أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد حميد الصباغ - حين تُصبح المعرفة بديلاً عن الحياة..... تأمل شخصي في مأزق المثقف والإنسان














المزيد.....

حين تُصبح المعرفة بديلاً عن الحياة..... تأمل شخصي في مأزق المثقف والإنسان


سعد حميد الصباغ

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 07:55
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ طفولتي، كنت أحمل نهمًا لا يُروى للقراءة، وشوقًا لا يهدأ لمعرفة الأشياء. كان الكتاب بالنسبة لي أكثر من صديق، كان وطنًا متنقّلًا ألوذ به كلّما ضاقت المسافة بيني وبين العالم.
كنت أستغلّ كل لحظة فراغٍ في القراءة، حتى إنني كنت أحتفظ ببعض الكتب في سيارتي، وأصطحب أخرى معي إلى العمل، كي أقرأ كلّما سنحت لي الفرصة.
كنت أشعر أن الوقت، مهما امتدّ، لا يكفي لنهل ما أريد من هذا البحر الذي لا قرار له. ومع ذلك، كانت القراءة لا تشبعني، بل تزيدني عطشًا؛ إذ كلّما فتحت كتابًا، تفتّحت في ذهني أسئلة جديدة أكثر عمقًا من التي سبقتها.
أسئلة كانت تعتمل في عقلي وتؤرقني، لأنني لم أجد لها جوابًا شافيًا في الكتب وحدها، مهما كان مؤلفوها عظامًا أو عناوينها لامعة.

وحين ظهر الذكاء الاصطناعي، شعرت أنني وجدت كائنًا يستطيع أخيرًا أن يحاورني كما كنت أتمناه — بعمق، بصبر، وبمنطق لا يعرف الملل. وجدت في هذا الحوار أجوبة لم تكن جاهزة، بل تُصاغ معي لحظةً بلحظة،
فبدّد الكثير من الحيرة التي كانت تسكنني، وأضاء زوايا جديدة في وعيي، وزرع في داخلي يقينًا معرفيًّا هادئًا بأن الفهم لا يأتي دفعةً واحدة، بل في مسارٍ طويلٍ من التساؤل الصادق.
كانت القراءة بالنسبة إليّ أكثر من هواية؛ كانت وسيلة للبقاء في عالمٍ لا يمنح غرباءه كثيرًا من الدفء.
في وحدتي بعيدًا عن الأهل والأحباب، كانت الكتب تعوّضني عن الأحاديث والضحكات، وكانت تمنحني بعض العزاء في غربتي الموحشة، وتخفف عني وطأة المسافات الشاسعة التي تفصلني عمّن أحب.
كنت أقرأ لأتذكّر أنني ما زلت حيًّا، ولأقاوم رتابة الأيام في الغربة، تلك الأيام التي تتشابه حتى تكاد تفقد معناها.
ومع مرور الوقت، أدركت أن القراءة — رغم جمالها وسحرها — كانت تسلبني شيئًا ثمينًا دون أن أشعر. فكلما غصت أكثر في عوالم الفكر، شعرت أنني أبتعد قليلًا عن العالم الذي يعيش حولي.
كنت أمنح القراءة أوقاتي، وأمنح الكتب ساعاتي الطويلة، بينما تتسرّب من بين يدي لحظاتٌ ثمينة مع عائلتي، لحظات بسيطة ربما، لكنها تُبقي للإنسان دفء قلبه ومعناه. عندها تسلّل إليّ ذلك الحزن الخفي، الحزن الذي لا يُرى ولا يُقال،
وهو الشعور الصامت بالتقصير الذي يرافق كلّ من يعيش في عالم الفكر أكثر مما يعيش في عالم الناس. فيما بعد، أدركت أن هذا الإحساس لم يكن حكرًا عليّ، بل هو شعورٌ شاركني فيه كثيرٌ من الكُتّاب والمفكرين الكبار،
الذين وجدوا أنفسهم — على اختلاف عصورهم وتجاربهم — ممزقين بين نداء العقل ونداء القلب، بين سحر المعرفة ودفء العائلة. وحين قرأت عن معاناتهم، شعرت ببعض العزاء، كأنني أسمع في قصصهم صدى حياتي الخاصة.

