخ اللغوي، لأن الرسم العثماني للمصحف هو الأصل المتواتر الذي كُتب به القرآن كما أنزل، دون تنقيط أو تشكيل، بينما أُضيفت العلامات لاحقًا لتيسير القراءة لا لتغيير النص.
فالضبط بالحركات والنقط لم يُنشئ معنى، بل نقل ما كان محفوظًا في الصدور. وبالتالي فقول الكاتب “إن القرآن فيه أخطاء بسبب التنقيط” باطل علميًا وعقائديًا، لأن الضبط لم يخلق النص بل خدمه.
الادعاء الأول: آية الموؤودة في سورة التكوير
قال الكاتب إن قراءة “سُئِلَتْ بأي ذنبٍ قُتِلَت” خطأ، لأن الله لا يسأل الموءودة عن ذنبها. والصواب عنده أن تكون “سَأَلَتْ”.
الرد: هذا سوء فهمٍ للبلاغة القرآنية، فالسؤال هنا سؤال توبيخي يراد به إظهار بشاعة الجريمة، لا الاستفهام عن سببها. كأنّ الموءودة تُسأل أمام الخلق ليُفضح قاتلوها. قال الزمخشري في الكشاف: «سُئلت سؤال توبيخٍ لقاتليها، أي بأي ذنبٍ قُتلت هذه البريئة؟».
فالآية من أبلغ ما قيل في التوبيخ، وليس فيها أي خطأ لغوي أو منطقي.
الادعاء الثاني: “لا ينال عهدي الظالمين”
زعم الكاتب أن “الظالمين” يجب أن تكون “الظالمون” لأنها فاعل للفعل “ينال”.
والرد أن “الظالمين” في الآية مفعول به لا فاعل، لأن الفاعل هو “عهدي”، والمعنى: عهدي لا يناله الظالمون.
هذا من أبسط قواعد النحو التي يجهلها من يهاجم النص، إذ قلب الفاعل مفعولًا، فبنى على فهمٍ معكوس حكمًا باطلًا.
الادعاء الثالث: “إن رحمة الله قريب من المحسنين”
يقول الكاتب إن الصواب “قريبة” لأن “رحمة” مؤنثة.
غير أن التأنيث في العربية نوعان: حقيقي ومجازي. و"الرحمة" مؤنث مجازي، يجوز أن يوصف بالمذكر أو المؤنث. وقد جاء في لسان العرب: “قد يُذكّر الخبر مع المؤنث المجازي إذا لم يُرد به الذات الحقيقية”.
بل إن استعمال التذكير هنا أفاد التهويل والتعظيم، وكأنه يقول: قرب رحمة الله أمر عظيم حاضر لا يفصله زمن ولا بعد.
الادعاء الرابع: “وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا”
زعم الكاتب أن في الآية خطأ في العدد، لأن “أسباطًا” جمع، والعدد “اثنتي عشرة” مؤنث.
والصواب أن هذه الآية بلغت غاية الفصاحة، لأن "أسباطًا" ليس مضافًا مباشرًا للعدد، بل بدل أو بيان، والعدد هنا جاء مؤنثًا لأن المقصود “القبائل”، وهي لفظة مؤنثة ضمنًا، كما ذكر الفراء والزمخشري.
فلا خطأ، بل دقة بيانية في التعبير عن تعدد الجماعات لا الأفراد.
الادعاء الخامس: “هذان خصمان اختصموا في ربهم”
يقول الكاتب إن الفعل يجب أن يكون “اختصما” لا “اختصموا”.
والرد أن هذا من أساليب اللغة البلاغية في الجمع بعد المثنى، إذ يراد بالخصمين طائفتان عظيمتان من الناس، لا شخصان. فاستعمال الجمع لتغليب الكثرة أسلوب معروف في العربية، قال ابن هشام: «يجوز في المثنى أن يُردّ ضميره جمعًا إذا أريد به العموم أو الجنس».
وهذا المعنى أعمق في البلاغة القرآنية من قصره على مثنىٍ حقيقي.
الادعاء السادس: “والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة”
اعتبر الكاتب أن كلمة “المقيمين” يجب أن تُرفع لتتبع ما قبلها.
لكن العلماء أجمعوا أن نصبها على المدح، وهو أسلوب عربي فصيح يُراد به التعظيم والتنويه، كقولهم: مررت بالرجال الكرامَ المخلصينَ.
