محمد وهاب عبود
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 17:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د. محمد وهاب عبود
لم يَعُد الذكاء الاصطناعي ترفاً تكنولوجياً يُناقش في أروقة المؤتمرات المغلقة. لقد أمسى اليوم سلاحاً معرفياً هائلاً في جعبة النخب السياسية والمالية، وأداة مُحكمة لإعادة صياغة عالمنا. تستخدمه الجهات المسيطرة ببراعة فائقة ليس فقط للتأثير فينا، إنما لخلق واقع كامل يتوافق مع مصالحها الأزلية.
لقد تجاوزت هذه القوى أساليب الدعاية التقليدية وأبواقها القديمة. هي اليوم تنخرط فيما يمكن تسميته "هندسة السرديات" العميقة. تُحلل الخوارزميات الذكية مليارات البيانات الشخصية، لا لتفهم ماذا نشتري، ولكن لتفهم كيف نفكر، وماذا نخشى، وبماذا نحلم. بهذا الفهم العميق، تُغذّي وعينا الجمعي بتيار مستمر من محتوى مُصمم بدقة، يُرسخ رؤيتها للعالم ويُلمّع صورتها، وفي غضون ذلك، يُقصي كل صوت مخالف إلى غياهب النسيان الرقمي.
يتصاعد الخطر حين ننتقل من التوجيه الخفي إلى التزييف المُعلن. نحن نشهد بزوغ "الواقع المُصطَنع" كأداة سيطرة. تقنيات التزييف العميق قادرة على خلق أحداث لم تقع، وتصريحات لم تُقل، ووضع كلمات في أفواه الخصوم أو المؤيدين. تستطيع جيوش من الحسابات الآلية، المدعومة بذكاء اصطناعي متقدم، أن تصنع إجماعاً زائفاً حول قضايا محورية، وتُشعل نقاشات تُغرق الأثير الرقمي بضجيج مُفتعل. تغدو الحقيقة ذاتها مادة طيّعة في أيديهم، يُكيفونها وفق أهدافهم المرسومة سلفاً.
ما الغاية النهائية من هذا الجهد الجبار؟ إنها ترسيخ الهيمنة. الهدف هو ضمان استدامة الأنظمة التي تخدم مصالح الأقلية النافذة. هم لا يبيعوننا فكرة، هم يفرضون علينا واقعاً مُكيفاً يُبرر نفوذهم ويجعل أي بديل آخر يبدو فوضوياً أو مستحيلاً. هذا هو الوجه الجديد للسلطة في قرننا: سلطة خفية، متغلغلة، وخوارزمية.
نحن نقف اليوم عند مُنعطف حاسم. الخط الفاصل بين الحقيقي والمُختلق يتآكل بسرعة. الوعي الجمعي يتعرض لحصار مُمنهج. المواجهة لم تعد مع الآلة، هي مع من يمسك بزمام هذه الآلة. نحن بحاجة ماسة إلى مَحْو أمية رقمي حقيقي، وإلى أُطُر أخلاقية صلبة تُلجم هذا الطوفان. معركة الحفاظ على الواقع قد انطلقت للتو.
#محمد_وهاب_عبود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