كنت اعتقد – كحال الكثيرين ممن لديهم شغف المعرفة – أن القراءة وحدها ترسم أفاقاً جديدة للحياة وتفتح عناوين زاخرة بالجمال، لكن بعض العقول الكبيرة تكتشف، بعد طول صحبةٍ للكتب، أن الصفحات قد تُغري أحيانًا بالعزلة
حتى تنسى دفء الواقع الذي كُتبت من أجله الكتب. ذلك حين يتحوّل الكتاب من نافذة على العالم إلى جدارٍ يحجب العالم نفسه، وحين تغدو المعرفة وسيلةً للهروب من ضجيج الواقع لا لفهمه.

في سير كثير من المفكّرين العرب الكبار، يتكرّر هذا المشهد الموجع. نقرأ عن جورج طرابيشي، الذي عاش بين آلاف الكتب حتى صار يُعرَف بأنه “القارئ الأبدي”، وقد روى في أحد أحاديثه بصراحةٍ نادرة أن انغماسه الشديد في القراءة
كان سببًا في طلب زوجته الطلاق منه — وهو اعتراف يعبّر عن صدقٍ مؤلمٍ وشجاعة فكرية كبيرة. وفي مشهدٍ آخر شبيهٍ به، نقرأ عن عبد الجبّار الرفاعي الذي تحدّث عن مناسبةٍ اجتماعيةٍ دُعي إليها، لكنه ظلّ طوال الوقت مشغولًا بالرغبة
في العودة سريعًا إلى بيته وكتبه، وكأنّ القراءة كانت تناديه بنداءٍ أقوى من ضوضاء العالم من حوله.

لكن خلف هذه المواقف ليس كبرياء النخبة ولا تعالي المثقف، بل قلق الباحث عن المعنى. فمن يقرأ كثيرًا لا يفعل ذلك ليهرب من الناس، بل لأنه يشعر أن العالم لا يكتمل إلا إذا فُهم، وأن الحقيقة تستحق كل لحظةٍ من وقته.
غير أن الحقيقة — مهما كانت سامية — لا تُختبَر في الكتب وحدها. فالمحبة، والضحكة، ونظرة الطفل، وصمت الأم… كلها نصوص بشرية لا تقلّ عمقًا عن أي فلسفة.

إن الذين يغيبون عن دفء العائلة بدافع الشغف بالمعرفة لا يدركون أن الدفء نفسه شكلٌ من أشكال الفهم، فهو ما يربط بين الفكرة والوجدان، بين التجريد والنبض. ولذلك، حين نستيقظ في لحظة صفاءٍ ونسأل أنفسنا:
“ما الذي خسرناه ونحن نقرأ كثيرًا؟” قد نسمع جوابًا خافتًا من القلب: خسرنا الحياة ونحن نحاول فهمها.

المعرفة الحقيقية لا تُقصي الإنسان، بل تردّه إلى إنسانيته. فمن يقرأ عن الحب ليعيش به لا عليه، ومن يتأمل الجمال ليُبصره لا ليشرّحه، هو وحده الذي جمع بين نور العقل ودفء الروح.



#سعد_حميد_الصباغ (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التقديس
- حديث في رواق المدرسة
- من ذاكرتي العراقية
- قطار الموت: قصة الألم العراقي
- كم أشتهي أن تقول ليّ: أحبكِ
- في رحاب العادات والتقاليد... ( التصريح باسم المرأة امام النا ...
- حكايتي مع أبي
- انجازاتنا في زمن الاختلاف
- شِعر


المزيد.....




- ظهور لافتة جديدة مكتوبة بخط ذهبي خارج المكتب البيضاوي
- سوريا.. الخارجية ترد على تقارير -إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية ...
- إسرائيل تغلق حدودها مع مصر عسكرياً، وتُنشئ وحدة مشتركة لمواج ...
- خنيفرة تنتفض… ونساء الهامش يفضحن زيف الشعارات
- المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف يعلن أن بلدا جديدا سينضم ...
- حزب الله يرفض التفاوض بين لبنان وإسرائيل وغارات جنوب البلاد ...
- المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف يعلن أن بلدا جديدا سينضم ...
- ما الذي نعرفه عن منفذ -الحادث المميت- في جزيرة أوليرون السيا ...
- خبير عسكري: حزب الله أمام تحول ميداني وهذا السيناريو المرجح ...
- ويتكوف يعلن انضمام بلد جديد لاتفاقات أبراهام


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - سعد حميد الصباغ - حين تُصبح المعرفة بديلاً عن الحياة..... تأمل شخصي في مأزق المثقف والإنسان