قال الزمخشري: «نصب المقيمين على المدح، كأنك قلت: أخص المقيمين بالصلاة بالثناء».
فما عدّه الكاتب خطأً هو في الحقيقة وجه بلاغي يُدرَّس في علوم العربية.
الادعاء السابع: “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون”
يرى الكاتب أن استعمال المضارع “فيكون” خطأ، والصواب “فكان”.
وهذا من الجهل بدلالة الأزمنة في البيان القرآني؛ فالمضارع هنا يفيد الدوام والاستمرار، أي أن أمر الله "كن" دائم النفاذ في كل خلق، وليس حدثًا ماضيًا واحدًا.
قال الفخر الرازي: «جاء بالمضارع للدلالة على أن القدرة الإلهية مستمرة لا تنقطع».
فلا خطأ في الإعراب، بل روعة في التصوير.
الادعاء الثامن: “تؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه” (سورة الفتح)
قال الكاتب إن الضمائر هنا مضطربة: لمن تعود؟
وقد أجمع المفسرون أن “تعزروه وتوقروه” تعود على النبي ﷺ، و“تسبحوه” على الله تعالى، والمعنى واضح من السياق.
ولا اضطراب في الضمائر في العربية القرآنية، إذ يجوز التفريق بين مرجعين مختلفين متى اتضح السياق.
فمن الخطأ اعتبار كل اختلاف في العائد نحويًا "ارتباكًا"، بل هو من تمام البلاغة في الجمع بين المقامين: مقام النبوة والعبودية.
الادعاء التاسع: “فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة”
قال الكاتب: لماذا قال “كاملة” وهي واضحة؟
والجواب أن التوكيد في اللغة القرآنية ليس حشوًا بل بيان يقينيّ، إذ يُراد به نفي أي توهمٍ في العدد، وتأكيد وجوب التمام في العمل.
قال أبو حيان: «وصف العشرة بالكمال توكيدٌ لوجوبها، لا لبيان العدد».
فهي زيادة في البلاغة لا في اللفظ.
الادعاء العاشر: “والله ورسوله أحق أن يرضوه”
يقول الكاتب: لماذا لم يقل “يرضوهما”؟
والجواب أن حذف الضمير الثاني لشدة ارتباطهما في المقصود، فالرضا برسول الله من رضا الله، كما في قوله تعالى: “من يطع الرسول فقد أطاع الله”.
ولذلك جاء التعبير بالمفرد إشارة إلى وحدة الغاية لا اتحاد الذات، وهو من أبلغ أساليب العربية في حذف التكرار لدلالة المعنى.
نقد الأسلوب والمنهج
بعيدًا عن التفاصيل اللغوية، فإنّ المقال محلّ النقد كُتب بأسلوبٍ إنشائي مشحون بالعاطفة، يخلو من المنهج العلمي، وفيه أخطاء إملائية ونحوية فادحة من كاتبه نفسه.
ومن العجيب أن يتحدّث عن تصحيح القرآن وهو لا يلتزم بقواعد العربية الأساسية في مقاله. كما أنه لم يستند إلى أي مصدر لغوي أو تفسيري، مما يجعل كلامه رأيًا شخصيًا لا يعتدّ به في ميزان البحث العلمي.
خاتمة
القرآن الكريم لا يُقاس بقواعد اللغة، بل اللغة تُقاس به، فهو ميزانها وأصلها. وكل ما عدّه الجاهلون "أخطاء" هو في الحقيقة وجوه من البلاغة والإعجاز التي تعجز عنها القواعد الجامدة.
فالقرآن كلامٌ تحدّى العرب في أوج فصاحتهم، ولو كان فيه خطأ واحد كما زعم هؤلاء لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، لكنهم لم يجدوا.
قال تعالى:
“ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.”
ولذلك يبقى مثل هذا المقال شاهدًا لا على عيبٍ في القرآن، بل على جهل بعض من يظنون أنفسهم أعلم من لغتهم ودينهم.
ومن الواجب على الباحثين والقرّاء ألا ينساقوا وراء كل صوتٍ غريب يدّعي “تصحيح كلام الله”، فالنور لا يُصلَح، والحق لا يُراجَع، وإنما يُتَدبَّر ويُتَعلَّم.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